السيمر / الثلاثاء 03 . 07 . 2018
د . لبيب قمحاوي*
الحديث في “صفقة القرن” والإيحاء بوجود تنازلات متبادلة هو لعب بالألفاظ كما أنه إستهتار بالعقول . فالتنازلات الفلسطينية ستكون تنازلات حقيقية في حين أن التنازلات الإسرائيلية ستكون شكلية وسوف تنطلق من واقع الإحتلال الذي يَفـْتـَرِضْ بأن كامل الأرض الفلسطينية هي إسرائيلية ولإسرائيل ، وأن أي إنتقاص من ذلك ، حتى لو كان شكلياً ، يعتبر تنازلاً إسرائيلياً يستحق تنازلات فلسطينية حقيقية بالمقابل . وهذا يعني أن ثمن تنازلات إسرائيلية شكلية في حال حدوثها سوف يكون على حساب الحقوق الوطنية والتاريخية للفلسطينيين في فلسطين . هذا هو واقع “صفقة القرن” . فالتنازلات الفلسطينية سوف تكون عملياً ضمن الرؤيا والمصالح الإسرائيلية حُكماً وإخراج القدس من معادلة الصراع والحل والتفاوض مبكراً هو إقرار مسبق بذلك وتمهيدٌ لما هو آتٍ.
من الواضح أن النهج الأمريكي يهدف إلى إستبدال الحقوق الفلسطينية بحوافز وجوائز مالية واقتصادية معظمها سوف يقع في خانة الوعود والأوهام . ومن هنا فإن “صفقة القرن” سوف تـُرَكـِّز على إذابة الحقوق الوطنية الفلسطينية وإستبدالها بحوافز وإستثمارات مالية واقتصادية تهدف إلى تحسين نوعية الحياة عوضاً عن إحقاق تلك الحقوق ، وكل ذلك بإستعمال مال النفط العربي بينما تعود الفوائد السياسية لإسرائيل حصراً . وحتى قطاع غزه الذي دمره العدوان الإسرائيلي المستمر والحصار الإسرائيلي القاتل ، فإن مسؤولية إعادة بناءه طِبْقاً للتفكير الأمريكي تعود على مال النفط العربي ، بينما تعود الفوائد السياسة ، مرة أخرى ، لإسرائيل . وعلى أية حال هنالك إحتقار واضح لكرامة الشعب الفلسطيني وإستخفاف لئيم بحقوقه الوطنية من قبل المسؤولين الأمريكيين خصوصاً أولئك القائمين على ملف تصفية القضية الفلسطينية أو “صفقة القرن” كما يَدَّعون .
الأفكار الأمريكية المتعلقة بصفقة القرن متحركة وأبعد ما تكون عن الجمود ولا شئ ثابت فيها سوى مصلحة إسرائيل . وتذبذب هذه الأفكار يدور حول هذه الحقيقة وإمكانية فرض استحقاقاتها على الفلسطينيين والعرب. ودور العديد من الحكام العرب في جعل ذلك ممكنا لا يمكن إنكاره أو تفادي نتائجه أو التخفيف من آثاره حتى لو قام بعض من حكام العرب بزيارة واشنطن أملا في تخفيف وطأة ذلك. فإطلاق عقال الوحش اسهل بكثير من محاولة إعادة لَجْمِهِ وربطه ، وحكام العرب أطلقوا العنان لذلك الوحش.
هنالك بعض الشواخص والمؤشرات التي تعطي صورة واضحة عن النوايا الخفية وراء “صفقة القرن” . إن أي محاولة للدخول في التفاصيل لإثبات مدى سوء هذه الصفقة والنوايا المستترة خلفها تعكس سذاجة في التفكير وكأن هناك من يؤمن بوجود بعض الخير فيها سواء للفلسطينيين أو العرب ، أو أن هنالك حاجة لإثبات سوء هذه الصفقة والنوايا الخبيثة من وراء طرحها . الحديث يجب أن ينصب على رفض “صفقة القرن” نظرا لحجم الأخطار والكمائن المخفية في ثناياها وعلى حرمان أولئك المسؤولين العرب الراغبين في تسويقها من القدرة على فعل ذلك .
صفقة القرن هي عبارة عن نهج (Process) يحكمه الهدف المنشود منه وليس التفاصيل الواردة فيه . فالتفاصيل يحكمها هدف إعطاء إسرائيل أقصى ما يمكن وإعطاء الفلسطينيين لا شئ أو القليل الذي لا تريده إسرائيل في الغالب مثل منطقة غزة . وحتى نغلق باب التكهنات والإجتهادات ، من الضروري التنبيه بأنه طبقاً للأفكار المتداولة في صفقة القرن المقترحة لا يوجد إنسحاب إسرائيلي حقيقي ، ولا يوجد دولة فلسطينية مستقلة حقيقة ، ولا يوجد سيادة فلسطينية حقيقية على أي أرض فلسطينية ، والأجواء كما الأراضي والبحار والمياة الفلسطينية ستبقى السيادة عليها ملكاً لإسرائيل تعطي الفلسطينيين كما تريد وتأخذ منهم ما تريد . من الواضح أن هنالك الكثير من التفاصيل التي يتم تداولها ومعظمها ، سواء أكان صحيحاً أم لا ، قد أصبح متَدَاوَلاً ومعروفاً . وهذا ليس بيت القصيد فالمطلوب هو عدم الإكتفاء بفضح المخاطر الكامنة في “صفقة القرن” ، بل العمل على رفضها جملة وتفصيلاً ، والتوقف عن الإستمرار في إجترار التفاصيل وكأن في تلك الصفقة أمراً ما سيؤدي إلى شئ جيد للفلسطينيين أو العرب .
أهداف “صفقة القرن” ليست إذاً شيئاً جديداً طارئاً ، ولكنها إستمرار لمسيرة قديمة إبتدأت بتدمير عبد الناصر والناصرية وهزيمة عام 1967 وصعود كلاً من أنور السادات لحكم مصر وياسر عرفات لحكم الفلسطينيين وتدمير لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية في حرب أهلية طويلة ، مروراً بكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربه وإنتهاءً بتدمير العراق وسوريا وتسليم مقاليد النفط العربي ومقدراته المالية الهائلة لأيدي جيل جديد من الحكام لا يعرف العروبة أو المصلحة القومية ولا يريد الإعتراف بها وهو على إستعداد للتحالف مع الشيطان من أجل الحفاظ على مصالحة الذاتية .
“صفقة القرن” لا تستهدف فلسطين فقط ، بل العالم العربي الذي سوف يصبح في أغلَبِهِ عبارة عن دول تدور في فـَلكِ النفوذ الإسرائيلي . والأهم من ذلك إستبدال العداء العربي لإسرائيل بعداء عربي مُعلن للفلسطينيين كما بدأ يَنـْضَح من التصريحات العلنية لبعض المسؤولين العرب بخصوص الفلسطنيين ، وخاصة تلك القادمة من دول النفط العربي والتي أصبح بعض مسؤوليها يجهر بالعداء للحقوق الوطنية الفلسطينية ويشكك بها .
“صفقة القرن” هي عنوان جزئي في مسار طويل متكامل ، ومدخل إلى أفق آخر يتجاوز حدود الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والعربي – الإسرائيلي لينتقل إلى أفق إعادة التشكيل الإقليمي للمنطقة ، وإعادة رسم دور إسرائيل القادم كقائدة لـذلك الإقليم . فهذه الصفقة لا تهدف إلى التنازل المجاني عن فلسطين فقط ، ولكنها تُمهد لإلحاق العالم العربي بإسرائيل وإعادة رسم خارطة التحالفات الإقليمية بشكل يجعل من إسرائيل القوة الإقليمية السائدة والأهم ، مما يستدعي بالضرورة إضعاف أو تفكيك كلاً من إيران وتركيا بإعتبارهما مركزي الإستقطاب الإقليمي البديل والأهم بعد أن دخل العالم العربي في غياهب النسيان والدمار .
إن إغلاق الملف الفلسطيني والإعلان على إنتهاء قضية فلسطين هي محطة أساسية في المخطط الأمريكي – الإسرائيلي لإعادة رسم المنطقة الشرق أوسطية من جديد على إعتبار أن العالم العربي بمفهومه القومي لم يعد قائماً وبالتالي لم يعد يشكل أي عقبة خطيرة أمام المخططات والأحلام الصهيونية . وفي هذا السياق ، من الخطأ الإستمرار في تفسير الأمور بمنطق خضوع أمريكا للنفوذ الصهيوني . فإسرائيل هي أحد الأدوات الإقليمية لأمريكا في الدفاع عن مصالحها في المنطقة . والموضوع ببساطة يكمن في تطابق المصالح الإسرائيلية والأمريكية . ومجئ إدارة ترمب وَفَّرت الوقاحة السياسية والتسارع الملحوظ في تطبيق تلك العلاقة وفي تحويلها إلى واقع جديد يحكم منطقة الشرق الأوسط . والعقبة أمام تحقيق ذلك تتمثل الآن في الفلسطينيين أنفسهم والجماهير العربية وإيران وحزب الله وتركيا ، ومن هنا نلاحظ تطابق التفكير الأمريكي الإسرائيلي السعودي والخليجي في إعادة ترتيب أولويات العداء في الإقليم وفي جعل تحالف تلك القوى الواقع الجديد الذي ستعبر من خلاله كل تلك السياسات المرافقة لصفقة القرن نحو التطبيق العملي .
السياسة الخارجية للدول العربية يجب أن تخرج عن مسارها التقليدي الذي يجعلها ملتصقة بأمريكا وتابعة لها إلى الانفتاح على الآخرين مثل الإتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وتركيا وهي دول مؤثرة قد تـُوَفِر للعرب خيارات أخرى عوضاً عن تلك الخيارات المحصورة بالولايات المتحدة الأمريكية . وهذا يعني أن العرب بحاجة إلى العمل بجد لكسب ثقة تلك الدول وجعلها حليفاً نشطاً وقوياً للعرب ، وبخلاف ذلك فإن العرب مقبلون على وضع صعب ومُعَقـَّد خصوصاً الأردن الذي يجابه خيارات مستحيلة تجعل منه هدفاً للجميع ، فلا هو قادر بحكم تحالفاته التقليدية الراهنة على رفض ما هو مطروح ولا هو قادر على القبول به بحكم واقعه الجيوسياسي والديموغرافي . وهنا قد يكون من الأفضل للأردن السماح للشعب بالتعبير عن رفضه القاطع لصفقة القرن وتبعاتها وبناء موقف جديد للأردن الرسمي على أساس ذلك الرفض الشعبي ، عوضا عن قمع الشعب ومنعه بكافة الوسائل من التعبير عن رفضه مما سيضع الحكم أمام خيار اللاخيار وتحت المقصلة الأمريكية. فالبكاء والنواح على الميت لن يعيده إلى الحياة، واذا كان الحكم غير قادر على مجابهة رغبات حلفاءه التقليديين، فإن الشعب قادر، على الأقل، على تزويده بحبل النجاة وبالعذر المُحِلّْ.
إن موقف أوروبا السَّلْبِي من سياسات إدارة ترمب الأخيرة تجاه القدس والحقوق الفلسطينية والإتفاق النووي مع إيران يعكس تضارب المصالح المتزايد بين أوروبا وأمريكا وليس تعاطفاً أوروبياً مفاجئاً تجاه الحقوق الفلسطينية وشرعية الإتفاقات مع إيران ، مما يشكل فرصة أمام العرب للإفلات من القبضة الأمريكية المحكمة . إن الحكمة تستدعي مزيداً من التعاون مع الإتحاد الأوروبي ليس بهدف قيام أوروبا بخوض معارك العرب نيابة عنهم ، ولكن بهدف خلق تحالفٍ فَعـَّالٍ يهدف إلى خلق توازن في منطقة تعاني حتى الآن من رجحان كفة القوة العسكرية والسياسية لصالح أعداء العرب .
مرة أخرى تفاصيل “صفقة القرن” لا قيمة لها إلاّ إذا وَقَعَ الفلسطينيون والعرب في فخ القبول بها . الأساس يكمن في رفضها حتى كعنوان ناهيك عنها كخيار . المعركة ليست مع أمريكا وإسرائيل بقدر ما هي فينا وبيننا كعرب فإما أن نرفض ونكون أو نقبل ولا نكون .
* مفكر عربي
02 . 07 . 2018