السيمر / الجمعة 03 . 11 . 2017
عبد الله بن عمارة
«المثقف المزيف هو قبل كل شيء مثقف مباع»
جان بول سارتر
في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «مهرِّبُو التاريخ» (الصادر عن منشورات «فرانز فانون») يتطرق الروائي رشيد بوجدرة الى فئةٍ من المثقفين الجزائريين تعمل من خلال إنتاجاتها على تزييف مُمنهج لتاريخ بلادها أساسُه تجميل صورة الاستعمار والحنين إليه، ليس فقط بالتعتيم على جرائمه، وإنما أيضاً بالاحتفاء بعملائه وتشويه مقاوميه.
بوجدرة سمّى مجموعة بعينها من المثقفين من روائيين وسينمائيين (أبرزهم بوعلام صنصال، علي بومهدي، محمود زموري، كمال داود وياسمينة خضرا)، وعناوين أعمالهم التي كرّسوا من خلالها «نزعة تلفيقية» مدفوعة بعقد «كره الذات» و«مُركَّب التبعية» التي سكنت بعض أبناء المستعمرات، مُستحضراً في هذا الصدد ما كتبه فرانز فانون حول الاستلاب الثقافي، ونظرية ابن خلدون عن «ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب».
في حقيقة الأمر سلوك هذا الصنف من المثقفين، الذي يقرأ واقع مجتمعه تاريخياً وأنتروبولوجياً من خلال قراءة المستعمر له (اقرأ كتاب «جزائر الأنتربولوجيّين» لفرانسوا بويون وفليب لوكاس)، كان نتاجاً للسياسة الثقافية التي اعتمدها الاستعمار منذ السنوات الأولى لبداية غزوه الجزائر، من أجل ترسيخ مضمون الخطاب الكولونيالي القائم على أساس «المهمة التحضيرية والتحديثية للاستعمار». هذا الخطاب، تشكّلت من خلاله، نخبة من المثقفين التي لم تتبنَّ مقاربات الاستعمار فحسب، وإنما نظَّرت لضرورة وجوده، مقابل ترسيخ الرؤية التي تقول بانعدام أي حضورٍ تاريخيٍّ أو حضاريٍّ يمنح شعبها الحق في المطالبة بأمةٍ مستقلة عن فرنسا (فرحات عباس، بن جلون …). التحرّر من الشوائب التي ألحقها الاستعمار بتاريخ البلاد المُستَعمرَة، أو كما عَنْوَن الكاتب والمناضل محمد الشريف ساحلي عمله الرائع «تخليص التاريخ من الاستعمار»، هي من الشروط الجوهرية لتشكيل وعيٍ ثوريٍّ يجعل من فكرة التحرر من الاستعمار متاحة وقابلة للانتشار، لأن اقتناع المُتلقي بها يكون مرتبطاً بمدى تخلّصه من ما لقَّنته إياه المنظومة التعليمية الاستعمارية، عن دور فرنسا الضروري لنقل التحضر لبلادٍ مقفرةٍ تسكنها قبائل متوحشة لا تملك أيّ قيم إنسانية، أو عن محاربتها لقوى ظلامية (مقاومة الأمير عبد القادر نموذجاً) لم ترفع السلاح على فرنسا إلا بدافع ديني متعصب (ذهب أحد ورثة هذه المدرسة وهو الروائي بو علام صنصال إلى حد تشبيه عمليات الثورة التي استهدفت المصالح الاستيطانية في العاصمة الجزائر سنة 1957 بعملية الدهس التي تبنتها «داعش» في نيس الفرنسية السنة الماضية). لذا لم يكن صدفة أن تجد الفكرة الثوريّة التي أطلقها مصالي الحاج (الذي لم يتمكن من إكمال دراسته) في عشرينيات القرن الماضي، صداها في أوساط المهاجرين الجزائريين، شبه الأميين في فرنسا، الباحثين عن لقمة عيشٍ لأهاليهم، والذين لم «يتشرّفوا» بالجلوس على مقاعد الدراسة ليتعرّفوا على «فرنسا الأنوار».
نزعة «مراجعة التاريخ» وثقافة الهزيمة
كتب بوجدرة عن الروائي علي بومهدي بصفته أول من روّج لـ«نظرية» تقول إن الجنرال شارل ديغول هو من تكرّم بمنح الاستقلال للجزائر، من خلال عمل أدبي أصدره في بداية السبعينيات، (وبالمناسبة كان آخر من قام بترداد هذه «النظرية» هو أمير إماراتي)، الخطير هنا ليس طمس تضحيات مقاومة «جيش التحرير الوطني» التي جاءت ضمن سياق تراكمي لوعيٍ ثوريٍّ تقدميٍّ بدأ من «نجم شمال إفريقيا» في 1926 وصولاً إلى الثورة الجزائرية في 1954 فحسب، وإنما تكريس القراءة التلفيقية للتاريخ وهذا يُحيلنا على نزعةٍ «مراجعاتيةٍ» لتاريخنا بدأت تُبعث من جديد، يتمثل مضمونها في تقييم تجاربنا حسب الرؤية التي تقتضيها المصلحة الاستعمارية وتستعمل في ذلك أساليب إيديولوجية واضحة على رأسها قراءة تلك التجارب في غير سياقها، تعظيم أخطائها وصولاً للتقليل من شأن إنجازاتها، وهي ليست مُقتصرة بالتأكيد على تجميل صورة الوجود الاستعماري في الحالة الجزائرية، إنما أصبحت أسلوبَاً مُعتمداً تتّبعه أقلام معروفة في الجرائد والمؤسسات البحثية ذات التمويل الخليجي، نجدها مثلاً تحتفي بالليبرالية والحرية في الفترة الملكية في مصر والعراق وتحاول بكل ما أوتيت من «قوة تلفيقية» نسف إنجازات جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وهي أيضاً نزعة مرتبطة بالمثقف ذي السلوك النفسي الانهزامي الذي يسقط أمام صدمة الهزيمة العسكرية، فبدل أن يضعها في إطارها الطبيعي، يُحلّل نقاط الضعف والقوة، ويُعبّئ مجتمعه من أجل التحضير لمواجهة أخرى، نجده يستسلم وينضم إلى خندق عدوه، أو يأخذ أسبابها «الهزيمة» لنقاش ثقافوي، يضع مثلاً خروج الأمة من تأخرها الثقافي واستيعابها لمضامين الحداثة، كشرط أساسي ووحيد لانتصارها على العدو، أو حتى يرجعها إلى خلل متأصّل في الشخصية العربية، يمكن هنا أن نذكر نموذج أحمد بوضربة الذي ارتضى لنفسه دور الوسيط، أو المُخبر المحلي كما يسمِّيه إدوارد سعيد، الذي ينقل رغبات الفرنسيين ومبررات مشروعهم الى أبناء بلده، عند سقوط مدينته الجزائر سنة 1830، ويَجْهَد لإقناعهم باستحالة مواجهة أمة قوية ومتحضرة كفرنسا، استفاد بعدها من منصب رئيس للجنةٍ لإدارة المدينة، نصّبها الغزاة، ضمّت بعض الأعيان الذين وجدوا في الاستعمار فرصة لنيل المكاسب والاغتناء (مع العلم أن بلاده قد أفشلت حملات إسبانية كبرى أهمها سنة 1541 و1775 كان يمكن، لو نجحت، أن تجعل مصير الجزائر مشابهاً لبلدان أميركا اللاتينية). هذا السلوك نجده يتكرر أمام صدمات هزائم أخرى في منطقتنا من 1967 مروراً باحتلال بيروت وصولاً إلى سقوط بغداد، وكما سفَّه الأمير الشاعر عبد القادر الجزائري بمقاومته، ثقافة الهزيمة التي حاول بوضربة وأترابه من المثقفين التابعين زرعها في القرن التاسع عشر، فإن ثقافة المقاومة ظلت تعيد إنتاج نفسها في لبنان والعراق وسوريا في مواجهة «ثقافة ما بعد 67» الانهزامية.
الإنسانوية ووهم التعايش
انتقاد بوجدرة في كتابه لتبنّي الروائي كمال داود لفكرة «إعادة الاعتبار» لألبير كامو، المولود في الجزائر، من خلال عمله الأدبي الأخير، ولرواية ياسمينة خضرا (اسم مستعار للكاتب محمد مولسهول) بعنوان «فضل الليل على النهار»، جاء من منطلق محاولتهما أولاً التعتيم على حقيقة العلاقة القائمة بين سكان الجزائر في الفترة الاستعمارية، بين مستوطنين من أصول أوروبية ويهودية (أصدرت الإدارة الاستعمارية مرسوم كريميو سنة 1870 الذي منح لليهود الجزائريين الجنسية الفرنسية)، يملكون كل مقدرات البلاد الملحقة باقتصاد المتروبول، وبين «المسلمين الجزائريين» أو «الانديجان/الاهالي» الغارقين في الفقر والجهل والتخلف، وثانياً لإحياء فكرة «التعايش بين كل أبناء الجزائر».
ليس أمراً معقداً كشف الوهم الكامن وراء سردية التعايش هذه، لأنه يكفي أن نعرف أنه لا يتم استحضار أسماء الرفاق من ذوي الأصول الأوروبية الذين اختاروا خندق الثورة الجزائرية سائرين على درب جان بول سارتر، وبعضهم حمل السلاح الى جانبها واستُشهد كهنري مايو وفرناند ايفتون وموريس أودان وغيرهم، إنما ما يهم رواد التعايش هو ألبير كامو الذي لم يكن مستعداً للحظة أن يخسر وضعه كـ«جزائري» من الدرجة الأولى ليتساوى بباقي «الجزائريين المتوحشين». الهوية الجزائرية الحقيقية إذاً متعلقة بالموقف من الاستعمار والمقاومة، فهي لفظت المسلمين الحَرْكَي (العملاء) وضمّت أوروبيين، وجعلت من فرانز فانون المارتينيكي أيقونةَ لها، هذا هو التعايش الحقيقي، وليس تلك المحاولات البائسة التي قادها بعض المثقفين الجزائريين بعد أكثر من سنة من اندلاع حرب التحرير بخطاب إنسانوي باسم «الأخوة الجزائرية» يدعو للهدنة واللاعنف، وهي ذات اللغة التعايشية التي نسمعها في فلسطين اليوم ويتم من خلالها الترويج للتطبيع ونبذ مشاعر الرفض لكيانٍ قام على الإبادة والنهب باسم المساواة والتسامح، وهي بالمناسبة اللغة التي كتب بها ياسمينة خضرا رواية «الهجوم» والتي حوّلها المخرج اللبناني زياد دويري إلى فيلم صوّره في «إسرائيل». الطريف أن الكاتب أيضاً، مثل زميله اللبناني الذي «شرب حبّ فلسطين مع حليب أمه»، اعتبر روايته دفاعاً عن القضية الفلسطينية، فهو لا يصفق للفلسطينيين كما قال، لكنه يدافع عنهم بطريقة ذكية.
عندما تصدر هذه اللغة الإنسانوية عن المثقف الغرباوي، على حد تعبير هادي العلوي، أو «الانديجاني الجديد» كما كان يُسميهم رضا مالك، بشكل انتقائي، فتغيب عن اليمن التي قضى فيها آلاف الأطفال بسبب الكوليرا أو القصف، وتحضر بحدة عندما يتعلق الأمر بدول معادية لأميركا كفنزويلا (بمناسبة زيارة نيكولاس مادورو الجزائر مؤخراً تطوّع بعض هؤلاء للتنديد بها ودعوة الجزائريين للاقتداء بالشعب الفنزويلي الثائر ضد الديكتاتورية) أو كوريا الشمالية، فهذا يعني أن هذا المثقف المُزيّف التّابع، الذي يبيع سحنته واسمه العربي للسيد الغربي، فيظهر في الإعلام الفرنسي كنسخةٍ عربية عن «نجوم الثقافة الفرنسية» كبرنار هنري ليفي (المولود في الجزائر بالمناسبة) أو ايريك زمور وغيرهم، يعرف جيداً موقعه ودوره، وأنّ عليه أن يكون بقلمه ورأيه في خندق الاستعمار وأدواته في منطقتنا، (يعرف بوعلام صنصال مثلاً، الذي زار القدس وارتدى القلنسوة اليهودية أمام حائط المبكى، أنّ عليه عدم انتقاد دول الخليج التي تُجاهر إسرائيل بتحالفها معها، ولا يجد الليبرالي ياسمينة خضرا حرجاً في قبول جائزة نظام تابع ورجعي كنظام آل خليفة في البحرين) ولا يفهم مجتمعه وتراثه وتاريخه إلا كما يفهمه الآخر، هكذا نراه يتبرأ من أي علاقة مع فلسطين أو يحرص على إسماع الغرب ما يستسيغ سماعه حول قضايانا الاجتماعية والثقافية (زَايَد كمال داود مؤخّراً على اليمين الفرنسي المتطرف في موقفه من الحجاب فاعتبره ضغطَاً اجتماعياً وطائفياً على المرأة العربية).
خاتمة
في تاريخ الأمم كلها، تُنعت بالعمالة تلك الفئة من المجتمع التي تختار أن تقف في خندق الأعداء، تتحرك وفق مصالحه، تقاتل إلى جانبه أو تبرر له جرائمه. لا شك أن هذا الصنف من المثقفين في منطقتنا هو من هذه الفئة أيضاً التي سرعان ما يتخلى عنها الاستعمار في ساعة الحسم في مشاهد إذلال حقيقية، رأينا نماذج منها مع «الحَرْكَي» في الجزائر وفي الفيتنام، وتكررت في تحرير جنوب لبنان، الخيار، برغم اختلاف السّياق مشرقَاً ومغرباً، كان ولا يزال بين من رضخ لثقافة الهزيمة وقرر أن يتخندق مع المشاريع الاستعمارية ويستعلي على أبناء شعبه الفقراء والمظلومين، وبين من آمن بالمقاومة سبيلاً وحيداً لنيل سيادته، والنتيجة التاريخية لكل خيار، برغم كل التلفيق، واضحة.
* كاتب جزائري
جريدة الاخبار اللبنانية