السيمر / الاحد 01 . 04 . 2018
صالح الطائي
من مهازل أمتنا الإسلامية؛ وهي كثيرة لا تحصى، أن أبناءها يسعون إلى الهزل والهزيل، ويتركون الجد والأصيل، فلا يستعينون بالله ربهم، ويستعينون بالسحرة والدجالين، فيخالفون شرائع، دينهم وشرائع الإنسانية، وجوامع العلم، بلجوئهم إلى الغباوة والجهل، وإلى ما نهى عنه الدين وحرمته العقيدة.
وقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ}. وجاء في السنة النبوية اعتبار السحر من الكبائر، عن أبي هريرة (رض)، قال: سأل رجل رسول الله: يا رسول الله ما الكبائر؟ فقال: “هن تسع، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وفي رواية: وتعلم السحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والشح، وعقوق الوالدين المسلمين, واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا، والتعرب بعد الهجرة”. لاحظ هنا أن عدد الكبائر المذكورة في الحديث إحدى عشرة كبيرة وليس تسع، وهذا تهافت كبير!. وجاء في السنة النبوية أن المسلم الذي يمؤمن بالسحر لا يدخل الجنة، حسب حديث، عن أبي الدرداء (رض)، قال: قال رسول الله(ص): ” لا يدخل الجنة عاق، ولا مؤمن بسحر، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر”. وجاء في السنة النبوية أن من استخدم السحر أو ذهب إلى السحرة ليعملوا له سحرا، يخرج من دين الإسلام، والحديث عن عمران بن حصين (رض)، قال: قال رسول الله (ص): ” ليس منا من تطير أو تطير له, أو تكهن أو تكهن له, أو سحر أو سحر له “.
ومع ذلك كان المسلمون قبل غيرهم سباقين إلى دكاكين السحرة، حيث تركوا ما عند الله ورسوله، ولجأوا إلى السحارين يطلبون منهم عملا للشفاء من مرض، ولم يلتفتوا إلى ما أمرهم به الله تعالى: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
أو يهرولون إليهم يطلبون منهم عملا للمحبة، يستميلون به قلوب العذارى لكي يعشقنهم، حتى ولو كانوا متزوجين بأكثر من واحدة، ونسوا قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
أو يبحثون عن عمل سحر يستدرون به الرزق، إذا ضاقت أرزاقهم، حتى ولو كان ذلك بتقصير منهم، ولا يتذكرون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}
أو يطلبون عملا للوقاية والحفظ، وهم قبل غيرهم يعرفون أن الله هو الحافظ، وأنه عز وجل سمى نفسه في مواضع عدة من كتابه العزيز بالحفيظ كما في قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} وأنه هو تعالى دون غيره خير الحافظين: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهو سبحانه وتعالى: { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
والواقع أن لذلك جذورا في عمق الموروث الإسلامي، فمن يتحدث عن تمكن السحرة من سحر النبي (ص)، ونجاح سحرهم في التأثير الكبير عليه إلى درجة أنه أصيب بالوهم، لا يستبعد أن يتمكن السحرة من اجتراء المعجزات بسحرهم. وقد وردت قصة سحر النبي في حديث عن هشام، عن أبيه، عن عائشة (رض)، قالت: ” سحر النبي، حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله قال جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. قال: فذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين، قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا، وأمر بها فدفنت”. وهو حديث أخرجه أهل الصحاح البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد وابن أبي شيبة والنسائي وابن حبان والبيهقي، وغيرهم.
والأشد نكاية ادعاء المسلمين أنفسهم أنه لا يوجد دليل يمنع من إمكان وقوع السحر بالنبي (ص) مثل غيره من البشر، ثم ادعاؤهم وجود قرائن في القرآن الكريم، تدل على صحة وقوعه على الأنبياء وغيرهم، واختاروا لذلك قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} قرينة!. أما الفلاسفة والعقلانيين الذين يحكّمون العقل في النصوص الذين ردّوا هذا الحديث، فهم بزعم هؤلاء مغرضون واهمون، لأن حديث سحر النبي (ص) حسب رأيهم حديث صحيح، طالما رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما، فهو حديث متفق عليه، ومعلوم عند أهل العلم أن الحديث الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم هو في أعلى درجات الحديث الصحيح.
إن هذا التجويز يبدو محاولة لشرعنة السحر، بدليل أن السحرة أنفسهم استغلوا هذا الجهل، وصاروا يتحدثون عن أنواع شتى من السحر، تتصاعد أسعارها تبعا لمسمياتها، فاستنبطوا أسماء: السحر الأسود، والسحر العلوي، والسحر الأبيض، والسليماني، والفرعوني والمصري، والجريموار الأوروبي، والكابالا اليهودي، والفودو الإفريقي. ولكل واحد من هذه الأنواع مهمة وواجبا وسعرا يتناسب مع الجهد المبذول في عمله، والمواد المستخدمة بصنعه، كعظام البشر الموتى، أو سائل أدمغة المتوفين حديثا، ومن ثم استحكام إخفائه وصعوبة الوصول إليه واكتشافه، وأخيرا شدة تأثيره. وتبعا لذلك ابتدع السحرة المشعوذون أحاديث عن السحر الهوائي، وهو السحر الذي يكون معرضا للتيارات الهوائية، ويزاد تأثيره كلما هبت الريح. أو السحر المائي، وهو السحر الذي يرمى في البحار والأنهار والآبار وفي مجاري المياه ليضيع أثره ويبدأ مفعوله بتفاعل الماء مع محتوياته. والسحر الناري الذي يوضع في مواقد النيران مثل التنور أو الفرن أو قربها. والسحر الترابي، وهو السحر الذي يدفن في تراب المقابر واخل القبور القديمة عادة، أو يدفن في الطرقات والبيوت الفلاحية ذات الأرض الطينية غير المرصوفة بالحجارة أو الكاشي.
ودائما تتوافق طلبات الزبائن مع نوعٍ محددٍ من هذه الأنواع، فالمعروف أن أعمال السحر التي يلهث خلفها المسلمون لا علاقة لها بتحقيق رغبة التفوق في العلوم، أو النبوغ في الثقافة والأدب، أو اكتساب الحكمة والمعرفة، أو السعي لإسعاد الأمة وجمع كلمتها وتحقيق وحدتها، فهم يسعون وراء مكاسب فردية شهوانية دونية عدوانية تنضوي على شراسة مفرطة، تصل إلى حد عمل السحر لقتل شخص ما، أو تفريق زوجين حبيبين عن بعضهما، أو إفشال مشروع خير، وهي بمجملها أعمال سوداء قبيحة تنم عن أمراض نفسية متأصلة في النفوس، فالمعروف أن العرب والمسلمين لا يطلبون من السحرة المشعوذين إلا عمل التفريق بين الزوجين أو الحبيبين أو الشريكين في عمل تجاري، والربط، أي ربط الفتاة لكي لا تتزوج أو ربط العريس لكي لا يستطيع معاشرة زوجته، أو عمل الخيال، ويقصد به إصابة المسحور بالهلوسة والخيال البعيد عن الواقع، أو عمل الجنون، وهو تسخير الجن لسلب عقل أحد الأشخاص انتقاما، أو عمل الخمول وهو أن يصاب الشخص بخمول يمنعه عن ممارسة حياته الطبيعية، أو عمل الهاتف وهو أن يتخيل المسحور أن هواتفا خفية تهتف به، وغيرها من المصائب التي تصيب الناس في صميم حياتهم بدافع الحقد والحسد والرغبة بالانتقام لا أكثر. أما غير ذلك من الأمور الصالحة أو التي تسهم في بناء الإنسان والأوطان فهم أبعد ما يكونون عنها، ولا يفكرون بها مطلقا بل لا تمر في خيالهم أبدا!.
إن الاعتماد على السحر لتغيير الواقع جزءً أو كلا لا يعني مخالفة صريحة للدين الإسلامي فحسب، بل يؤكد دون شك أن العجز التام هو الذي يسيطر على مخيلة أمتنا، وان أمتنا لن تنجح بالخروج من مأزقها التاريخي إلا بالعودة إلى المنابع الصافية للدين، واعتماد المنهجية الواقعية في التعامل مع الحياة ومتطلباتها، بدل الخيال المريض الذي يتحكم برغباتها وميولها وشهواتها.