السيمر / الاثنين 21 . 12 . 2015
ناهض حتر / الأردن
هذا واحدٌ من أفضل المعارضين السوريين؛ متمرد على قطر والسعودية، ويرفض الطائفية، وعلى الأرجح أنه شخص طيب ونظيف اليد؛ إنه هيثم منّاع. لكن ما يطرحه منّاع حول مصير الجيش العربي السوري، يدلّنا على تفشي ظاهرة اللاـ وطنية في صفوف النخب المعارضة السورية بغض النظر عن ميولها وارتباطاتها. لا ينطوي هذا التعبير ( اللاـ وطنية) على أي اتهام بالخيانة، ولا يشير إلى التخوين بأي شكلٍ من الأشكال؛ فالأمر يتعلق بمضمون الخطاب السياسي المستهتر ببنية الدولة الوطنية السورية ووحدة الجمهورية وتماسكها وسيادتها، تحت أي شعار مهما كان جذابا. منذ احتلال العراق وحل جيشه، وتاليا في السنوات السود ” للربيع العربي” ، ظهر، بوضوح، أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية للدول العربية الأساسية، جعلت من الجيوش، المؤسسة الوحيدة ذات الطابع الوطني والسياح الوحيد لوحدة الوطن الذي يضم مجتمعات مفككة على كل صعيد. فرط الجيش العراقي ففرط العراق، وعجز النظام الجديد عن بناء جيش وطني جديد، يلمّ ما فككه المحتلون الأميركيون؛ فلماذا؟.
أولا، لأن الجيوش لا تنشأ بين عشية وضحاها؛ إن مؤسسية القوات المسلحة الوطنية وتماسكها ووحدة إرادتها وخبراتها تتطلب سنوات طويلة من التراكم السياسي والمهني والاندماج وخلق ما يسمى : التضامن المؤسسي من خلال أجيال من الضباط والمتقاعدين المنخرطين في فئة العسكر، والمرتبطين بمؤسسات الجيش المدنية الخدمية.
وثانيا لأن الجيوش العربية الرئيسية تأسست أو تمأسست وقويت في خضم الحركات الاستقلالية التي كان مستوى الصراع مع الاستعمار القديم، وخصوصا في الحرب الباردة، يتيحها، وثالثا لأن الجيوش التي تُقام على المحاصصة وتعدد الولاءات، تفشل في أن تمارس وظيفتها الرئيسية في ضمان وحدة الوطن.
ونظرا لفسيفائية البنى الاجتماعية في البلدان المشرقية، تطورت أشكال واقعية ـ لا تآمرية ـ من قيام فئات دون سواها في بناء النواة الصلبة للجيوش، كما كان حال العرب السنة في الجيش العراقي. وهو ما ألجأ هذه المؤسسة العريقة إلى أيديولوجيا البعث، كإطار جامع، للحفاظ على توسع الجيش من دون الإضرار بتماسكه. أكان الجيش العراقي جيش السلطة؟ نعم ولا، نعم لأنه كان مؤسسة تلحمها وتديرها السلطة، ولا لأن حضور هذه المؤسسة نفسه، كان يؤدي مهمة وطنية انكشفت حين تفكيكه.
يضعنا ذلك، مباشرة، أمام مناقشة صريحة لبنية حزب الله الاجتماعية والمؤسسية؛ لقد قامت هذه البنية على تضامن اجتماعي للمحرومين اللبنانيين من الطائفة الشيعية، غير أنه من الواضح أن هذا الحزب الذي تحوّل جيشا هو، على الرغم من بنيته الطائفية، جيش عمل على تحقيق أهداف وطنية، منها تحرير الجنوب وصد العدوان الإسرائيلي، والتحالف مع الكتلة المسيحية الوطنية، مقاتلة التكفيريين، وصولا للدفاع عن كنائس معلولا.
وهذا لا يتناقض مع ما قدمه الحزب لبيئته الاجتماعية من خدمات. وبغض النظر عن موقف أي من الاتجاهات السياسية من النظام الأردني؛ فإن الدولة والمجتمع الأردنيين يظلان مدينين بوجودهما وتطوّر العلاقات الوطنية بين أبناء الجهات الأردنية، إلى الجيش العربي الأردني. وكما هو الحال في معظم الدول العربية، تحوّل هذا الجيش إلى مؤسسة وطنية حديثة هي وحدها التي تحافظ على وحدة الكيان الأردني. وتمثل العشائر الشرق أردنية، الركيزة الأساسية لضمان تماسك القوات المسلحة، وفعاليتها. وهو ما تتمسك به المؤسسة العسكرية، لأسباب مؤسسية بالدرجة الأولى، بينما يلح الأميركيون والليبراليون على تفكيك البنية الاجتماعية للجيش العربي الأردني الذي ينبني على عقيدة قتالية مضمرة هي أولوية الدفاع عن الكيان الأردني. ووفقا لهذه العقيدة، رفضت القيادة العسكرية الأردنية ، الانخراط في الحرب على سوريا واليمن، خلافا للأوساط السياسية والأمنية. وهو ما استحق توجيه التحيات، مرارا، من جانب المسؤولين السوريين، علنا، إلى “جيش الأردن وعشائره وشعبه” على حد تعبير نائب وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد.
في مصر، يختلف الأمر من حيث علوّ درجة الاندماج الوطني التي أتاحت للجيش المصري إنقاذ البلاد من الفوضى ومشروع الحرب الأهلية المضمر في سلطة ونشاط الإخوان المسلمين، خصوصا منذ 2011؛ إنما في مصر جرى التركيز على الصراع الأيديولوجي للبلاد بين الهوية الوطنية والهوية الإسلامية، لتفكيك المؤسسة العسكرية التي صمدت، ووتمكنت من النجاة، رغم ما يعتورها من اختراقات. في ليبيا ، أدى تفكك الجيش المرتبط، بنيويا بالعصبية الاجتماعية للرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، إلى تفكك البلد جهويا وعشائريا والانخراط في حالة فوضى معممة من شأنها أن تدمر الكيان الليبي. نأتي الآن إلى الجيش العربي السوري الذي يطالب منّاع بتحويله من جيش عقائدي إلى جيش وطني.
وفي العبارة شحنة من الديموغوجية الهادفة إلى تمرير الهدف الرئيسي للعدوان على سوريا، وراء شعار ” وطني”، و” وطني”، هنا، تعني ، تحديدا، إرساء قواعد المحاصصة الطائفية في الجيش العربي السوري، أي تفكيك المؤسسة العسكرية القائمة، وإعادة تركيبها ” بحيث تضم جميع الفصائل”! يعني الطوائف، بما يضمن هيمنة طائفة الأكثرية السنيّة! ولدت العسكرية السورية من دماء شهداء معركة ميسلون الخالدة 1920، ضد الاحتلال الفرنسي؛ أي أن عقيدتها القتالية، تأسست، تاريخيا، بخلاف جيوش المنطقة، في مواجهة الاستعمار لا في ظله.
وفي حقبة الانتداب، ظل الجيش السوري المحدود أذاك، يراكم نخبا من الضباط الوطنيين؛ وحين استقلت سوريا، كان بناء جيشها الوطني هو هاجسها الرئيسي، هذا الجيش الذي لعب، دائما، أدوارا رئيسية في السياسة السورية، وكان الضمانة الأولى لسير البلاد في النهج القومي التحرري. وفي مواجهة كل المؤامرات والتحديات، كان الجيش العربي السوري، بعقيدته القتالية القومية، السور الحصين لوحدة سوريا وكيانها. ما يشير إليه منّاع، ضمنا، هو حضور الكتلة العلوية في لب لحمة المؤسسة العسكرية السورية. هل هذا صحيح؟
لا أريد، رغم أن تحليلي الملموس مختلفٌ، أن أساجل في هذا؛ بل سأقبله كما هو، وأسأل إذا كانت العصبية العلوية المرتبطة بالرئاسة، قد عملت لتحقيق أهداف طائفية أم وطنية؟ هل كان الصراع مع إسرائيل، وحرب تشرين تحديدا، يمثلان مصلحة علوية لا سورية؟ وهل كان دعم المقاومات العربية في فلسطين ولبنان والعراق، يشكل مصلحة علوية لا سورية وطنية جامعة؟ أو لم يكن قمع عصابة الإخوان المسلمين في الثمانينات تعبيرا عن مصالح وحدة سوريا ونهجها القومي، رغم أنه يلبي مصالح علوية ومسيحية ودرزية وعلمانية؟ لنتخيّل، لحظة واحدة، أن الجيش العربي السوري كان مبنيا على أسس محاصصة الفصائل الطوائف.. فهل كان صمد في مواجهة العدوان الأميركي التركي السعودي القطري على سوريا؟ هل كان صمد في مواجهة الاكتساح التكفيري الإرهابي الذب لن تكون هناك سوريا إذا انتصر؟ ما زلت أقول إن هيثم منّاع هو أفضل عناصر المعارضة السورية، ولكن هذا، بحد ذاته، يكشف مصيبة الشعب السوري بالمعارضة التي تدعي تمثيله، منّاع، عن سذاجة ليبرالية أو مكر طائفي، يريد تكرار كارثة تفكيك الجيش العراقي في سوريا.