السيمر / الخميس 26 . 10 . 2017
صالح الطائي
الشيخ الحكيم عبارة ألفناها في موروثنا، حتى كأن أجدادنا قصروا الحكمة على من شاخ من البشر، وانحنى ظهره، ويبست عروقه، وعركته تجارب السنين، وأوغل في تقصي صفحات القديم، وتجشم عناء السفر في تجارب البشر، وصاحَبَ المعاناة والقهر، وسكن وديان المعرفة؛ إلى أن شاخ قلبه ورأسه وخارت قواه، فلم يعد قادرا على نقل خطاه، واكتفى بنقل رؤاه التي أدهشتهم بعباراتها الفخمة ومعانيا الضخمة وموادها الدسمة.
وعلى مر التاريخ كان الحكماء نادرة، فهم أقل كثيرا من جميع أنواع البشر الآخرين من حاملي المعرفة، وخائضي الجدال، وصولا إلى طالبي العلم، ثم البسطاء والسذج والعامة. أما حكمتهم فتعالت عن الإسفاف والهزال؛ الذي تداوله الناس لتشهد لهم بالتوحد والتجرد والنبوغ.
كان ذاك يوم كانت المعلومة أعز من لبن العصفور وأندر من الغراب الأبيض، تُقطع لأجلها الوهاد، وتُنهك الجياد، أما اليوم في زمن الحاسوب والانترنيت فقد اجتمعت كل كتب ومكتبات الدنيا ووضعت بين أيدينا ننهل منها نبوغ العلم وسماحة الحلم وجميل الشمائل وحتى الصواعد والنوازل، ويعني هذا أن عبئا ثقيلا رفع عن كاهلنا فبسطت أمامنا أرض البحث والكتابة كما لم تكن في أي يوم من أيام الدنيا السالفة.
بمثل هذه العطاءات فُتحتْ أبواب المعارف أمام الراغبين لينهلوا منها ما يحبون، فيكتبون ويدونون ما يرقى لأن يتماهى مع حكمة الأولين في سالف السنين، ولم يعد مستغربا أن يقابلنا فتى غريرا أو شابا عزيزا وهو يجترئ حكمة متعالية تُظهره أكبر من عمره بعشرات السنين، فهو ليس على الإبداع بظنين.
من بركات هذا العطاء، برز شباب يستحقون الثناء، كان عاصم غازي الأديب الواسطي اللبيب صاحب الخلق الرفيع، والحرف البديع واحدا منهم، انبرى ليسطر لنا (أبجدية صراع) غيمة تنث ندى وربيعا في سماء حياتنا تمتد على مدى (82) أيقونة دهشة تصيبك بالحيرة إلى حد الانبهار والتعجب، بل إن بعض جملها تشعرك برعشة وكأنك تقف على أرض يهزها الزلزال، لتُساقط رطبا جنيا على حبال الغرابة، في الأقل هذا ما شعرت به عند أول لقاء لعيوني مع صفحاتها، وكيف لا أهتز دهشة، وأنا أغوص في وجدان نصه الباذخ:
وحالما انتهت المعركة
وبدأت راياتنا ترفرف
كان نصف بنطال صديقي
يرفرف أيضا
بعدما كان قد منح ساقه عكازا للوطن
لا تكترث يا صديقي فشموخ النخيل يتطلب ساقا واحدة!!
كيف لي أن أشعر بهدوء البال وأنا أكاد أسمع حشرجات ذاك الفتى الغريق الذي قال عنه:
لا تضعوا الثلج على جثمانه
فقد رحل غريقا
أخشى أن يذوب الثلج ويغرق ابني مرة أخرى
هكذا أوصتهم والدة الغريق في المغتسل
قبل أن تغرق بماء عينيها!!
لقد اقتنص عاصم غازي لقطات حياتية غريبة التوصيف ممكنة التوظيف ليحولها إلى نصوص تشعر بسخونتها حينما تقع حروفها على عينيك:
أمنيتي أن نكون كالآخرين
علم بلادي يُرفع لنفتخر به
لا أن يلف جثامين أولادنا
في كل صباح
أعيدوا العلم إلى وظيفته
فمكانه فوق الساريات
لا فوق الجثامين
لقد مزج عاصم بين كينونة الموجودات ووحدة الكون ليعبر عن قلقه الدفين واعتراضه السري على ما يدور من حوله:
وكلما لمحت الخطوط تشوه سطحيهما
استغرب تضاريس جدارنا وجبين أبي
أيعقل أن للفقر معولا؟!
لم يقف عاصم عند تلك الأيقونات التي رسمها بعناية عاشق وصبر حكيم، بل سرح خياله في باقة من (المفاهيم) التي أراد من خلالها أن يعبر عن مشاعره التي هي مشاعر جيل كامل من شبابنا الذين حولتهم المأساة إلى حكماء. وقد وجدت ضمن مفاهيمه قوله:
الشهداء نجوم تدفن نفسها خشية السقوط
الحرية أن تكون قادرا على الصراخ دون أن تتهم بالجنون
التسامح عكازنا الذي فقدناه فسقطنا
التابوت شجرة أماتها العطش فانتقمت لنفسها من الإنسان
المنافق ثعبان استطاع التأقلم على العيش بطبيعة بشرية
السلام رغيف وعائلة وسقف
الموت أن لا تحيا كما تحب
صدرت هذه النصوص عن دار أس ميديا العراقية بغلاف جميل من تصميم سرمد محمد، بتسع وتسعين صفحة من حجم نصف أي فور، وهي باكورة انتاج هذا الشاب الواسطي.
أنا لا أتمنى التوفيق والنجاح فحسب لأديبنا الشاب عاصم غازي، بل أتمنى معه أن يحافظ على هذا الرقي الباذخ أو يقدم ما هو أفضل، وأملي كبير به لأنه شاب طموح واعد، وقد تحول إلى أنموذج لشباب آخرين.