السيمر / الثلاثاء 08 . 01 . 2019
د . لبيب قمحاوي / الاردن
ينتاب العديد من الأردنيين شعور بالخوف وَالوَجَل من إحتمال تزايد حالات الافلاس القهري والإغلاق الطوعي للعديد من المصالح الصناعية والتجارية في الأردن تحت معول الضرائب المتزايدة وأسعار الطاقة والمياة التي فاقت كل تقدير بل وكل منطق . والأخطر من ذلك لا مبالاة الدولة من النتائج السلبية لسياساتها الجبائية تلك حيث أن جُلُّ ما يهمها هو جباية المزيد من الأموال دون أي إعتبار لأثر ذلك على الاقتصاد الأردني . هل الأردن عدو نفسه ، وهل ما يجري هو أمر خارج عن إرادة الأردنيين ؟ أم أن الحُكْم ومَسؤوليِهِ في واد والشعب في وادٍ آخر ؟ يبدو أن الأردن والأردنيين أمام خيارين لا ثالث لهما ، إفلاس الدولة أو تفليس الشعب . والسبب يعود إلى أن الحكم قد انتهج سياسات مثل خصخصة القطاع العام وسرقة عوائد تلك الخصخصة ، والفساد الكبير الذي أكل الأخضر واليابس ، والمديونية العامة الهائلة التي إمتصَّت فوائدها عوائد النمو الإقتصادي من جهة وكذلك سيادة الدولة واستقلال قرارها الاقتصادي وبالتالي السياسي من جهة أخرى . وهكذا إنتهج الحكم الأردني سياسات أدت بالنتيجة إلى نضوب موارد الدولة وحصرها في الجباية من جيوب الأردنيين أو الإستدانة من الخارج . السؤال الأهم الآن يتمحور حول ما الذي سيحصل لو تَقَلَّصَتْ قدرة الأردنيين على دفع الضرائب والأتاوات المفروضة عليهم بحكم تفاقم حركة الركود الإقتصادي من جهة، وتفاقم وحشية نهج الجباية والغرامات المرتبطة به من جهة أخرى ، وإلى الحد الذي قد يَقَّلصَ موارد الدولة إلى حدود تقترب من الافلاس ؟ المسؤولون الأردنيون الذين تَبَجَّحوا قبل أيام بإزدياد نسبة التحصيل الضريبي قد فشلوا في ايضاح الأسباب التي أدت إلى تلك الزيادة وفيما إذا كانت نتيجة نمو إقتصادي أو نتيجة حوافز جبائية مرتبطة بالإعفاء من الغرامات وهي جائرة أصلاً ، مما يعني أن هذه الزيادة موسمية ولا جذور حقيقية لها في الإقتصاد الأردني ، وهي زيادة غير مرتبطة بالتأكيد بنمو إقتصادي وزيادة في المداخيل . الزيادة في التحصيل الضريبي ظاهرة صحية إذا ما إرتبطت بنمو إقتصادي ملحوظ وزيادة في الإستثمارات الداخلية والخارجية وكفاءة وعدالة في توزيع الحِمْل الضريبي وتحصيله . وبخلاف ذلك تصبح الزيادة في التحصيل الضريبي ظاهرة سلبية مرتبطة بتفاقم مفهوم الجباية وما قد يعنيه ذلك من التلاعب بالتشريعات المالية والإقتصادية وتَخَطِّي الضوابط الدستورية المتعلقة بفرض الضرائب والقوانين الناظمة لها . ترتبط الكفاءة في التحصيل الضريبي بازدياد وعي المواطنين بأهمية وضرورة دفع الضرائب حتى تتمكن الدولة من القيام بالواجبات المناطة بها مثل البنية التحتية والصحة والتعليم والطرق والتنمية … إلخ . أما إذا كانت الدولة عازفة عن القيام بما هو مطلوب منها وحصرت إهتمامها بدورها الرعوي وبالتَسُّتر على الفساد الكبير وحمايته ، فإن ذلك يشكل مدخلاً أمام المواطنين لمحاولة التملص من دفع الضريبة لإعتقادهم بأن أموال الضريبة تذهب هَدَراً ، وأن الدولة لا تستحق أن يدفع لها المواطن أموالاً من تَعَبِهِ وجهده تذهب بالنتيجة في مسارب مجهولة . إن محاولة الدولة الأردنية التعويض عن الموقف السلبي لدافع الضريبة ، بفرض قوانين ضريبية جائرة في نصوصها العقابية لن يفيد في المدى البعيد ، لأن خَلْق ثقافة تؤكد على واجب المواطن في دفع الضريبة هو الأهم على أن يتلازم ذلك مع قيام الدولة بالتزاماتها تجاه المواطنيين . فاليد الواحدة لا تصفق وعلى الدولة أن تعي ذلك وأي محاولة لاستعمال سطوة القانون لن تؤدي بالتالي إلى نشر ثقافة الإلتزام الطوعي بدفع مستحقات الضريبة كواجب وطني بقدر ما ستزيد الهُوَّة بين المواطن والحُكْم وتُعَمِّق من أزمة الثقة بمسار ونهج الدولة . الوضع الحالي يشير إلى رغبة العديد من المستثمرين في مغادرة السوق الأردني ، إما لتنامي حالة الركود الإقتصادي في بعض القطاعات ، أو لتفاقم أعباء الحمل الضريبي الإجمالي ، ويشمل ذلك أسعار الطاقة والمياة والضمان الإجتماعي وضريبة المبيعات وضريبة الدخل ومختلف أنواع الضرائب الأخرى سواء أكانت خفية أم معلنة . وهروب المستثمرين سواء بالذهاب إلى دول أخرى ، أو ببساطة إغلاق إستثماراتهم داخل الأردن ، سوف يضع الدولة الأردنية أمام معضلة تضاؤل دخلها من الضرائب ، عِلْماً أنه طبقاً للمادة 66 من القانون المدني الأردني فإن الدولة تملك حق إصدار القوانين ولكنها لا تملك حق التعسف في إستعمال السلطة ، وهو ما يجري الآن في الأردن . الأمر لم يقف عن حد إصدار القوانين ، بل أصبح يمس حقوق المواطن مباشرة عندما وَضَعَ المسؤول حق إلقاء الحجز على أموال المواطنين بيد موظفين غير مؤهلين لاتخاذ ذلك الاجراء الذي يجب أن لا يتم دون حكم واضح للمحكمة المختصة . وإذا كان المواطن مديناً للدولة مثلاً ببضع عشرات أو مئات من الدنانير أو حتى آلاف قليلة لماذا الحجز على كل ما يملك من أموال في البنوك وأراضي وعقارات وممتلكات أخرى قد تفوق قيمتها مئات الآلاف أو الملايين من الدنانير ؟ لماذا يتم التعامل مع المواطن ولكنه لص في حين أن سرقة المال العام هي من إختصاص المتنفذين في الدولة ؟ ولماذا لا يكون الحجز معادلاً لقيمة ما هو مطلوب إذا توفر نقداً أو بحد أقصى يعادل في قيمته ضِعْف المطلوب دون أي تعسف وعلى أن يرتبط كل ذلك بحكم المحكمة المختصة . أين هي الدولة الأردنية ومخططيها من كل ذلك ؟ الجباية الجائرة هي المدخل الأكيد للركود الإقتصادي ، وهي الوصفة الأسهل لمنظور مالي قصير النظر في حرصه على الجباية أولاً ولو على حساب التنمية الإقتصادية . وغياب مفهوم التنمية والتحفيز الإقتصادي عن تفكير الحكومة يعكس قصور واضح في تفكير الدولة . وزير المالية الأردني هو في واقعه الآن وزيراً للجباية. ومدير عام دائرة ضريبة الدخل والمبيعات هو مأمور جباية وتحصيل من الدرجة الأولى ودوره يخلو من أي برنامج حقيقي ومتكامل لتعزيز دور المواطن في التنمية كمدخل إيجابي لتعزيز موارد الدولة ، وإكتفاء أولئك المسؤولين بإستعمال سطوة القانون لتهديد كل من يخالف نهج الجباية والقوانين الداعمة له دَفَعَ ويدفع العديد من رجال الأعمال والمستثمرين إلى إغلاق استثماراتهم كوسيلة للخلاص من تَغَوُّل الدولة وجَشَعِها المستمر للجباية . تُعتبر الخطة الهادفة إلى خلق وتعزيز ثقافة المسؤولية العامة في ضرورة إحترام الإلتزام الضريبي المرتبط بتنمية إقتصادية واضحة المعالم ومعززة بالعدالة والشفافية في القوانين الناظمة لتلك العلاقة هي الأولوية الأهم والأكثر ضرورة في مساعي إعادة بناء الإقتصاد الأردني وتنمية موارد الدولة . إن سيادة قانون عادل وشفاف يحمي حقوق المواطن والمستثمر من تعسف الدولة وفساد بعض مسؤوليها هي الإطار الحامي للتنمية الإقتصادية . وهذا الأمر يفترض من الدولة الإبتعاد تماماَ عن نهج التعسف وعن إستعمال سطوة الدولة لفرض مسارات على المواطن والمستثمر من أجل إرضاء نهم الفساد الكبير المتحكم ، على ما يبدوا ، في كافة شؤون الدولة . ان ثبات التشريعات الاقتصادية والقوانين الناظمة للعلاقات التجارية بالاضافة إلى حماية حقوق المواطن من تعسف الدولة هي الأساس في جذب المزيد من المستثمرين . أما أن تكون القوانين الناظمة للحياة الاقتصادية لعبة في يد بعض الحكومات التي تقوم بالعبث بها من خلال تفسيرات واحكام قضائية على مستوى التمييز لها نفس قوة القانون بل وتقوم بقلب القوانين النافذة رأساً على عقب ، فإن هذا هو المقتل الحقيقي للإستثمار في الأردن . والامثلة على ذلك عديدة لعل أهمها الحكم القضائي الذي ينسف أُسس قانون الشركات الخاصة محدودة المسؤولية ويسمح بملاحقة كافة الشركاء وكأن جميع المستثمرين مذنبون في نظر الدولة إلى أن تثبت براءتهم . أمر عجيب يستدعي وقفة جادة أمام العبث بالقوانين الناظمة للحياة الاقتصادية في الأردن ، وضرورة عدم وضع مقدرات الدولة في أيدي مسؤولين يفتقرون إلى الكفاءة أو القدرة على التعامل الحكيم مع السلطات التي يتمتعوا بها بحكم وظيفتهم ، والقانون يجب أن لا يستثني أحداً من أؤلئك المسؤولين من المساءلة والمحاسبة على أخطاء ارتكبوها خلال فترة عملهم وحتى ولو بعد تركهم الوظيفة . إن تفاقم الإنهيار في الوضع المالي والإقتصادي والاداري في الدولة الأردنية قد فاق حدود المعقول ودفع الكثيرين من شباب الأردن إلى فقدان القناعة بإمكانية الاصلاح أو جدواه ، وابتدأت سقوف المطالب الشعبية الحراكية بالتالي بالإرتفاع بسرعة ملحوظة للمطالبة بالإنقاذ وأحياناً بالتغيير ، وهي أمور ما زال بالامكان تفاديها إذا ما أسرعت الدولة طوعاً بتغيير نهجها بشكل مُقْنِعْ وإعادة الهيبة إلى دستور عام 1952 بما في ذلك عودة الولاية المُخْتَطَفة من السلطات الثلاثة وتكريس مبدأ الفصل بين تلك السلطات وتفعيل قوانين وإجراآت مكافحة الفساد بأنواعه وإستعادة المال العام المسروق . الاجيال الجديدة من الأردنيين في غالبيتها إما عاطلة عن العمل أو تبحث عن فرص عمل خارج الأردن ، أما طبقة الفاسدين واللصوص فهي مرتاحة كونها أولاً فوق القانون وتملك من الامكانات المادية ما يجعلها وأبنائها خارج نطاق العَوَزْ والحرمان والبطالة . المجتمع الأردني يسير الآن في اتجاه فقدان المورد البشري الشبابي الكفؤ والمؤهل والذي من شأنه أن يساهم في نقل المجتمع الأردني والإقتصاد الأردني إلى عوالم المستقبل . وإذا ما فقد الأردن أجياله الشابَّة المتعلمة فإنه سوف يعيش في الماضي ويفقد مسببات وجوده وبقائه تدريجياً خصوصاً إذا ما فقدت أجياله الجديدة قناعتها بجدوى العيش في مجتمع لا يريد أن ينظر إلى الأمام ، بل ينتهج سياسات تسمح للحاضر بأن يقتات على المستقبل لإرضاء نزوات وفساد القِلَّة القليلة .