السيمر / فيينا / السبت 27 . 07 .2019
كفاح الزهاوي
أقبل الخريف فجأة، بعد ان تنحى الربيع عن دورته، وترك بصمته على سطح الأرض، من السحر، والجمال، والماء العذب، وعبق رائحة الأرض، حيث زرع البهجة، والحياة الخضراء، للإنسان، والزهور، والطيور، والعصافير المغردة، و تمتعت الحيوانات البرية، وهي تمرح، وتسرح، في المراعي، و الأدغال، والسهول، بأروع أجوائها. وعلى حين غرة، تجهم وجه الطبيعة، وانهمر المطر مدراراً، واصفرت أوراق الشجر، وافترشت الأرض، كدستها العواصف أكواماً، يوحي للناظر وكأنما الطبيعة، تغطي ظاهرها الوان زاهية بينما تحمل بحر من الآلام والشجون في باطنها.
هبط الغسق، بعد ان ودع النهار الشفق، كانت المدينة مخنوقة تحت الضباب، وكأن حزنا بشريا يغلف وجه الحياة. كان يمشي شاردا، منحني الظهر، منكس الرأس. عاد الى شقته الصغيرة ،أكثر حزنا ووجومّا، تلك الشقة التي انتقل إليها قبل عشرة سنوات والكائنة في الطابق الثالث، تضم اثاثا قديمة، وفي ركن الغرفة ينتصب المصباح المتكون من قاعدة مدورة يخترقها عمود في وسطها، ويبلغ طوله، أكثر من متر، وفي قمته تستقر الاضاءة، لا يتذكر متى احترق المصباح، ولم يكلف نفسه عناء استبداله، وكأنه يعيش في زمن القحط.
فتح باب الشقة، شعر بأنه دخل الى كهف متروك، كما لو انه في العصور القديمة، وأغلق الباب خلفه، دون ان يشعل الضوء، حيث اكتفى بالنور القادم من المصباح العمود الرابط في الشارع، قبالة شقته، الذي تسلل أساريره عبر النافذة إلى داخل الغرفة، لتسقط على مرآة صغيرة معلقة على الحائط، فتعكس أشعته، فتغرق الغرفة ببعض من الضوء. لم يكن هناك أحدا في انتظاره، تَعَودَ على حياة الوحدة، والغربة، بعد ان خلع عن نفسه المعطف، والقى به على الكرسي الهزاز، بمحاذاة الباب، فكأنما رمى صخرة ثقيلة ،كان قد حملها على اكتافه وهو يشق طريقه الى البيت، راح يذهب ويجيء قلقا، كمن يذرع الغرفة، وإذا به أخذت خطواته تدنو من النافذة المطلة على الشارع لزقاقهم، القى نظرة صارخة على امتداد الطريق، وتتطلع بعيدا، وكأنه يراه لأول مرة، عيناه الصغيرتان الغائرتان، تذرفان بصمت دمعة، تنساب عبر أخاديد الوجه، لتستقر في بقعة غائرة على خده، كان قد أضناه الزمن، وانهكه ارث ثقيل، وكأنها بركة متروكة، تتجمع فيها المياه.
ما ان أرخى الليل سدوله، طفقت الاضواء الخافتة من الاعمدة الشارع، تتراقص بصمت ما بين أغصان الاشجار المتراصة على جانب الطريق، قبل ان تهب ريح خريفية، لتقلق هدوء الاشجار، وتسبب في سقوط أوراقها على الأرض. وجال ببصره على تلك الأبنية القديمة, الواقعة على الجهة الثانية، خلف الحديقة الصغيرة، المقابلة، لرصيف الشارع، كانت واجهتها الجدارية مزينة بزخارف تاريخية، تعود إلى زمن ما قبل ظهور الأديان، والمحلات التجارية مازالت أضواءها تشع، و الاجواء ملبدة بصمت رهيب. شعر بغصة في نفسه، وكأن غبار الزمن ضاعف من اكوامه، ليختنق في بحر اوجاعه.
ففي تلك اللحظات طفحت ذاكرته نهر من التأملات لمعاناة الإنسان، من عذابات حقيقية في الحياة، لأنها تشكل نقطة حاسمة في مجريات حياته. ويرى تجليات تلك الصورة في الموت، المرض، الجوع، والتشرد.
القى جسده بكل ثقله على السرير المهترئ، كلما تحرك يصدر صريرا مزعجا، حيث تناغم مع هذه الحالة، صار معتادا عليه ، ولا يكترث بطنينه، لبث صامتا، تحت غطاءه السميك الى ساعة متاخرة من الليل، والالم يعتصر صدره. والقلق يحيط به من كل حدب. بين فينة والفينة يشق البرق السماء، فيلقي بضيائه على النافذة العارية من الستائر، يثير في نفسه الاستياء والرغبة في التقيؤ. زمجرة الرعد تعيد الى الذهن الذكريات المُرة، المدفونة في قلبه الواجف، على شكل مفاهيم مؤلمة، الخيانة، الفراق، السعادة المفقودة، والابتسامة التي انطفأت جذوتها منذ زمن. الأمنيات الجميلة فقدت قدرتها على الطيران، اصبحت بدون اجنحة. اخفى وجهه تحت الغطاء، لعل النوم يخفف من مداهمة غيمة الصداع التي تلف رأسه. ويحصل على قدر من الانتعاش، الجسد، الخامد، المتعب.
كان الليل يطفح بالحرمان والشجن . امتلأت هواجسه عاصفة من التساؤلات، لم يجد لها جوابا مُرضيا.
قال لنفسه بصمت:
– نحن لسنا سوى حشرات ضارة، لا فائدة لنا. نأكل وننام، ونستيقظ لكي نأكل وننام ايضا، اي حياة تعيسة نعيشها، يغلفها خوف دائم. تلاحقنا الأوهام في احلامنا، تصطدم مع تناقضاتها الهدامة، لا فائدة من وجودنا طالما نموت، لماذا ينتظر الإنسان حتى الشيخوخة، ويصبح عبئا على نفسه.
بعد ان انتفضت أجفانه، اغمض عينيه، وسمع البحر يتماوج على ايقاع صرير السرير كلما حرك جسده على احدى جهتيه. واحس بنفسه يصعد ويهبط كطير نورس،عندما تحلق في فضائه الحر مرافقا للبواخر في رحلاتهم القصيرة. غرق في نومه وهو يتارجح هكذا. رأى حلما مخيفا : لمح ماردا على هيئة رجل، طويل القامة، مفتول العضلات، شعر رأسه كثيف، مشعث، طويل، لم ير الماء منذ سنوات، لحيته طويلة، غليظة، ومجعدة تغطي الوجه. ومن الصعب تمييز العينين. يرتدي ملابس سوداء، بنطال، و سترة. دخل الى الحديقة وهو يحمل سيفا حادا. بينما هو جالسا كعادته على مقعده أمام شجرة البلوط ويراقب تحركات الرجل وهو يقوم بقطع الأشجار، واحدة تلو الاخرى. وأحس بأن المارد عازم على وأد كل شيء يقع تحت قبضته ورأى أرض الحديقة الخضراء تتحول رويدا رويدا الى بحر من الدماء. بل تلطخت حيطان الحديقة باللون الأحمر القاني. يا للهول، التصقت قدميه بالارض، فقد القدرة على الحركة، والمارد كالموج المتلاطم ارتفع عاليا لابتلاع السفينة وملاحيها، يصرخ في حلمه ولكن يشعر ان حنجرته لا تقوى على إخراج الصوت. وقف مندهشا، مرتعبا. غير قادر على الوقوف أو الهروب.. قضى على الجميع وافرغ الحديقة الفاضلة من جمالها، ما عدا شجرة البلوط، التي بقيت وحيدة، وإذا بالمارد يقف أمامها. وما ان شَهَرَ السيف لقطع الشجرة انتصب هو في وجه المارد للحيلولة، دون تعرض الشجرة الى اذى.
استفاق من نومه، شعر بموجة من الرعب، والعرق يتصبب منه خوفا، لم يدر في خياله ان يرى حلما تتجلى فيه صورا مشوشة تنزع الحياة.. أيقظت القلق في نفسه، فانتابه احساس متزايد بالذعر.
بزغ فجر الصباح، والساعة المعلقة على حائط الغرفة التي تغلفها العتمة تشير الى الخامسة صباحا . قفز من سريره مبكرا بعد ان استغرق ليلته في سُهاد، لم تكن كباقي الليالي، كانت ملغومة بصواعق من التراكمات، قطرات مطر صغيرة، بدأت تنهمر على زجاج الخارجي للنافذة في غرفة تحكمها الفوضى.
دخل الى الحمام وفتح الضوء، كان النور شاحبا ، وقف متأملا نفسه في المرآة، وكأنه يرى وجهه لأول مرة ،غائر الخدين، جبهته ضيقة، شعره اشهب مجعد،وذقنه قصير. لم يبق وجهه لطيفا كما كان، مرر أصابع يده اليمنى ليتحسس غور عينيه، تراءى له غامضا، و مبهما، كانت نظرات قاتمة ،واجمة، انحبست صامتة في عينيه القاتمتين الجاحظتين. طافت على شفتيه ابتسامة ضارعة، سرعان ما تلاشت، وشعر ان صدره انقبض، رشق نفسه في المرآة نظرة احتقار لا توصف.
التقط معطفه الأسود من على الكرسي الهزاز، وفي لمحة بصر احتواه جسده النحيل.، فتح باب شقته ونزل من السلم ، تجاوز ممر البناية، ودفع الباب الرئيسي، خرج إلى الشارع،. خَيَّلَتِ السَّمَاءُ، وإذا برذاذ مطر ناعم يهطل، رفع إلى السماء عينه القاتمتين الحزينتين بصمت، كان يوما مأتميا بسماء معكرة ومنخفضة. راح يقطع الشارع بخطى ثقيلة وكأن الأرض تمسك بقدميه. يحدق في الناس دون ان يراهم، متوجها، صوب مقعده المفضل في الحديقة الواسعة على أطراف المدينة. كان يمر بازقة ضيقة متعرجة، قاطعا طريقه باتجاه الساحة المستديرة، التي انتعشت برونقها الباهر، لم تبق فيها حياة لتلك الورود ذات الألوان، المختلفة، الزاهية، فاحت منها رائحة زكية، بعد ان كانت حقلا مزدهرا، تحولت الى جسد عاري.
لم يكن اليوم كبقية الأيام، أصابه الأرق بسبب الكوابيس التي أغلقت نوافذ ذاكرته. سار في الشوارع المتوازية المؤدية الى حديقته الفاضلة، حال دخوله الى أجواء الحديقة، انتابته قشعريرة تسري كومضة بريق في بدنه النحيف، سار بخطى غير واثقة، يشوبها الشك والحذر، عيناه على وشك الهروب من مقلتيه، من كثرة التحديق وتحريكها يمينا ويسارا. جلس على مقعده أمام شجرة البلوط، و قلبه مثقلا تماما في تلك الحديقة الواسعة، في جو تسلل الشحوب احشائها، السماء مكفهرة، تمطر حزنا..
وهو في لحظة التأمل، انتابته حالة من الذهول لذلك المنظر الرهيب، وهو يتمعن بين جوانحه، لكي يجد سببا مقنعا لهذا الصراع المهووس ما بين الحياة والموت.
هتف في داخله والألم يعتصر فؤاده :
– ان تكون مجبرا على الرحيل. منقادا دون رغبة، تعيش رغما دون ارادتك، ضمن بيئة حددت مسيرة حياتك.
كانت شجرة البلوط بعمق مئات السنين، تقف بقامتها السامقة، في فِرْدَوْسها البديع، صامتة ومتحدية لكوارث الطبيعة الهوجاء بأغصانها العارية، إلا من بعض أوراقها الصفراء المائلة الى اللون البرتقالي والتي لم تزل مخزون الحياة فيها على شفا حفرة تهوي اسيرة لقدرها المحتوم. كانت عيناه تراقبان ساعة سقوط الورقة من شجرة البلوط، وهي تحلق في فضائها المحسوس تودع عالمها الذي نشأت وترعرعت في أحضانه، وفي لحظة، تتبدد كرهام المطر. تركت خلفها الذكريات الجميلة، زرعت من خلالها البسمة على شفاه المحبين، وهم يتركون بصمات البهجة على جسد الأم، في نشوة التلاحم ودفء الابدان, تقيهم من لهيب الشمس الحارقة، وهم يقضون أوقاتهم تحت ظلها المجسدة بأرواحهم. يستمدون رائحة الربيع من عبق اريجها، يتساقط الرذاذ، فتترك قطرات ندية على اجسادها، فتعكس الضوء القادم من الشمس توا، بعد ان طاردت الغيوم التي اخفتها عن الأنظار.
وقال بتنهد :
– نحن نشتكي دوما من كل شيء، الإنسان يمر بعدة مراحل، وفي كل مرحلة يعاني من مشاكل الحياة. الرغبات والطموحات تكبر، لا نكتفي، بل نريد المزيد والمزيد. هذه الوريقة الجميلة لا تطلب سوى عدم ايذائها. فهي تكبر ضمن مراحل حياتها، وتغمر الفرحة والبهجة للانسان والطيور. كم انت راقية ايتها النبات.
لم يفك ناظريه عن تلك اللحظات المؤلمة، والورقة الذابلة، تترك مضجعها قسرا، وتنفصل عن شجرة الأم، طالما رفدتهم بنهر الحياة، وحمتهم من وابلات المطر وهي تتساقط بغزارة، قصت عليهم حكايات الحب عن الطيور القادمة من أصقاع هذا العالم الغريب، يحتمون بهم كخيمة احاطتهم بهالة من السكينة ونشرت في أوصالهم دفء الأمان، يبنون أعشاشهم، يقومون بالاعتناء بصغارهم، غدت لهم سورا عاليا شامخا تحميهم من الحيوانات الضارية.
ومع لحظات هبوط الورقة الهزيلة رويدا رويدا نحو الأرض، كانت امواج الغضب تستشيط في عظامه وكأن زمن العزلة استعاد رائحة الألم بعد أن مكث طويلا في بقاع النسيان. وبدأت أسوار الحديقة تهتز وتتضرع معلنة عن حدادها. انتابه إحساس غريب ان شجرة البلوط تلفه غيمة سوداء. فقدت اشلاء من احشائها، الخريف خلع عنها جمال وجها وجسدها، وتركها عارية، تقارع برودة الشتاء القادم.
كان يشعر بالخجل البشري، أمام ألَمْ الشجرة، بينما هو قابع في مكانه كمسمار مدقوق، تشبع بالصدأ، ثابت لا يتحرك، وكأن الشجرة، تنظر اليه، وتصرخ، وتتضرع، طالبةً العون في محنتها.
قال بصوت راجف :
– لا أملك الشجاعة الكافية كما أنت يا ملكة الفردوس. لا املك سوى العزاء، وذرف الدموع، لا تنتظري مني العون. فأنا ضعيف أمام قدرات الطبيعة، انت الاقوى، بجذورك الراسخة في عمق الأرض، وقادرة، على مواجهة الرياح والعواصف.
بدا عليه منهمكا، شاردا ، شاحبا منسجماً مع شحوب الطبيعة الحزينة. هبت ريح خريفية، تسلل الى أوصاله هواء بارد، مارا بشجرة البلوط، بعد ان اخترق معطفه الأسود ، عابقا بكلمات الوداع، ووجه الأرض تتناوب بين الضياء والظلام ، حيث الشمس والغيوم في تسابق بين الظهور والاحتجاب. وكأن الأرض تتنفس، فرحة تارة، و حزينة تارة اخرى.
قال لنفسه وعيناه جامدتان :
– سرعان ما يفقد البشر كل قدرة على مواصلة حياتهم في هذا العالم.
تتقافز الأفكار لذلك المنظر المؤلم الذي لم يحيد ناظريه عنه طوال سقوط الورقة كطائر محبوس خرج طليقا إلى عالم الحرية، عالم تمتزج فيه نفحات الفرح، يشوبه نوع من القلق يصعب تفسيره، بل من الصعب تحَمٌل مشاقه، فهو أشبه برياح عاتية تغدو الى عاصفة هائلة، وحالة السقوط في منحدر، والبقاء معلقا دون القدرة على الخروج من المأزق.
ظل يحوم حول الاسئلة المعقدة التي تكبل دهاليز فكره المتعب بصدأ الزمن. وبين حين وآخر يتساقط الرذاذ، فيبلل الارض، وينعشها ببعض الرطوبة، سرعان ما تعود الشمس الى الظهور تطارد السحب، فتنشر اشعتها لبعض الوقت على شجرة البلوط، تشجع الطيور بالتناوب على فروع الأغصان.
لمح عصفورا استقر على غصن الورقة الراحلة وما لبث الطائر الجميل ان اكتشف بسرعة البرق غيابها، فسارع بالهجرة. ربما أصابه انياب الحزن فؤاده، فاطلق الالم عنانه فهرع نحو المجهول.
قال والحزن يساور خوالجه :
– كم هي مؤلمة ساعة الفراق البطيئة، بعد ان كانت فردا تنتمي إلى تلك الشجرة الباسقة.
استقرت نظراته أكثر عمقا باتجاه الشجرة .. قال وهو يطلق زفيرا عميقا.
– الحياة ليست سوى مطر صيفي يهطل بقوة، ولكن سريعة الزوال. متاهة صعبة تفرض على الإنسان بشكل جبري.
ساد صمت مطبق، وفجاة تجمعت الطيور على شجرة البلوط، سمع غمغمة تنبعث من أصواتهم، حَسِبَ انهم يغنون بصوت منخفض، لحنا مؤلما ورتيبا، وتناهى الى سمعه من بعيد، هدير البحر، وتلاطم الأمواج، تجسد كآبة غريبة ،السماء تتكدر، وتعلن عن نهاية مؤلمة، دق ناقوس الرحيل، وتوارت الورقة عن الأنظار، والتحقت بالاف الأوراق الهاوية على المساحة الخضراء، وصارت ذكرى في صندوق النسيان.