السيمر / الثلاثاء 20 . 03 . 2018 — حتى اللحظه ، لم يعرف المجتمع العراقي برمته والمجتمعات العربيه ، ومن ثم بقية الشعوب في العالم ، من أرسل ما يسمى. بـ تنظيم « الدوله الإسلاميه » ، أو ما يُعرف بـ « داعش » إلى العراق وسوريا ، وفيما بعد إلى ليبيا ومصر.
ثمة تساؤلات يطرحها الجميع ، حتى أولئك الذين سهَّلوا دخوله وساعدوا على وجوده وتغلغله في نسيج المجتمعات العربيه ، هنا نرى الكلّ يتجاهل الأمر ، بعضهم يجد مبررات إثنيه ومسوِّغات براغماتيه ، ويسوق طروحات وتحليلات ثيوقراطيه لذلك ، ولكن الكل لا يعرف كيف قيِّض لشخوص غرباء في الغالب ، وحثالات فكريه وأيديولوجيه متخلفه وماضويه ، محليه ، وعربيه ، وأجنبيه ، أنْ تأتي إلى بلد حضاري مثل العراق ، لتنتهك تخومه وحيثياته وطبائعه ، من أجل أن تقوده صوب الجاهليه والعماء والأعصر المنحطه والمظلمه ، ولا يطلع أحد ليمنع هذه الرموز البدائيه والمتوحشه من التسلل إلى بلد الحضارات ، كي تبني عليه نسقاً فاشياً ، له كل المقوِّمات الحديثه من إنترنت وأدوات تواصل اجتماعي ، وميديا حديثه ومتطوِّره ، لتكون فاعلة وعاملة بين يديها ، بيد أن هذه الرموز الهمجيه تأخذ من الحضارةِ ما ينفعها لتقدم في المآل إلى أهل الموصل من العرب ، المسلمين والمسيحيين والإثنيات الأخرى كالإيزيديين المسالمين والطيبين ، نظاماً نازياً في غاية التطرف والوحشيه ، لكن المُلفت في الأمر أنَّ كل ذلك يُبنى ويتم دون أن تعرف به المخابرات المركزيه الأمريكيه ، والموساد والحرس الثوري الايراني والمخابرات التركيه والمخابرات العربيه التي تطارد العاملين على أرضها كونهم لا يملكون أوراق إقامةٍ رسميه ، كل هؤلاء يتبرأون وينأون بأنفسهم ، حين يتم طرح أسئله جارحه وممضه ومحرقه تدور على ألسنةٍ كثيرةٍ ولا تجد جواباً شافياً لها ، يبلسم لواعجها ومواجدها وحروقها الداخليه
كيف جاء هؤلاء الأوغاد المجرمين , ومن دعمهم وهيّأ الأجواء والمطارات وعبور الحدود الدولية لهم ؟
من مهر جوازاتهم ؟
من إنسحب وأخلى المكان لهم ووهب لهم حواضر كالموصل والرقه وحلب ؟
من أعانهم من رؤساء و وزراء و وأعضاء برلمانات عراقيه وعربيه وأجنبيه ؟
ولماذا لم يُحاسَب أحد من هؤلاء المسؤليين ؟
ثم أين هم الدواعش من القادةِ والمسؤولين الذين أرعبوا العالم خلال ثلاث سنوات ؟
أين هم وكيف إختفوا بهذه السرعه ؟
ومن هم ؟
لم نرَ احداً منهم ، لم يعترف قائد داعشي كبير بما إقترف من جرائم بحق الإنسانيه ، بل رأينا أطفالاً ونساءً قادمات من تركيا وأطفالاً من داغستان وأوزبكستان والشيشان وتونس ، وعرضت صورة امرأة ألمانيه وصورة أمريكي أشقر قد أعدما ، وثمة فيديو تسجيلي لباصات من « عرسال » فيها دواعش أسرى ، كان يوزع عليهم الماء والحلوى والعصائر وكأنهم ذاهبون في نزهةٍ إلى مكان ما ، وهم حقاً كانوا مُرحُّلين إلى مكان معين ، ولكن إلى أين ؟
ومن يقف وراء هؤلاء الدواعش المدلَّلين ؟
وإلى أين أوصلوهم في رحلتهم الغامضه والمريبه ؟
إنها أسئلة موجعة لا تنتهي ، أثارها لي كتاب جريء ومهم ، هو عبارة عن تحقيق مطوّل سوسيولوجي وأنثروبولوجي ، تمَّ مع شخوص أحياء كانوا ضحايا لداعش ، وشخوص آخرين كانوا أبطالاً حقيقيين ، عملوا في خدمة البشريه والإنسانيه التي تعرَّضتْ في أزمنة داعش إلى المحو والإباده والقتل الجماعي ودفن أحياء في مقابر جماعيه ، أما الأولاد والصبيان فبعضهم يُقتل ، وبعضهم يغسل دماغه ليجنَّد معهم ، أما النساء والفتيات فهنَّ مشروع بيع وشراء ومشاريع اغتصاب جماعي من قبل القبائل الداعشيه المجرمه والمتوحشه .
هذا ما توضّحه الشاعره والكاتبه العراقية الرائعه دنيا ميخائيل ، في كتابها الموسوم « في سوق السبايا » ، وهو كتاب في غاية الدقة والإعتناء بكل تفصيل قامت به داعش المجرمه ضد أُناس مسالمين ، مثل المسيحيين والإيزيديين وبقية القوميات والطوائف والمذاهب العراقيه ، التي وجدت نفسها أمام القتله وجهاً لوجه ، ففضَّلت الهروب وعدم الإنصياع لنهجهم الإرتجاعي ، المتخلف والفاشستي ، وغير المستند إلى أي منطق أوعلم أو دين ، ففرَّتْ بجلدها باحثة عن الأمان ، واللقمة غير الملطخةِ بدم القتله .
تتعرف الكاتبه وهي تُقيم في أمريكا ، على عبد الله ، من خلال وسائل التواصل الإجتماعي ، فتظل على صلةٍ معه عبر الهاتف ، فهو إيزيدي ، عائلته تعرضت للخطف والإباده والملاحقه وللبيع والشراء مثل الآخرين ، فتتواصل معه حيثما كان ، وهو يواصل عمله الشاق والخطر والمُغامر ، وأيضاً العظيم والإنساني والشهم ، حيث يقوم بمساعدة من يستطيع مساعدته للتخلص من القتل على يد العصابه المتوحّشه .
ثمة في الكتاب قصص مُرعبه ومُبكيه حقاً ، لما تعرض له الإيزيديون والمسيحيون وحتى المسلمون العرب والأكراد والتركمان من ملاحقات وخطف وقتل ومضايقات . إنه كتاب يلقي المزيد من الضوء على مصير الضحايا مع هذا التنظيم القاتل
البداية كانت مع هوشيار وأمه وإخوته . إنه صبي كان في الرقه السوريه ، بعد أن جاءوا بهم من سنجار ، وتحديداً من منطقة كوجو ، تخلصوا. من الرجال بقتلهم ، بقي هو وعائلته
يقول هوشيار : إن أبو جهاد كان يجبرني على صناعة الصواريخ ، كان يعطينا كمية من المواد الكيميائيه لصناعتها ، وإن تلكأنا في العمل ولم ننجز كل الصواريخ التي أعطيت لنا ، سيضربنا بالأسلاك الكهربائيه أنا وأمي وأخواتي وكان معنا الكثير من العوائل التي تعمل مثلنا ، وأبو جهاد هذا كان من روسيا ، كان يجوِّعنا ، ولم يعطني من طعام سوى العظام المتبقية من طعامه
أما رولا أخت هوشيار ، فتقول : كنا نصنع لهم الصواريخ كل يوم من مادة ( التي أنْ تي ) ، وهناك في سوريا تم بيعنا عدة مرات من شخص إلى آخر
يقول عبد الله المتبرِّع للعمل في مكتب شؤون الخاطفين دون مقابل : إنه كان يقيم علائق وديه مع مهرّبي السجائر ، ( إذ كنت أعتمد عليهم في العمل على إنقاذ العوائل الإيزيدية المختطفة الموجودة في سوريا ) ، فعملهم هذا يرد عليهم موارد ماليه أكبر من تهريب السجائر ، هذا بالرغم من أن جميع سواق السيارات المهرِّبين هؤلاء كانوا أيضاً مدفوعين بدافع إنساني ، لتخليص الضحايا من براثن داعش ، طبعاً فقدنا بعض المهرِّبين المتعاونين معنا ، بسبب وجود جواسيس لداعش من العاملين كسواق لنقل الركاب بين سوريا والعراق ، أي بين دهوك وحلب والرقه
ويستطرد عبد الله قائلاً بصدد الحوادث المريعه والخياليه : « مرةإاتصلت بي إبنة أخي مروه ، وكانت موجوده في الرقه ، مُحتَجَزه مع نساء أخريات ، حارستها إمرأه من داعش لا رحمة في قلبها ، وهي مثلهم تهوى الضرب والتعذيب والقتل ، كانت هذه سجَّانتها ، ثم هربت مروة ملتزمة بتوصياتي ، بعد أن سرقت مفتاح سجانتها وهي نائمه . كان الوقت في الرابعة صباحاً ، في الطريق رأت سيارةً مارّه ، فأوقفتها وإنهارت في السياره باكيه ، ولما سألها السائق عن أمرها ، قالت إنها هاربه من داعش وتتمنى أن يقتلها ولا أن تعود إليهم ، فقال لها السائق ، أنا سأوصلك إلى مناطق فيها عشائر عربيه ، هناك إطرقي أي باب تصادفينه ، وقولي لهم إني دخيله عندكم ، فالعرب لا يصدون من يأتي دخيلاً عليهم
أوصلها السائق حقاً ودارت في المنطقه ، طرقت أحد الأبواب وكان بيتاً صغيراً فيه عائله كبيره ، فتحوا لها ، وحين شرحت لهم وضعها مع داعش تعاطفوا معها وبكوا لأجلها ، وحين وجدت فرصة للإتصال بعمها من إحدى مقاهي الإنترنت ، إكتشف صاحب المقهى اللعين هويتها ، فهدد العائله الطيبه ، فطلب منهم فديةً على سكوته وتهريبها سبعة آلاف وخمسمئة دولار ، صُدمت العائلة بذلك ، فهي عائلة فقيرة ولا تملك شيئاً ، فهبّوا لمساعدتها بجمع المبلغ من العوائل والأقارب المنتشرة في قرى الرقه ، حتى تم تأمين سبعة آلاف دولار له .
كل قصة في هذا الكتاب ، هي موضوع رواية ، تكمن في تفاصيلها، وفي نوع الدراما العالية والتراجيديا المتواترة ، وبالغة التعقيد في تنوع هذه المآسي اللاإنسانية .
الكتاب ونحن نوغل في قراءته يفاجئنا بين قصة وأخرى ، بثالثة أكثر مرارة وقسوة وعنفاً ودمارا من سابقتها ، بفعل منسوب كلومها ، وجروحها ، كفنون التعذيب ، ودفن الأحياء من النساء ، أمام عوائلهم ، ناهيك عن سوق السبايا ، حيث العرض والطلب ، مثل أي سلعة تباع وتشترى وتُستبدل ، ومن ثم فنون الاغتصاب التي تفنَّنوا بها، وزادوا على الفاشية بأساليبهم الإجراميه
ثمة قصص رهيبة منها إقدامهم على دفن 67 جدة بعد أن عزلوهنّ عن أحفادهن الذكور والإناث ، ودفنوهنّ أحياء ، هذا ما روته كامي التي لم يشترها أحد لتقدمها في السن ، وتضيف : كان المشهد مرعباً ومروِّعاً بالنسبة للجدات وهنّ يُفصلنَ ويُدفن أحياء ، بإهالة التراب عليهن في مقابر جماعيه
أما الرجال فيقول خالد وهو أحد الضحايا الناجين مثل كامي : « إنهم كانوا أكثر من أربعمئة شاب حين صفُّوهم واحداً جنب الآخر ، بمحاذاة حفرة كبيرة حُفرتْ بالحفَّارات الكبيرة ، ثم أطلقوا النار علينا ، ولكني لم أمتْ ، بل تظاهرت بالموت ، كنت مصاباً في قدمي ويدي ، أنا ساعدني مسلم سنِّي لم أعرفه ، وقد أبدى إعتذاره عما فعله بنا داعش ، لقد أنقذني بشرب عصير العنب الذي كان يعوِّض عن الدماء التي نزفتها » ، بينما بديعة التي بيعتْ لصغرها وشدِّة جمالها ، فقدَّمت ثلاث حيل لتتجنب الزواج من الدواعش ، وهي : عدم التحميم ، والظهور بمظهر الوساخة والرائحة غير الطيبه ، والثانيه الادعاء بأنها متزوجه ، ليكون بيعها أبطأ من العذراوات ، والحيلة الثالثة كانت التظاهر بأنها حامل ، وحين اشتراها أمريكي واغتصبها عنوة واكتشف أنها ليست عذراء جن جنونه ، وهدَّدها بالقتل لأنها قد كذبت عليهم ، وذلك سيؤدي حسب قوله إلى قتلها
أما مادلين فلقد وقعتْ في متلازمة ستوك هولم ، فأحبَّتْ جلادها ، أو زوجها السعودي أبو سليمان ، وقد تمّ إنقاذها أثناء سفر السعودي إلى السعوديه ، بتخديرها بحبة منوِّم وإحضارها عن طريق مهرب إلى بيت عمِّها في دهوك . كانت النساء دائماً في حالة بيع وشراء
نعود إلى خالد الجريح الذي نجا فيقول : بعد أن قتلوا جميع أبناء منطقتي ونجوت بقدرة قادر، أخذوا الفتيات الصغار وكان عددهن 600. تقول الناجية مها: لقد باعونا بالجملة لتاجر سوري اسمه ابو علي، على الرأس 150 دولاراً، ولكن أبو علي باعنا بالمفرد بأكثر من ذلك.
وتقول مها : أنا اشتراني طبيب سوري ، يعمل في مستشفى في منبج في حلب ، كان معي أولادي الأربعة بنتان وولدان ، البنت الكبرى كانت في الرابعة عشرة ، ولقد باعها خالد أمام عيني وعيون أخواتها ، وحين أعددتُ خطة للهرب وهربتُ وشى بي صاحب مقهى ، حتى استلمها خالد من جديد ، أدماها ضرباً هي وأولادها ، بعد ذلك وعقاباُ لها قتل أولادها الثلاثة أمام عينيها ، صارت شبه مجنونة ، ثمّ فقدت أي حس بالحياة ، فحاولت الانتحار ، إلى أن نجت بطريقة عجائبية ، ليس ثمة مجال لسردها ، أو لسرد المتبقِّي من الحكايات المرعبة ، تلك التي تفوق الخيال والوصف في هذا الكتاب الحزين..
منشورات المتوسط ، ميلانو ، إيطاليا 2017