السيمر / الاثنين 09 . 07 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
شاءت القوى السياسية الفلسطينية في قطاع غزة أو أبت، عارضت أو صمتت، ساهمت واشتركت أو استفادت وانتفعت، ظهرت في الصورة بشكلٍ مباشر أو وَكَّلت آخرين وناب عنها مستثمرون، وسواءٌ دفعها الشعب المُعنَّى والأهل المحاصرون وأجبرتها حاجتهم الملحة ومعاناتهم اليومية، أم حركتها منافعها الخاصة ودفعتها مكاسبها الحزبية، وأغراها البريق الواعد ودغدغت مشاعرها الأحلام الجديدة والوعود القريبة، وأسالت لعابها المشاريع الضخمة والاستثمارات الكبرى، وهي التي ترى مخططات المشاريع ومسودات الاتفاقيات، وتعرف حجم الرساميل وقيمة الاستثمارات، وتدرك الحاجة إليها وصعوبة الحياة بدونها، وأنها ستشكل رافعةً اقتصادية كبيرة لسكان قطاع غزة، مما سيحسن من شروط عيشهم الصعبة والقاسية.
وقبلت السلطة الفلسطينية في رام الله أو امتنعت، وباركت أو حذرت، وتشجعت أو خافت، وكانت طرفاً وشريكاً أو قبلت بالتهميش والتجاوز، وخضع العالم لشروطها أو أهمل محاذيرها، فإن قطاع غزة ماضٍ رغم أنف الطرفين معاً، أو بقبولهما ورضاهما ومباركتهما ومشاركتهما في مسار التدويل، فقد قطع المجتمع الدولي شوطاً كبيراً في مخططاته المستقبلية ومشاريعه الدولية والأممية الكبرى، وذلك بالاتفاق التام مع الكيان الصهيوني والتعاون معه، حيث تريد الحكومة الإسرائيلية استعادة مشاريع رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في سلامٍ اقتصادي، ورخاءٍ مجتمعي، ورفاهية شعبية تنسي فلسطينيي قطاع غزة المقاومة، وتفضهم من حول فصائلها، وتشغلهم بحاجاتهم الشخصية ومشاريعهم الاقتصادية.
وعليه فلا يكاد يمرُ يومٌ دون أن تزور قطاع غزة وفودٌ دولية ومبعوثون أمميون، وسفراء وقناصل دول أوروبا الغربية وكندا واستراليا واليابان، فضلاً عن سفير دولة قطر ومبعوث الأمم المتحدة إلى الأراضي الفلسطينية، وغيرهم من وزراء الخارجية وكبار المسؤولين الدوليين الذين يزورون فلسطين المحتلة، وجميعهم يحرصون أن يكون لقطاع غزة نصيبٌ كبيرٌ من زيارتهم، وأن يشغل حيزاً مهماً من حواراتهم ونقاشاتهم، حيث يعتبرون أن قطاع غزة يشكل زاوية أساسية من مشاريع السلام المستقبلية، وركناً مفصلياً في مشاريع المقاومة الفلسطينية، وأنه ما بقي القطاع على حاله البئيس محاصراً ومضيقاً عليه، فإن المنطقة كلها لن تشهد استقراراً ولن تعيش أمناً، بل سيجد الكثير من الفلسطينيين ومؤيدوهم المبرر للثورة والانتفاضة، والمقاومة والنضال.
عمدت الدول الممولة والمشغلة للمشاريع الاقتصادية والإنمائية والإنسانية في قطاع غزة، إلى الحصول على ضماناتٍ إسرائيلية بعدم المساس بها أو تدميرها خلال أي عملياتٍ عسكرية تقوم بها في قطاع غزة، وألا تقوم بقصفها خلال أي عدوانٍ قادم، ذلك أن هذه المشاريع على اختلافها قد تمت بعلمها وموافقتها، وهي تعلم طبيعتها وتعرف مهماتها، ولديها علم تام بإحداثياتها ومواقعها على الأرض، الأمر الذي يجعل من استهدافها بالخطأ غير مبرر، ولا يمكن للدول المانحة والممولة أن تقبل بأي أعذارٍ إسرائيلية في حال قصفها أو تدميرها.
يبدو أن الدول المانحة ومعها الأمم المتحدة تريد أن تجعل من مشاريعها ومقراتها في قطاع غزة محمياتٍ سياسية تابعة لها، بما يشبه المقرات الدبلوماسية التي يفترض حمايتها وعدم المساس بها أو تعريض أمنها وسلامة العاملين فيها للخطر، وهذا الأمر يروق لسلطات الاحتلال تماماً، إذ تحقق من خلاله أكثر من هدفٍ تتطلع له، وتتمنى أن يكون ويتحقق، خاصة أنها تنسجم مع مشروع نتنياهو المعروف بـ “الرخاء الاقتصادي”، فضلاً عن أن جميع الدول المانحة ستكون راعية لمشاريعها، وحارسة على مقراتها ومؤسساتها، وستفرض على القوى والتنظيمات الفلسطينية، العسكرية والسياسية، عدم استخدام هذه المقرات في أي أعمالٍ أمنية أو عسكرية تضر بالكيان الصهيوني، سواء كانت هذه العمليات تخطيطاً أو إعداداً، أو استعملت المقرات كمستودعاتٍ لتخزين الأسلحة أو مقار للقاءات والاجتماعات، وغير ذلك مما تتطلع سلطات الاحتلال إلى تحقيقه بضمانةٍ أوروبية وأممية وعربية أحياناً، ويبدو أن لسلطات الاحتلال تجربة سابقة مطمئنة للضمانات الأوروبية والأممية.
شيئاً فشيئاً ومع مرور الوقت سنجد أن قطاع غزة الصغير المساحة، المحدود القدرة، الفقيرة ثروةً، قد أصبح مجموعة كبيرة من المشاريع الدولية، والمؤسسات الأممية الكبيرة، التي تقوم الدول الغربية وغيرها بحمايتها وإدارتها، وستسمح سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالتعاون مع الإدارة الأمريكية الحالية بالمزيد من هذه المشاريع، التي من شأنها مع مرور الوقت أن تجعل من قطاع غزة أرضاً تحت الوصاية، وإقليماً محمياً بالاتفاقيات والمعاهدات، ومصاناً بالالتزامات والتعهدات، الأمر الذي من شأنه أن يساعد في أن يكون قطاع غزة منطلقاً لما يسمى بصفقة القرن، ونقطة انطلاق نحو كيانٍ فلسطينيٍ جديدٍ، تكون فيه هي القلب والعاصمة، وتعود إلى الواجهة والصدارة الأولى كما كانت عند توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
لا نستغرب كثيراً عندما تطرح الدول المانحة والممولة، بموافقة الحكومة الإسرائيلية، ضرورة وجود قوات دولية في قطاع غزة، لحماية مشاريعها وضمان أمن مؤسساتها، فهي خطوة أولى حقيقية وعملانية نحو تدويل القطاع، حيث سيلزم هذه القوات بنى تحتية ومؤسسات خدمية، قد يكون المطار والميناء بعضاً منها، ولكن تحت إشرافها وبرعايتها، وهناك من يشجع على مثل هذا المشروع ويدعو له، ويوجد في نُظم الأمم المتحدة وتجاربها السابقة ما يجعل هذه الفكرة فكرةً عمليةً قابلةً للحياة، ولعل تجربة قوات الطوارئ الدولية التي عملت في قطاع غزة بعد العدوان الثلاثي عام 1956، ما يشجع كثيراً على تكرارها، خاصةً أن القطاع شهد في تلك الفترة استقراراً وهدوءً، في الوقت الذي رحب فيه بهذه القوات واستفاد كثيراً من التسهيلات التي وفرتها والخدمات التي قدمتها لسكان قطاع، الذين نهضت أحوالهم وتحسنت ظروفهم في ظل وجودها في القطاع.
لنا أن نتساءل هل يرحب سكان قطاع غزة بهذه الخطوات أم سيرفضونها وسينقلبون عليها، ولن يوافقوا عليها وسيعتبرونها احتلالاً دولياً جديداً، أم أن واقع القطاع وسوء أحوال سكانه، وبؤس ظروفه وانعدام اقتصاده، سيدفع بالسكان إلى الترحيب بهذه المشاريع والدفاع عنها.
لعل قراءةً موضوعية منصفة لأحوال قطاع غزة، وانعدام المسؤولية الوطنية لدى القوى السياسية، سيجعل السكان يقبلون ويرحبون، ويفرحون ويسعدون، ويبتهجون بهذه القوات إن وجدت، ويبشون بمشاريع بلادها إن أسست، وعلى القوى السياسية أن تتحسس مواقعها، وأن تنتبه إلى أن الأرض من تحتها باتت تميد وتتحرك، وقد يتغير المشهد فتغيب وتهلك.
بيروت في 9/7/2018