السيمر / فيينا / الاربعاء 30 . 10 . 2019
مصطفى منيغ / المغرب
سِياسةٌ بالفشل المضمون مُلبِّدة ، لأي انفراج مستقبلي مُهَدِّدَة ، حتى الحوار في ظلها حتماً سينتهي لسُبُلٍ مقفولة مسدودة ، مهما كانت الأنظار إليها مشدودة ، انهارت بالمدافعين عنها المنضوين تحت لواء نفس “القلة” الباقية لتلوين الفساد بلون يرمز كالعادة بصور مُتعدِّدَة ، لانعدام الجدية القديمة – الجديدة ، ضاربة عرض الحائط بمطالب قي مستوى اختيار إمَّا وإمّا المفهومتان لدى المغاربة إتباعاً لتقنية الاتصال حالياً بينهم سائدة ، وما يتلوها مِن أفكار ستُتَرجَمُ لنضالات رائدة ، تُبْعِدُ أصحابها عن استفزازات القنابل المسيلة للدموع خلال مواجهات سلمية بتكنولوجية العصر محدَدَّة .
… مدينة القصر الكبير لن تُدفَن حيَّة في مقابر مصالح البعض الظانين أنهم ضمنوا الاستمرار على نفس المنوال منذ سنوات ، يتهيأ لهم ذلك لجهلهم القاطع بتاريخها النضالي عبر القرون وليس الأعوام ، وما دام هناك جيلي المبتدئ بفصل دراسي ضمَّ ثمانين طالباً في بناية أصلها يهودي ، استطاعَ أحرار حزب الاستقلال ومن بينهم الراحل الاستاذ أحمد الجباري أن يحوِّلوها لأول ثانوية في تاريخ المدينة المعاصر ، أدارها الاستاذ مصطفى الشاوش وتكوَّن طاقمها التدريسي من الأساتذة الرواد الإجلاء العياشي الحمدوني وعبد السلام طريبق وغيرهما . هؤلاء الطلبة (الذكور والإناث) المُعتبَرين شجرة “الوعي القصري” الكريمة الشريفة المتفرعة لمن تَجِرِي في عروقهم الآن محبة مدينة القصر الكبير عنواناً لهويتها المثقلة بالأمجاد المفعمة بالعزة والكرامة ، ما دام جيلي (المُغيِّبة المنون بعضهم) قائماً مُتواجداً لن يرتاح المفسدون بين ربوعها مهما حاولوا والزمن كَشَّاف.
————————
… مَن يَرانا مِن الخلف يَتَوَهَّم في جلستنا الرومانسية تلك امرأة ورجل متقاربين، رأسها متّكِئٌ على عاتقه الأيمن ، في حنان ، يُفْرِشُ بالورود أرضية الاحتضان ، ليسبَحا بذراعي الحب وسط هذا الموقع الساحر المُنْعَكِسَة أفنان الشجر فوق لجين بحيرته المُتَحَوِّل ماؤُها أخضَر ليصبح بما شمل عُشّاً شاعِرِيّاً يخفي همسات العاشقين ، عن صَيَّاد التمتع بمناظر الجمال ما وراء الخيال على طبيعته بلا آهة أنين ، وإن لفَّ ليرانا من الأمام مقترباً عن صدمة مُني بها خياله ليرى وجهي مُغْرَق بالدموع ومَن بجانبي امرأة حطّمها التذكُّر فلم تعد قادرة على حمل رأسها فانقاد ليرتاح حيث أنِسَ مَكْمَن الراحة ، أحياناً نَرَى في مَنْ رَآنَا من الخلف ، ما يدعونا لإصلاح أي خطأ في الفهم أو التقدير أُسْنِدَ لارتكابه لنا ، بالتصرُّف الهادئ الشارِحِ مِن تلقاء نفسه أن خُصُوصِيَةَ الإنسانِ مقدَّسة ما دامت مطابقة لرضي الضمير ، المتعاملة مع أي آخَرٍ بما لا يُسيء شكلاً ومضموناً إن مشى بجانبنا لنفس المصير ، و وَضَعَ نفسه مثلي رهن إشارة مستغيثة مصابة بضيق سرٍ لخطورة مخلفاته سِواها غير مُبصر.
… مَا بَكَيْتُ متأثراُ أكثرَ ممَّا بكيتُ والسيدة الطيبة تروي لشخصي المتواضع قصتها دون تحفظ أو خجل أو حذر، انطلقت في الكلام التلقائي العفوي لتريح صدرها من ضيق سر زاحمها على التنفُّس من سنين طويلة مرت من عمرها المشحون بالمآسي حيث قالت:
“تزوَّجتُ رجلاً ثرياً يكبرني باثنين وأربعين سنة ، أخذني من ملجئ خيري وعمري لا يتجاوز الثامنة عشرة ربيعاً ، بنفس المدة الزمنية التي قضيتُها مع اليتامى ، والمُتَخَلَّى عنهم ، من طرف أبائهم أو أمهاتهم لسبب من الأسباب، أو اللقطاء مثلي . في نفس المكان ، حُرمتُ من أي شيء أو كل شيء من الممكن تصوره ، أسمعُ كلمتي “بابا” “ماما” مع أولى خطواتي في هذه الدنيا دون أن أعي بمدلولهما الحقيقي ، إلى أن كبرتُ فبدأت الشكوك تُراودني إن كنت أنسانة بجسد وروح أو مًجرَّد خشبة تتحرك دون إحساس بمفعول تحركها بالأحرى هدفه ، ما دمتُ بلا اسم ولا منبع ،أو بوصف أكثر دقة مجرَّد مجهولة . حتى القطة مُعترف بها ممّن كانا السبب في وجودها ، تغذت بامتصاص حليب أمها ، وترعرعت بحماية والدها ، لا يهم مصيرها من بعد ، المهم أنها ذاقت من دفء طبيعة بيئتها ، بخلاف ما تعرضتُ له من قذف مشين داخل عالم لا تسمع فيه إلا الأوامر بفعل هذا وترك ذاك كآلة مدفوعة للصيانة أو سجينة محكوم عليها بفقدان الحرية وهي لا تزال ملفوفة في ثوب لا تُطاق رائحتهُ ، كومة من لحم تجاهد بيديها الصغيرتين معبرة بجوعها عن حقها في الحياة ، وليتها تُركت حيث وُجِدت ليفترسها حيوان جائع ، مهما شعرت بالألم الفضيع فلن يطول كما طال ألمي لثمانية عشر حَوْلاً كلقيطة ، الرجل الذي تزوجته مقتنعة عن طيب خاطر بحظي وتخلُّصاً ممَّا كنتُ فيه ، لمحني بالصدفة داخل الملجأ حينما حضر لتقديم هبة مالية كعادته كل رأس سنة جديدة ، ولم يخرج من مكتب المديرة دون حصوله علي مباركة الزواج مني ، ومنذ تلك اللحظة عرفت حياتي نوعاً جديدا من التعاسة والأسى والحرمان والتعرض للمهانة المتكررة من أولاده وابنة شقيقه كُلِّفتُ بتربيتهم معوضة أمهاتهم ، في الواقع ولأول مرة ظهر لي الملجأ أَحنَّ عليَّ ممَّا أنا فيه . بين الفينة والأخرى أرتاح حالما يتفكر زوجي أن له بيت أسرة وزوجة شابة وعدها بكل شي ولم يوفِّر لها أي شي ، ما أن يحضر حتى يسافر لأعماله التجارية وتدبير شؤون مشاريعه الضخمة داخل اسبانيا وخارجها . من خمسة سنين مرت توفي تاركاً وصية ملكتُ بواسطتها هذه الضيعة بحدودها المحفَّظة لدى الدوائر المُختصة بما فوقها من مزوعات ودواب ، بالإضافة لمبلغ ضخم من المال يفوق حاجاتي لعشرات الأعوام . لا أدري لما فعل هذا إذ لم اشعر يوماً أنني مفضلة لديه ، والأخطر أنه لم يلمسني فبقيتُ كما كنت حتى هذه الساعة عذراء . شعرتُ من سنة تقريبا بصحتي تتدهور يوما بعد يوم ، في المصحة كانت الصدمة الرهيبة وأنا أتلقى نبأ وفاتي من فم طبيب مختص بأمراض القلب ، من أسبوع فقط أكَّدَ لي أن حياتي في الدنيا لن تدوم سوى بضع أسابيع وفي الأقصى بضع شهور ، لذا حالما رأيتكَ واستمعتُ لحديثكَ وتتبَّعتُ تصرفاتك النبيلة معي تمنيتُ أن أموت بين ذراعيك”.
في طريق عودتنا إلى البيت في صمت مثقل بالتجهم والحزن ، لا أدري لما تخيَّلتُ كارمين في مدينة ابن تاشفين .(يتبع)