الرئيسية / ثقافة وادب / الجواهــريّ، حيـنَ تقتلهُ الاحـزان !!!

الجواهــريّ، حيـنَ تقتلهُ الاحـزان !!!

السيمر / الثلاثاء 20 . 03 . 2018

رواء الجصاني

… وعنوان هذه التأرخة استوحيناه من بيت شعرٍ جواهريّ الفلسفة والرؤى، ونصه : “قد يقتل الحزنُ من أحبابه بعدوا عنه، فكيف بمنْ أحبابه فُقدوا ؟! (1) … ونرى بأنه يوجز كل ما يعتمر في ذهن الشاعر الخالد، من احاسيس من آلام كابدها في وداع الاحبة الراحلين .. ومن منّا لم يحزن في حياته؟ .. واي انسان ذلك الذي يدعى (الجبروت) على اللؤم أو الفراق أوالغـدر، دعو عنكم الموت ؟. وان كانت الحال هكذا فكيف بالشعراء، المرهفين طبيعة، وحياةً، ومحمد مهدي الجواهري (1899-1997) من بينهم، على اقل وصف..
واحزان الجواهري، متنوعة، متشابكة بين الخاص والعام. في السياسة والهم الوطني، وفي مناحي الحياة المختلفة، كما هي حال قصائده، وديوانه العامر. وقد يظهر ذلكم تأثرأ حيناً، وهضيمةً، وثورة حيناً آخر.. فتراه شاكياً ونادبا وناعيا وراثيا ومؤبناُ، كما هجّاءً قاسياً باشد ما استطاع، وعلى مدى عقود وعقود .. ولكن ما يعنينا في هذه التأرخة العجول، ان نتوقف، لمّاحــين وحسب، عند بعض لذعِ الجواهري، واحزانه على الراحلين من اهل بيته، معتمدين الترتيب الزمني اساسا في هذا الاستعراض/ التوثيق …
1/حيّيتِ أم فرات ..
و”ام فرات” هي مناهل ابنة الشيخ جعفر، الجواهري، زوجة الشاعر الاولى، ام بكره، أميرة، ثم ولديه: فرات وفلاح، وقد سجل عنها في ذكرياته نثراً مرهفاً، وأنينا وحنيناً فياضاً بالألم. ولربما كان عنوان ما كتبه يكفي دلالة على وجدانيته، اذ وسمَه :”عاشوراء في القلب”(2) .. اما قصيدته الرثائية لفقيدته الجليلة – مناهل- المعنونة: “ناجيت قبركِ / حُييتِ أمّ فرات ” عام 1939 فمن ابياتها:
في ذِمّةِ اللهِ ما ألقى وما أجِدُ، أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِهِ كبِدُ
قَدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه فكيفَ بمنْ أحبابُـهُ فُقِدوا..
أعيا الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهمُ، ماذا يخبّي لهمْ في دفّتيهِ غد..
* * *
حُـيّيتِ ((أُمّ فُـراتٍ)) إنّ والدةً، بمثلِ ما أنجبَتْ تُكنى بمـا تَـلِد
تحيّـةً لم أجِدْ من بثّ لاعِجِهـا، بُدّاً، وإنْ قامَ سَدّاً بيننا اللّحد..
خَلعتُ ثوبَ اصطبارٍ كانَ يَستُرُني، وبانَ كِذبُ ادّعائي أنّني جَـلِدُ..
إنّا إلى اللهِ! قولٌ يَستريحُ بهِ، ويَستوي فيهِ مَن دانوا ومَن جَحدوا ..
* * *
قالوا أتى البرقُ عَجلاناً فقلتُ لهمْ، واللهِ لو كانَ خيرٌ أبطأتْ بُرُد..
أينَ المَفَرّ وما فيها يُطارِدُني، والذِكرياتُ، طريـاً عُودُها، جُـدُدُ
2/ أخي جعفـر
… والعنوان اعلاه لقصيدة الجواهري في رثــــاء اخيه الاصغر، جعفر، شهيد وثبة كانون الثاني، الوطنية عام 1948 . وكان قد ذكره شعرا من قبل، في قصيدة عام 1924 اشتياقاً له، وتحببا به.. كما استذكره ايضا في قصيدة “دجلة الخير الشهيرة، وغيرها، كما سنأتي على ذلك بعد سطور..
ومن ابيات ((اخي جعفــرَ..)) الرثائية- الوطنية الفريدة:
أتـعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ، بأنّ جراحَ الضحايـا فـمُ
فمٌ ليسَ كالمُدّعي قولَةً، وليس كآخَـــرَ يَسترحِم..
أخي ((جعفراً)) يا رُواءَ الربيع، إلى عَفِنٍ باردٍ يُسلَمُ
ويا زهرةً من رياض الخُلود، َغـوّلهـا عاصـفٌ مُـرزِم..
أخي ((جعفراً)) إنّ رجعَ السنين، بَعْدَك عندي صَدىً مُبْهم
ثلاثونَ رُحْنا عليها معاً، نعـذّبُ حِيـناً ونستـنعِمُ
نُكافحُ دهراً و يستَسْلِمُ، ونُغلبُ طَوراً ونَسْتَسْلِم
* * *
ضحِكتُ وقد هَمْهَمَ السائلون، وشقّ على السمعِ ما همهموا
يقولون مُتّ وعند الأُساةِ غيرَ الذي زَعَموا مَزعَم
وأنتَ مُعافى كما نرتجي، وأنت عزيزٌ كما تعلـم..
إلى أنْ صَدَقْتَ لهمْ ظَنّهم، فيا لكَ من غارمٍ يَغنَم
فهمْ بك أولى فلمّا نَزَل، كجَذْرٍ على عَددٍ يُقسمُ
وهم بك أولى، وإن رُوّعَت ((عجوزٌ)) على فِلذةٍ تلطِمُ(3)
وتكفُرُ أنّ السما لم تعُد، ُغيثُ حَريباً، ولا تَرْحَم
وأختٌ تشُقّ عليك الجيوب، فيُغرَزُ في صدرهــا مِعصَم (4)
* * *
أخي ((جعفـراً)) بعُهـود الإخـاءِ خالصَةً بيننـا أُقسِـمُ..
يميناً لتَنهَشُني الذكرياتُ، عليك كما يَنهش الأرقمُ
إذا عادني شبحٌ مُفرِحٌ، تصدّى له شبحٌ مؤلِمُ
وفي عام 1968 اي بعد مرور عشرين عاما على استشهاد جعفر، يستذكره الجواهري فيكتب عن ذلك في براغ ابياتا بث خلالها احزان الاستذكار ولوعته، تحت عنوان (( إليك أخي جعفر)) ومنها:
دَبّتْ عليك زواحفُ الأعوامِ، وبرئتَ من جُرْحٍ، وجُرحيَ دامي
وبَرئتَ من هزءِ الحياةِ ببعضها، وتضـاحُـكِ الأيـامِ بالأيـامِ
3/ عن “قفص العظام”
… ووصف “قفص العظام” اطلقه الشاعر الخالد عام 1951 على والدته فاطمة (بيبي) بنت الشيخ شريف الجواهري، وهو يودعها مغتربا الى مصر، وكانت نحيلة البنية، محتبسة الصدر، مفجوعة بمصرع ابنها الاصغر جعفر، شهيداً، كما تم سبق ذكره . وجاء ذلك الوصف في البيت الاول لتلك القصيدة ونصه: ” تعالى المجدُ يا قفص العظام، وبورك في رحيلكِ والمُقامِ”..
وأذ لم يرثِ الجواهري والدته في قصيدة خاصة، ولكنه استذكرها، مع شقيقه جعفر، في رائعته ” دجلة الخـير” الشهيرة عام 1962 اي بعد رحيلها بنحو عام، وكان هو بعيدا عنها، مغتربا في براغ، وقد توفيــت هي في نجف العراق، ومما قال لهما مخاطبـاً، شاهراً حزنه المخبأ، واللاهب:
ويا ضجيعَي كرىً أعمى يلفّهما، لفّ الحبيبين فـي مطمورةٍ دُونِ
حسبي وحسبُكما من فرقةٍ وجوىً، بلاعجٍ ضَرِمٍ كالجمْرِ يَكويني
لم أعـدُ أبوابَ ستينٍ، وأحسبني، هَماً وقفتُ على أبواب تسعين
يا صاحبيّ إذا أبصرت طيفَكما، يمشي إليّ على مَهلٍ يحييني
أطبقتُ جَفناً على جَفَنٍ لأبصُرَه، حتى كأنّ بريقَ الموتِ يُعشيني
إنّي شممتُ ثرىً عفناً يضمّكما، وفـي لُهاثي منه عِطرُ (دارين)
بـنـوةً وإخاءً حلفَ ذي ولَـعٍ، بتربةٍ في الغدِ الداني تغطّيني
لقد وَدِدتُ ـ وأسرابُ المنى خُدع ـ لو تَسلمان وأنّ الموتَ يطويني
قد مُـتّ سبعينَ موتاً بعد يومِكما، يا ذلّ من يشتري موتاً بسبعين
لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمّضُني، حرّانَ فـي قفصِ الأضلاعِ مسجون
تصعدتْ آهِ من تلقاء فطرتها، وأردفت آهةٌ أخرى بآمين
ودبّ فـي القلبِ من تامورِه ضَرَمٌ، ما انفكّ يُثلجُ صدري حين يُصليني
4/ حبيبتي نبيهــة
كانت للجواهري شقيقة وحيدة اسمها نبيهة، تصغره بأزيد من خمسة عشر عاماً، الى جانب ثلاثة اشقاء هم : الأكبر،عبد العزيز، والأوسط، عبد الهادي، وألأصغر((محمد)) جعفـر.. ولم تكن – نبيهة – مدللة الشاعر الخالد وحسب، بل العائلة كلها. وقد تطرق اليها في بعض اشعاره ومنها في قصيدته ((اخي جعفر)) سابقة الذكر.. كما خصها – وهو يهدي لها ديوانه – باربعة ابيات عام 1977 ومنها: “سلمتِ أختي اذا لم يبقِ لي زمني، أخاً سواها ولا أخت تواسيني../ يا فرحة العمرِ ظلي بسمةً عمرتْ، بالذكرياتِ تواسيني وتُسليني/ حسبي وحسبكِ عن بعـدٍ وعن قربٍ، أني اناجيك في هذي الدواوينِ”..
اما عند رحيل ((نبيهة)) عام 1987 فقد القى– باكياً- في متربة السيدة بدمشق، حيث ووريت الثرى، ابياتاً بالغة الحزن والانفعال، ومنهــا:
نبيهةٌ، إن الحياةَ ملْعَبَهْ، ونحنُ فيها ((طابة)).. ومَضْربَهْ
رهن الليالي كيفما دارتْ بنا، كعقربِ ((الساعةِ)) رهنَ الذبذبه
حبيبتي ((نبيهةٌ)) كيف ذوتْ، معجـلـــةً بسـمتكِ المحبّبهْ؟..
حبيبتي ونحن والخلقُ معاً، أسرى طيوفٍ حلوةٍ ومرعبهْ
نجتـازُ ألفَ غصةٍ وغصةٍ تعتاقنا.. ناسين هذي العقبهْ
ما أخبث العمرَ بمـا يخدعنا، حتى نخالُ أنه ما أطيَبهْ..
حبيبتــي ((نبيهةٌ)) سنلتقي، عما قليلٍ عندَ هذي ((المتربهْ))
5/ ها نحن “أمونة”..
… و”امونة” أبنة الشيخ جعفر الجواهري، إقترنَ بها الشاعر الخالد عام 1939 بعد رحيل اختها “مناهل”. وقد انجبت له ولدين: نجاح وكفاح، وأبنتين ا: خيال وظلال .. وتطرق قصيده اليها مرات عديدة، تلميحا وسياقاً. ولكنه كتب لها، وعنها، فريدة خصها بها بعنوان “حبيبتي” وذلك في بغداد عام 1973 ومطلعها:
حَبِيبَتي منذُ كان الحبّ فـي سَحَرٍ،ُ حلوَ النسائمِ حتى عَقّهُ الشّفقُ
ومذ تلاقى جَناحانا على فَنَنٍ، منه إلى العالَم المسحورِ ننطلقُ
نَصونُ عهدَ ضميرَيْنا وبينهما، نجوى بها همساتُ الروح تُستَرَقُ
وعند رحيلها عنه بداية عام 1992 رثاها الشاعر المكلوم بقصيدة بالغة المشاعر، وبنفس روي قافية قصيدة “حبيبيتي” اعلاه، ومما جاء فيها :
ها نحنُ أمّونةٌ ننأى ونفترقُ، والليلُ يمكثُ والتسهيدُ والحرقُ
والصبحُ يمكثُ لا وجهٌ يُصَبّحُني، به، ولا بسماتٌ منكِ تنطلقُ
ما أروحَ الموتَ، بل ما كان أبغَضَه، لديّ إذ أنتِ مني الروح والرمقُ..
يا حلوةَ المجتلى والنفسُ ضائعةٌ، والأمرُ مختلطٌ والجو مختنقُ
ويا ضحوكةَ ثغرٍ والدنى عبسٌ، ويا صفيةَ طبعٍ والمنى رنـقُ..
منّي عليكِ سلامٌ لا يقومُ به، سنّ اليراعِ ولا يقوى به الورقُ
كأن نفسي إذ تخشين وحشتها، إنسانُ عينٍ بمرأى أختها غَرقُ
يا رحمة اللهِ غادِ المؤمنين به، وخلّ أمونةً صنواً لمن سبقوا
اخيرا، وفي ختام هذه اللمحات عن بعض احزان الجواهري، التي جاء بها، وحتمها، ذلكم الموت اللئيم الذي ظل يلاحقه، وفوق نيوبه دم اخوته واقاربه وصحابه(5) تجدر الاشارة اننا لم نقم بشرح فحوى ما جاءت به قصائد الجواهري في رثاء آل بيته، وما عنته الابيات المختارة اعلاه، ولا بالتعليق عليها، ظناُ منا، بل قناعة، بأن تلكم الابيات معبرةٌ بذاتها- بل وتزيد- عما تحمله من أوجاع، وألام عانى منها الشاعر، وهو يودع الاحباء الاقربين الى عالم الغيــب …
——————————————- رواء الجصاني في براغ/ أواخر اذار 2018

– الصورة المرفقة، الجواهري عند وداع اخته نبيهة، في متربة السيدة زينب/ دمشق، تموز1987..
– هوامــش واحــالات
1/ من قصيدة ناجيت قبرك، عــام 1939. 2/ في الجزء الاول من (ذكرياتي) للجواهري الصادر عام 1989. 3/ والدة الشهيد جعفــر، فاطمة بنت الشيخ شريف. 4/ المقصود: نبيهة، اخت الشهيــد. 5/ اشارة لبيت شعرٍ جواهري من قصيدة (الرصافي) الاستذكارية ببغداد عام 1959 ونصـــه: ” ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبهِ، دم أخوتي وأقاربي وصحابي”.

اترك تعليقاً