تقرير اخباري : متابعة المركز الخبري لجريدة السيمر الإخبارية / الاحد 15 . 11 . 2015 — كانت الأخبار تتزاحم على شاشة هاتفي. ثم جاءتني رسالة من أخي: «ترين ما يجري في باريس… جميع من نعرفهم بخير».
هذه المعلومة لا يمكن الحصول عليها من القنوات الإخبارية الفرنسية، التي كانت تبثّ بشكل متواصل، لتحيد تغطيتها عن مسارها مع الوقت وتتحوّل من نقل للأحداث إلى خوض في أطروحات بُنيت على التكهنات أكثر منها على التحليلات. طبعاً، كانت شبكات التواصل الاجتماعي نافذتي على من هم في باريس، وكذلك في الوطن العربي.
غداة التفجيرين الانتحاريين في الضاحية الجنوبية لبيروت، شهدنا عمليتين إرهابيتين في كلّ من تونس وباريس. إذ ذُبح عشية يوم الجمعة الفائت راعي غنم تونسي في ولاية سيدي بوزيد لا يتجاوز عمره 16 سنة، وسلّم قاتلوه رأسه لابن عمه ليعود به إلى البيت! وتعرّضت باريس لهجمات سقط جراءها 128 قتيلاً.
ما فاجأني هو اختلاف ردود الفعل بين ضفتي المتوسط. فبينما كان الفرنسيون يتحدثون عن وقع الصدمة، راوحت رسائل عدد من التونسيين على مواقع التواصل بين التنديد بالجريمة النكراء التي ذهب ضحيتها الطفل مبروك سلطاني، وبين التعليق الساخر على ما يجري في باريس. وبين نعي وآخر، رسالات متعددة في مختلف الصفحات تشمت بالفرنسيين من باب «إليكم نبذة مما عانيناه»، وآخرون تبنوا شعار «تونس أولاً» (وهو شعار عرفناه كذلك في فترة الديكتاتورية كان من خلاله البعض ينأى بنفسه عن التعبئة للقضية الفلسطينية بمنطق الأولوية للوطن)، ليقولوا إن تضامنهم ودموعهم تذهب أولاً وأخيراً إلى عائلة الراعي الصغير، الذي لم تعره السلطات التونسية اهتماماً إلا بعد 24 ساعة، ويعيبون على غيرهم أية رسالة تضامن موجهة إلى الفرنسيين.
«أنا لست باريس… أنا الراعي… لباريس أهلها…»، يقولون. وكأن إنسانيتهم صارت هي الأخرى محكومة بسياسة التقشف لصندوق النقد الدولي، بحيث لا يسعهم التعاطف مع جميع المنكوبين، فللحزن أولويات!
ليست هذه المرة الأولى التي نرى فيها ردود فعل مماثلة، فقد رصدنا مثلها في كانون الثاني/ يناير 2015 بعد أحداث «شارلي ايبدو». لكن هوية القتلى في ذلك الوقت جعلت كل الخطابات متشنّجة، وفتحت الحلبة لجميع أصناف المزايدات من شتى الأطراف. أما اليوم، فلم المزايدات؟
طبعاً، التضامن مع ضحايا باريس لا يعني تضامناً مع حكومة باريس، ولا مع سياسة الغرب الخارجية التي تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية ظهور «داعش» وتطوّرها. طبعاً من حق اللبنانيين محاججة موقع «فيسبوك» لأنه لم يضع برمجية «أنا في أمان» في خدمتهم بعد تفجيرَيْ برج البراجنة، ولا طلب من مستعمليه أن يلوّنوا صورهم بألوان العلم اللبناني، ولا بألوان العلم السوري أو اليمني أو غيره على وقع تفجيرات سابقة تشهدها بلادنا يومياً. وطبعاً، لم يلق تفجير الضاحية الجنوبية حظاً وافراً من التغطية الإعلامية العالمية، ولا تضامناً واسعاً مع أهالي الضاحية من رؤساء الدول الغربية. لكن سياسة الكيل بمكيالين التي يتوخاها ساسة الغرب وإعلامهم ليست جديدة، وقد أخذت تحت سمائنا وجهاً جديداً: إنه شعور عميق بالكراهية.
من ذكرتهم أعلاه، يتذمّرون من رؤية «بني جلدتهم» يتضامنون مع الفرنسيين، لكن لم تروّعهم صور رأس مبروك السلطاني مقطوعاً عندما نشرتها بعض المواقع والصفحات، وكأن الحزن من أجل باريس، أقلّ احتراماً لروح الطفل الشهيد من مثل هذه التصرفات. فصور الموتى والرؤوس المقطوعة وفيديوهات إعدامات داعش انتشرت على الشبكات الاجتماعية العربية كالجراد، وجعلتنا نتعود هذه المشاهد كما تعوّدنا أن تأتينا يومياً أخبار القتلى في الشرق الأوسط.
ثقافة الموت نبتت فينا كما ينبت العشب بين الصخور، قد نتقبلها لأسباب دينية مثل موت الحجيج في الحرم المكي منذ بضعة أشهر، أو نراها نتيجة حتمية لمؤامرة كونية، أو شهادة نظفر بها. لكن حضورها في مخيالنا أكثر رسوخاً من تعاليم الشاعر الفلسطيني محمود درويش القائلة إننا «نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً».
بعض الأشخاص من الذين ذكرت، ومن الذين امتهنوا تقديم دروس الوطنية من منظورهم الخاص، لم يعلموا بما حصل في بيروت، ولا بآخر تفجير شهدته بغداد ولا هم يتابعون حصيلة الموتى السوريين أو الفلسطينيين يومياً. هم فقط ممتلئؤون بكراهية قد تكون لها تداعيات وخيمة لو ترعرعت في وسط يغذيها. أليس فوزاً مبدئياً لداعش، وغرساً لفكرها، أن يصبح موتى البلدان الغربية أرقاماً نتعامل معها بحسب بطاقة هويتهم وانتمائهم القومي؟
كرهنا للآخر هو الذي يحدد ما ندعوه وطنيتنا، كما داعش تعرّف إسلامها بأنه محاربة لمن تصفهم كفاراً.
ربما كان الأجدر بنا أن نعيد تعريف القيم والمفاهيم التي نبني عليها حياتنا: ما هو إسلامنا؟ ما حبّنا للوطن؟ ما هي الكراهية والبشاعة؟ ما إنسانيتنا؟
قد تكون الإجابات إنارة لطريق تقطع سبل «دوعشة» العقول والنفوس.
سارة قريرة / تونس
الاخبار اللبنانية