الرئيسية / اصدارات جديدة / ويظل وطيس القوافي حاميا على مدى الأزمان

ويظل وطيس القوافي حاميا على مدى الأزمان

السيمر / فيينا / الاثنين 30 . 09 . 2019

د. نضير الخزرجي

الذهب هو الذهب إن كان في المناجم خاما طبيعيا أو مصهورا في قوالب وسبائك أو قطعا متفرقة أو أشكالا هندسية مختلفة الأحجام تثير عيون المرأة وبريقها وعشقها الفطري لهذا الفلز الذي تتعامل به اقتصاديات البلدان على أساس ما عندها من إيداعات في البنوك تحمي العملة المحلية وتدافع عن إقتصاد البلد.

والذهب هو الذهب عصب الحياة، لكن مثقاله يختلف سعرا من وزن إلى آخر حسب ما فيه من نحاس، فالعيار 24 قيراط هو غير 22 وغير 21 و18 و12 و9  وإن كان المسمى واحدا، فيقال للقلادة من عيار 24 ذهبا وكذلك للقلادة من عيار 9، فالكل ذهب، لكنه يختلف ثمنا من قطعة إلى أخرى، فالناظر الى القلادة لا يقول سوى أن المرأة متزينة بالذهب، وهو قول يشمل جميع الناظرين لأن المنظور إليه ذهب لا غير، ولكن الذي تزين به يعرف قيمته ويدركه الناظر الضليع.

وهذه النظرة المتباينة للأشياء من جنس أو نوع هي نظرة عامة لا يختلف عليها إثنان، فعلى سبيل المثال كل الجياد في الإسطبل يقال لها جياد ولكن مالكها والضليع بها يعرف قيمة كل جواد، وأن ليس كل جوادين بسعر واحد، فالذي يستعمل لجر العربة هو غير الذي يجري في مضمار السباق.

وفي الحياة اليومية فإن الإنسان لا يختلف الواحد عن الآخر من حيث الجنس في مقابل الجماد والحيوان والنبات والجن والملائكة وما نعلم من خلق الله وما لا نعلم، ولكن نوع كل واحد يختلف عن الآخر وحتى في البيت الواحد فإن الأولاد من أب وام واحدة يختلفون جسمانيا ونفسيا. إذن فالجنس واحد والإختلاف في النوع، وفي النوع اختلافات تفصيلية، تتباين من مجموعة بشرية إلى أخرى يدركها كل إنسان، وهي من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد شرح.

وهذه القاعدة تنطبق هي الأخرى على لغة كل مجتمع وأدبه، فاللغة العربية مورد هذه المقالة جنسها متكون من 28 حرفًا، لكن الإختلاف يقع في نوع الكلام المتشكل من هذه الحروف، فالنثر غير النظم، والنثر في أدبه تفريعات مثل أدب الرسائل وأدب الخطابة وأدب القصة وأدب الرواية، وهذا التنوع سار على النظم أيضا، فهناك العمودي والحر والمقفى والمسجّع والفصيح والدارج وغير ذلك، ولكل نوع تفريعات كثيرة يعرفها أهل الفن والمتلقي المتذوق له.

والكلام هو في واقعه كالذهب الخام، لكنما يطيب لفظا وتلقيا عندما يُصار إلى صياغة هي أقرب الى فؤاد المتلقي وشغافه، مثلما يجذب بريق الذهب وصياغته بنات حواء، وعندما تصاغ وقائع الحياة وحوادثه في قالب شعري فإنها تأخذ بعدا أدبيا عالية المضامين، وهذا ما أتى به الأديب والمحقق آية الله الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي صاحب دائرة المعارف الحسينية التي صدر منها حتى اليوم (116) جزءًا، عندما صاغ واقعة كربلاء في ديوان شعري أبان عبر القوافي في 477 قصيدة دور الأنصار فيها من رجال ونساء وأطفال، فضلا عن الإمام الحسين عليه السلام، أسماه: “سفائن الأمل في الحسين والقلل” في جزأين صدرا حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت، ضم الأول 235 قصيدة في 550 صفحة من القطع الوزيري والبقية (242) في الجزء الثاني في 567 صفحة من القياس نفسه.

قوافي المعرفة

من طبيعة الشعر أن ناظمه وشاعره يحلق في فضاءات بعيدة المدى يتحسس الحالة بمجسّات عواطفه، داعيا المتلقي إلى استشعار ما يشعل جوانحه ويغلي فؤاده، فيموج الشاعر والمتلقي معًا في بحر لجي من المشاعر الجياشة.

ولما كان ديوان “سفائن الأمل” هو قراءة لموقف كل مشارك في واقعة كربلاء عام 61م إلى جانب معسكر الإمام الحسين (ع) فإن القارئ والمتلقي سيجد الأمر مختلفا نوعا ما، فالشاعر الكرباسي أفرغ في صدر الأبيات وعجزها حمولة قوامها معلومات ومعارف توصّل إليها عبر سنوات من التحقيق والتمحيص والتدقيق عن عاشوراء ورجالاتها، وربما نفى معلومة شائعة أو أثبت أخرى يراودها الشك أو وافق الرأي ثالثة مع من سبقه من المؤرخين والمحققين، وقد أوضحت في قراءة معرفية سابقة عن الجزء الأول نشرت في الصحافة العربية تحت عنوان: (ملحمة القوافي في يوم لا مثيل له ولا عديل) أن “سفائن الأمل” هو الوجه النظمي بعد الشرح النثري لأنصار الحسين (ع) من الهاشميين وغير الهاشميين من النساء والرجال الذي جاء في عشرة أجزاء من دائرة المعارف الحسينية ثلاثة للأنصار الهاشميين الذكور وأربعة للأنصار الذكور غير الهاشميين وثلاثة للأنصار الإناث من الهاشميات وغيرهن، وحيث أثبت المحقق الكرباسي في الوجه النثري أو نفى ما توصل إليه عن كل ناصر، فإنه نقل هذه المعرفة من طابعها النثري إلى الشعري فأوردها منضدة عبر قنوات القوافي.

ومن الشواهد على ذلك، قوله في السيدة شاه زنان (سيدة النساء) زوجة الإمام الحسين عليه السلام التي ماتت في نفاسها بعدما أولدت للأسرة العلوية الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام، نافيا قول البعض أنها كانت على قيد الحياة عند وقوع عاشوراء وأنها حضرت كربلاء، فأنشد من بحر الرمل المحذوف من قصيدة بعنوان: “إبنة كسرى” قائلا في بعضها:

اتفاق الرأي في فوتها نَفْـــ *** ساءَ هذا حاصل ذاك قبلا

إنْ أتى قول فشاذٌ جرى فيـــ *** ــنا فلا يعني صحيحًا يُحَلَّى

ومن ذلك قصيدة بعنوان: “إبن جعدة” من بحر المترجز المسدس ينشد ناظما:

عباس يا سميَّ الساقي أنت دَوْ *** مًا في حراسة المولى لا تُختذلْ

مَنْ في حماكَ يجري يحظى بالمُنى *** إذ يرتقي عُلًا حتى يَرقى الجبلْ

وهنا توثيق لشخصية عباس بن جعدة الجدلى المستشهد يوم عاشوراء، والساقي إشارة إلى ساقي عطاشا كربلاء وحامل لواء المعسكر الحسيني العباس بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فالشعراء والكتاب وأصحاب المقاتل أكثروا من بيان المواقف البطولية للعباس بن علي عليهما السلام وهو إبن بجدتها وأهلها، حتى شاع الظن أنه لم يكن في معسكر الإمام الحسين عليه السلام من يحمل اسم  “عباس” سوى حامل رايته.

ومن شواهد قوافي المعرفة قوله في الحجاج بن مسروق التميمي المستشهد في كربلاء، من قصيدة بعنوان: “إبن مسروق” من بحر الرمل المربوع:

رُبَّما قالوا: أبوه اسمُهُ *** قد أتى مرزوقَ ربٍّ سَهْمُهُ

قلتُ: تصحيفًا أتى إنَّ ذا *** واردٌ في نسخِهِمْ رَقمُهُ

وهنا يوضح المحقق والناظم بإن البعض قد نسب الحجاج إلى مرزوق أبيه، ولكن التحقيق يثبت أن إسم الأب هو مسروق، ومرزوق إنما هو من تصحيف النساخ ومن أخذ من النسخة المغلوطة حتى شاع غلطًا.

إبداعات شعرية

من لوازم القصيدة العمودية التقيُّد بقواعد البحر والوزن والروي والقافية، وهذا الإلتزام المصاحب لقوة البلاغة وتعدد المفردات وتنوعها وجزالتها وفيض المشاعر يهب القصيدة قوة والشاعر رفعة، فالشعراء كثيرون والمبدعون من القلَّة قِسْمُ، والقصائد كثيرة وقليلها من القلَّة عُصْمُ، والشاعر المجيد مثل الماء الجاري يحمل شعره كل جديد نظما ونوعا ولونا.

وعلى الرغم من أن ديوان “سفائن الأمل” في مؤداه العام نظم قائم على المعرفة والتوضيح وتعجيم المبهم من السيرة، لكن الناظم لم يغفل تنويع النظم وإكساء القصيدة حلة قشيبة من الإبداع مثلما هو العقد المنضد المحلّى بأنواع الأحجار الكريمة، فتضمن الديوان قصائد المزدوجات والمرّبع والمخمّس والمعشّر وأمثال ذلك من المسمطات والملمعات والألوان الشعرية.

ومن شواهد هذا الفن من النظم ما جاء في المزدوجة من بحر الرمل المسدس المحذوف بعنوان: “ذاتُ الشرفين”:

أم أسحاق علا فيها الشَّرَفْ *** إذ حظت بَعْلَين من خير السَّلَفْ

إلى أن يختم بالقول:

لم تشأ زوجًا لغير السُّجَّدِ *** من إمامٍ راشدٍ أو مُقتدي

أرَّخوا فيها بتأريخ غدا *** كذبُهُ يُجلى على مَن يُهتدى

فهذا اللون من الشعر قائم على المزدوجات حيث تتشابه نهاية كل صدر مع نهاية العجز بالروي والقافية وتتنوع القافية في كل بيت، وفي هذه القصيدة ينفي الناظم عن السيدة أم إسحاق بنت طلحة التيمية زوجة الإمام الحسن عليه السلام ثم الإمام الحسين عليه السلام أنها بعد استشهاد بعلها وابنها علي الأصغر بن الإمام الحسين عليه السلام قد تزوجت بآخر.

ومن الألوان الشعرية قول الناظم من قصيدة بعنوان: “مّسَحَ القَلَم” من بحر المثمن المتدارك المخبون:

بَدَأ الأختلاف الذي في النَّسَبْ *** فجرى المحتوى عندها في الأدَبْ

مُسِحَ الفهمُ  في أحمدٍ بالقَلَمْ *** فقضى أمره بالذي قد حَسَمْ

وهكذا تستمر القصيدة على هذا المنوال حيث ازدوج أول الصدر بآخر العجز وأخذ كل بيت شعر قافية مغايرة عن البيت الذي قبله والذي بعده، ويلاحظ في مثل هذا الفن أن قافية العجز هي مقلوب أول كلمة من الصدر، فكلمة “بدأ” قابلها “أدب: وكلمة “مسح” قابلها “حسم” وهكذا في بقية أبيات القصيدة. وهنا تبيان للإختلاف بين المؤرخين في وجود شخصية أحمد بن مسلم بن عقيل الهاشمي أو أنه هو ومحمد الأكبر إبن مسلم بن عقيل الهاشمي متحدان، أوْ لا وجود له أصلا، ويحتمل الناظم في معجم أنصار الحسين (الهاشميون) أن تغايرهما أمر وارد كما إنَّ احتمال حضورهما واقعة كربلاء أمر وارد.

ومن الألوان الشعرية هو التخميس حيث يقوم شاعر بإضافة ثلاثة أشطر على بيت شعر معروف أو به اشتهر ناظمه فيغدو البيت المخمَّس متشكلاً من خمسة أشطر حيث تشترك نهايات الأشطر الثلاثة مع قافية البيت أو مع نهاية الصدر، وقد يكون البيت الأصل من نظم المخمِّس نفسه أيضا، ومن ذلك التخميستان من بحر الطويل بعنوان: “عفى الدهرُ”:

حسينٌ قضى بالطفِّ من دونِ موئِلِ *** به ذِكْرُ شِلْوٍ في العراء مُجدَّلِ

عفا الدَّهْرُ عنْ قولٍ قبيلَ المُزَمَّلِ

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ *** بِسقْطِ اللِّوى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ

حبيبي حسينٌ في البهاليلُ قَرْمُها *** فذي كربلا لي منزلٌ عزَّ قَوْمُها

بدمعي عليهم فاضَ ريّانَ كَرْمُها

فَتوضِحَ فالمقراةِ لم يعفُ رَسْمُها *** لما نسجتها من جَنوبٍ وشمأَلِ

فالناظم خمّس بيتين من معلقة الشاعر امرئ القيس بن حجر الكندي المتوفى سنة 80 قبل الهجرة، في التخميسة الأولى اشتركت الأشطر الثلاثة مع عجز البيت أي قافية القصيدة وفي الثانية اشتركت مع نهاية الصدر.

من المفيد بيانه أن القصائد التي توزعت على الجزأين الأول والثاني تمثل جانبا من نتاج الناظم في إطار (أدب الطريق)، حيث امتد نظمها نحو خمس سنوات بدءًا من يوم (15/2/1431هـ) وانتهاءً بيوم (2/12/1435هـ) (31/1/2010- 27/9/2014م)، وهي حاصل الحركة راجلا من المنزل إلى المركز الحسيني للدراسات بلندن وبالعكس، ولا يعني أن هذه الفترة غطت ديوان “سفائن الأمل” فقط، وإنما هناك دواوين أخرى في مجالات أخرى نظم الشيخ الكرباسي قصائدها في هذه الفترة وفي غيرها.

وحيث تصدَّر الجزء الأول مقدمة بقلم الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شَبِّين المولود في العاصمة الجزائر سنة 1969م، الذي وجد في الديوان: (متعة ووهجا، وشاعرنا ذو يراع سيّال، وقريحة متَّقدة أصيلة طبعا، وملكة شعرية ملهمة لا تعرف خمولا، وإبداع منساب ثابت لا يردُه انكسار، وطموحهُ أبعد من ناظريه، وبصيرته أحدّ من عينيه، ذلك ما خبرته عن شخصه الكريم، وسعيه في تجميع المواهب، طيلة سنين خلت لم أبرح مكتبه بالمركز الحسيني)، فإن الجزء الثاني اختتم بمقدمة نثرية وأخرى شعرية للأديب العراقي الشاعر رحيم الشاهر الربيعي المولود في كربلاء المقدسة سنة 1968م، الذي وجد في: (سفائن الأمل في الحسين والقلل قصائد جمّة، قيلت لترسم لوحة أخرى لمعركة الطف، لكنها لوحة، أسمِّيها وبموجب موسوعتي المعرفية النقدية: لوحة تعريفية توثيقية تتويجية لأصحاب الحسين عليه السلام، وهي عندي بمثابة الطريق إلى الطف، يقابله حاضرًا الطريق إلى كربلاء).

ويضيف من بحر الكامل المربع مقرظًا الناظم:

الحرفُ عندكَ يكتبُ *** بلظى الطفوف مهذَّبُ

يا من تجيدُ ضياءهُ *** فإذا استشاركَ ينجبُ

ثم ينشد ناظما في وصف دائرة المعارف الحسينية:

دارُ المعارف دوحةٌ *** فيها القوافي تعذبُ

ويختم قصيدته بالقول:

كرباسي تمسَّك أنجمًا *** ولكَ المجرَّة منكَبُ

وحيث يبدو للوهلة الأولى أن أنصار الإمام الحسين عليه السلام هم فقط الذين وردت أسماؤهم في الديوان، لكن الأديب الكرباسي أنهى الثاني بملاحظة قال فيها: (هناك عدد من الأسماء ممن وردت أسماؤهم ضمن هذا المعسكر، إلا أننا لم نتمكن من التحقيق حول شخصيتهم كي ننظم فيهم، وإذا ما ثبت ذلك فسوف نقوم بالنظم فيهم إن شاء الله تعالى)، وهذه الملاحظة تعطي انطباعا مهما عن مدى اهتمام الأديب والمحقق الكرباسي في التثبت من أية شخصية ورد اسمها في المصادر التاريخية والوثائق الحسينية، فالنظم ليس هو الهدف كما عند كثير من الشعراء، لكن التثبت والقطع أو شبه القطع هو الأصل، وهذا هو المائز البارز بين الشاعر الأديب والمحقق الشاعر.

الرأي الآخر للدراسات- لندن


اترك تعليقاً