السيمر / الجمعة 27 . 07 . 2018
هند بشير يونس
ينسب الى بعض اهل التصوف القول بأن الوجود واحد وأنه (ليس في الدار غيره ديّار) وكل ما عدا الله وهم وليس حقيقة. وهو كلام خاطئ. فالاعلام من العرفاء ,كالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي مثلا وغيره من كبار العرفاء, لا يقولون بهذه النظرية, وانما يقولون: ان الله موجود وأنا موجود أيضا, الله موجود وأنبياؤه موجودون. ووجودهم ليس وهما ولا خيالا. الجنة والنار ليستا وهما أو خيالا. فالله حقيقة وكل شئ في هذا العالم له حقيقة. الامام علي (ع) وهو سيد العارفين يقول عن الله عز وجل: (دليله اّياته, ومعرفته توحيده, وتوحيده تمييزه من خلقه). وهذا القول هو رد الادعاء بالحلول والاتحاد, والذي يتهم به الصوفية . النظرية المشهورة بين الحكماء والمتكلمين هي أن الممكنات لها وجود في نفسه, ولكن وجودها قائم بغيره (اي بالله). اما نظرية العرفاء فهي: ان الممكنات ليس لها وجود في نفسه, وانما وجودها في وجود غيرها وهو الحق سبحانه تعالى. فالعرفاء القائلون بوحدة الوجود لا ينكرون الكثرة ولكنهم يقولون ان الكثرة هي شؤون الحق. وقد ضرب حجة الاسلام ابو حامد الغزالي مثلا لتوضيح نظرية وحدة الوجود, وأشار صدر المتألهين الى نفس المثال, وهو: ان ذات الانسان واحدة, ولكن لو نظرت الى أعضائه وأجزائه لوجدتها كثيرة. وتلك الاجزاء قائمة به وليست مستقلة عنه. فنستطيع القول ان للانسان قلب, ولكننا لا نستطيع القول بان القلب هو الانسان. فهذا القلب قائم بالانسان وليس منفصل عنه. وهذا ما يسمى (بينونة صفة) لا (بينونة عزلة). وهناك مثال اخر وهو مثال الماء الحار. فالماء شئ والحرارة شئ اخر. ولكن الحرارة ليست وجودا منفصلا عن الماء وانما هي صفة للماء. فنسبة الحق الى المخلوقات هي بينونة صفة لا بينونة عزلة. وهذا هو قول الامام علي (وحكم التمييز -يقصد بين الحق والخلق- بينونة صفة لا بينونة عزلة). فكل هذا العالم هو فعل الحق, اّثار الحق, تجليات الحق, اّيات الحق, ولكنها ليست عين الحق حتى يلزم الحلول او الاتحاد. اما الابيات :
إن رمت وصـلاً في الحيـاة به .. تفنى عن الكون قاصيه ودانيه
فقيّد النفس عن إطلاقــها أدبـاً .. وارمق بعينك حسناً فهو حاويه
لا تشغل القلب إلا بالـجمال ولا. تهوى سـواه بحـال أو بتنويه
ما لذّ لي غيره حتى أمـــيل له .. إذ حبه في الحشا شوقاً لأطويه
فهي تعبر عن حالة الفناء الصوفي. اي ان الصوفي يفنى عن نفسه وعن الخلق. وفناؤه يعني فناء هوى نفسه وشهواتها وكل ما تحب فيما يحبه الله ويريده ويأمر به. ففي مقام الفناء لا يشاهد الصوفي غير جمال الحبيب. فكأنه يعيش في عالم اخر هو عالم الجمال المطلق والخير المطلق والحق المطلق.
هذه الابيات هي من الشعر الصوفي بلا شك. فقول الشاعر: ان رمت وصلا في الحياة به , انما تعني: ان رمت وصلا بالله. والله هو الجمال المطلق الذي يجعل العاشق له يفنى عن الكون قاصيه ودانيه, فلا يرى في الكون الا ذلك الجمال والجلال. قد يستشعر الصوفي ذلك الجمال لانه روحه اتصلت بمنبع الحسن والجمال. فهو يرى جمال الله في كل شئ حوله. لان كل ما خلق الله محكم الصنع (الذي أحسن كل شئ خلقه..). اما قول الشاعر: (لا تشغل القلب الا بالجمال ولا تهوى سواه بحال او بتنويه) فهو يقصد جمال الذات الالهية الذي يتجلى في الكون فيجعله في نظر العاشق جميلا. وهذا هو حضور الذات الالهية (المحبوبة المعشوقة, التي قد يرمز اليها الشاعر باسماء مثل ليلى ولبنى..) في ذات الصوفي. وهو حضور دائم مع كل انسان حتى لو كان لا يستشعره بسبب غفلته. يقول العفيف التلمساني:
ومن عجب أني أحن اليهمو.. وأسأل عنهم من أرى وهمو معي
وترصدهم عيني وهم في سوادها… ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وهذه الابيات هي جزء من قصيدة رائعة يقول فيها:
تملّكتُمُ عقلي وطرفــــي ومـسـمـعـــي
وروحي وأحشائــي وكلّـي بــــأجمعي
وتيّهْتُمُونــي فـــــي بديـــع جمــــالكم
فلم أدْرِ في بحرَ الهوى أين موضعي
وأوصيْتُــمُـــوني لا أبـُــوحُ بسرّكُـــم
فبـــاح بمـا أخْفِــــي تسيُّـــبُ أدمُـعي
ولـمّـا فـنــى صبْري وقلّ تجلّــــدي
وفارقني نومي وحُرِّمتُ مضجـعي
أتيْـــتُ لقـــاضي الحـبِّ فقلتُ أحبَّـــتي
جفَوني وقالوا أنتَ في الحبّ مدّعي
وعنـدي شهـودٌ بالصّبـابةِ والأسـى
يُزكّـــون دعـوائي إذا جئـتُ أدّعـي
سُهـادي ووجـدي واكتئـابـي ولوعتـي
وشـوقـي وسُقمـي واصفـراري وأدمعي
ومــن عـجَـبٍ أنـّــي أحِــــنُّ إلــيــهُــمُ
وأسألُ شوقاً عـنـهـُمُ وهُــمْ مـعـــــي
وتبكــيهُـمُ عيني وهُــم في سوادهــــا
ويشكو النّوى قلبي وهُــمْ بين أضلعي
فإن طالبُوني فـــي حقــوق هواهـُـــمُ
فإنـّــي فقـيرٌ لا علــــيّ ولا مـعـــــــي
وإن تركُــوني في سجونِ جفاهــُــــمُ
دخلتُ عليـهم بالشفيــــع الـمـشـفّــعِ
اما القول (ان الفكر الاسلامي والفقه الاسلامي والادبيات الاسلامية تكافح الجمال وتعمل جاهدة على عدم اظهاره) فيحتاج الى تأمل. وانا اجد ان الشعراء العرب والمسلمين لم يكفوا عن شعر الغزل. الا ان الذي يخالفه الفقهاء هو وصف محاسن المرأة على النحو الذي يثير الغرائز.