السيمر / فيينا / الخميس 20 . 02 . 2020
* رواء الجصاني
… والعراق الحديث المقصود في العنوان هي الفترة الممتدة مابين ما يعرف بالحكم الوطني بعد تنصيب فيصل الاول ملكا على العراق عام 1921 والى زمننا الحاضر.. وبدءا يهم التوضيح بأن هذه الكتابة ليست بحثا مفصلاً، ولا دراسة شاملة، وانما وقفات وتوثيقات سريعة ربما تصلح مقدماتٍ لتوثيق بعض تاريخ ووقائع هذا السلوك السياسي، السلطوي، والمجتمعي، والنوازع والدوافع والمسببات التي ترتبت – وتترتب- في ضوئها مصائر الناس والاوطان بكل وقائعها المؤلمة المؤسية، او المبهجة الجميلة، وبحسب تلك القناعات والتفاسيـر او سواها .
.. ويأخذنا الحديث عن العنف “الانساني” الممارس عند السلطة وفي المجتمع، المعنوي والجسدي، وأبشعه التعذيب والقتل، الى عصور مديدة سالفة، ومع بدء التاريخ المكتوب للخليقة والموثق لها على الاقل.. وذلك امامنا ما حدث عند بدء الخليقة، وهو قيام (قابيل) بقتل أخيه (هابيل) ولديّ آدم (ابي البشرية) من امهما حواء، بحسب ماجاءت به الروايات الدينية. وهكذا استمر- ويستمر- العنف بمختلف اشكاله، ومبرراته، ودوافعه الى اليوم، آخذاً مديات قسوة وعنف متباينة بحكم التشكيلات المجتمعية السائدة، وقوام الزعامات والسلطات وتركيبها، اضافة لظروف المناخ الطبيعية والجغرافية، والبيئة وغير ذلك من جوانب اخرى عديدة .. وفي هذا السياق لا يجوز العبور دون الاشارة الى التراكمات السلبية المؤثرة للهيمنة والاحتلال بالغة القسوة والعنف التي مرت على العراق في ظل التنازع، وحروب السيطرة عليه، من الجارتين تركيا وايران على مدى قرون..
* بحــوث ودراســات
ان ثمة الكثير من المؤلفات، لمختصين قديرين قد تناولت وتوقفت، وأرخت لهذا الواقع والسلوك البشري، الجماعي والفردي، كتبا وبحوثا ودراسات توثيقية وسايكولوجية واجتماعية واقتصادية وفلسفية وعداها.. وفي بطونها توصيفات وتفاصيل ومعالجات ومن منطلقات فكرية ورؤيوية متابينة. وهي متوفرة للباحث المتخصص، وكذلك للمتابع المهتم بهذه الحال (1) . اما السياسيون (والمؤدلجون منهم خاصة) فهم ليسوا بحريصين على الالمام التفصيلي ذي الصلة، بل ينصب اهتمامهم بشكل رئيس على تفسير المجريات ووضعها في نصابها ( نصابهم) كما يعتقدون او يرون، ليدافعوا عن متبنياتهم النظرية التي تدعو للعنف، أو تبرره وتتبناه علناً او باطناً، بقناعات ورؤى تُعنى بتفسير التاريخ ومراحل تطوره، والضرورات الملازمة ..
* تداخل العنف السياسي، السلطوي والمجتمعي
وما نعنيه بهذا الصدد، اي تداخل العنف السلطوي والمجتمعي، محاولة تبيان التداخل بين ذينك الجانبين بشكل متشابك، وتداعيات الاول على الثاني، او العكس. اما التأثير والمسؤولية الاكبر عن اعتماد العنف بكل اشكاله، البسيطة واللفظية والدموية، المجتمعية والسلطوية، فتختلف المقاييس والمواقف بشأنها، بالاستناد على مفاهيم وتحليلات مدعمةٌ كلها، من اصحابها، بأمثلة حسية أو عملية ميدانية. وهنا ثمة وقفة ذات اهمية كما نرى وهي ما يجادل به المختصون حول الموضوع، وهي ان السلوك المجتعي المستند الى الجذور التاريخية، ومعايير الوعي السائد، ومستوى التعليم ومجالات المعرفة، والتربية العائلية، والظروف والتأثيرات المحيطة.. تفرض قيام تلك السطة أوهذه، بشكلها المدني – الديمقراطي، او الدكتاتوري الشمولي. وكل هذا نتابع عنه في حالنا العراقية الراهنة وحسب، وليس متابعة سلطات ورئاسات وزعامات وأنظمة القرون السالفة.
وفي استطراد عجول آخر عن دوافع العنف السياسي، وخاصة الدموي، واسبابه ” العراقية” ندعي مرة اخرى بانها، اضافة للمعايير العامة (السايكولوجية – الدينية- السياسية..) تتعلق بالقيـم والاعراف التي سادت- أو تسود- ووفي مقدمتها الظروف المجتمعية والتقاليد العشائرية والقبلية، والتربية البيتية، والتخلف التعليمي والمعرفي، والظروف الطبيعية، والموقع الجغرافي، والطائفية المذهبية، والانقسام القومي، والتنوع الديني، والهيمنة والتدخلات الاقليمية والدولية. ولا شك فأن لكل واحد من تلك الاسباب (العراقية) تفاصيل واوليات ووقائع تطلبت – وتتطلب- لوحدها بحثا / بحوثا خاصة ومسهبة..
* أحداث ووقائع تاريخية وراهنة
ان الشواهد على العنف السياسي السلطوي منه (المقنن وغيره) والمجتمعي (الفردي والعام) في العراق الحديث: عديدة ومتعددة في مختلف العهود الملكية منها والجمهورية، ومن البارز منها على ما يعلمنا به التاريخ، ووفق التسميات الشائعة التي اطلقت عليها، أو عُرفت بها : ابادة الاشوريين عام 1933، انقلاب بكر صدقي 1936 ، حركة رشيد عالي عام 1941، وثبة كانون 1948 انتفاضة تشرين عام 1952 ، ثورة 14 تموز 1958 حركة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل عام 1959 ، احداث كركوك عام 1959، الثورة الكردية منذ عام 1961 وحتى 1991(2) انقلاب البعث الاول في شباط 1963، النظام الحاكم منذ اواخر السبعينات وحتى سقوطه عام 2003 (3) الحرب مع ايران- 1980- 1988، غزو الكويت 1990، انتفاضة عام 1991… ثم ما بعد انهيار النظام والتدخل الخارجي عام 2003 وما تلى ذلك الى اليوم : الحرب الاهلية – الطائفية، مقاومة الاحتلال، ارهاب “القاعدة” وبعدها “داعش” واخيرا ما أنطلق في البلاد منذ تشرين الاول 2019 من احتجاجات شعبية، ومواجهتها من السلطات واجهزتها..
وارتباطا مع الفقرة اعلاه تذكرنا الاحداث والوقائع بان العنف السلطوي قد قام وأشتد بصور شتى، من خلال الدعم المجتمعي الشعبي في احيان عديدة، حين انساقت مع ذلك العنف، وتبنته، تيارات وقوى واحزاب سياسية، بل وشكلت مجاميع وهياكل داعمة له، ولو بأهداف “وطنية” في اهدافها المعلنة، مثل “كتائب الشباب” مطلع الاربعينات و”المقاومة الشعبية” اواخر الخمسينات و”الحرس القومي” عام 1963 و”الجيش الشعبي” في السبعينات والثمانينات والتسعينات، و”الحشد الشعبي والعشائري” بعد عام 2003.. الى جانب “بيشمركة” الاحزاب الكردية، و”قوات الانصار” الشيوعية في كردستان العراق وشماله.. وتتباين الرؤى والمواقف والتقييمات لتلك التشكيلات بين الاتهام والادانة، وبين التأييد والدعم، من قبل جماهير غفيرة، تبنتها وانضمت اليها، او ساندتها ودافعت عنها..
ومن المؤكد ان ما تشير اليه هذه المتابعة من مصطلحات قد لا تعجب البعض، ويستنكرها عديدون آخرون، ناسين بأن الهدف هنا ليس التقييم او التحليل حول “مشروعية” و”حقانية” ذلك العنف والمسؤولين عنه والمشاركين فيه. وان التعابير الواردة في هذه الكتابة مثل الحركة والانقلاب، والتمرد، او الانتفاضة او الثورة، والحرب المشروعة، وغيرها، هي تسميات شائعة كا اسلفنا، يتبناها قسم من المجتمع، بينما يعارضها قسم آخر، ويستبدلها بمصطلحات مقابلة .. ولكن ما هو متفق عليه – بحسب ما نزعم- ان كل الذي صاحب الاحداث السياسية المشار لها: مواجهات مسلحة وعنف واقتتال وضحايا ودماء وعسف وقتل تتحمل ثقله الاساس السطات الحاكمة اولا – بالطبع- باعتبارها صاحبة الالة العسكرية والقوات الامنية وغيرها من اجهزة ومؤسسات ..
* دفوعــات وإدانــات
وبالارتباط مع ما تقدم، بل واستنادا اليه، فأن من الطبيعي، والحال كذلك، ان يجد “الظالمون” و”المظلومون” وعلى سبيل التعميم لا الحصر، تفاسير متعددة ودفاعات عن مشروعية العنف الذي رافق تلك الاحداث، ومن بينها – على سبيل المثال لا الحصر، ايضا: المصالح الوطنية، المشروعية الثورية، الصراع الطبقي والاجتماعي، النضال من اجل التقدم، الحرص على مصالح البلاد، حق الدفاع عن النفس، حماية الاستقلال الوطني، رفض الهيمنة الاجنبية، الكفاح ضد الجوروالظلم … وهكذا.
أن لكل من الجانبين “الظالمين” و”المظلومين” اي ممارسي العنف، والـ المُعنفين” تفاسيرهم وما يستندون عليه من ركائز واسس وافكار، ونظريات، مركزية عامة، وتفصيلات عملية ملموسة، ووقائع يستشهدون بها على مبررات استخدام المواجهة والعنف. ولهم ايضا جموع من السياسيين والمفكرين والمنظرين وكتابهم (كما كتبتهم) وجماهيرهم ومؤيدوهم وأعلامهم ونشرياتهم .. كما لهم شعراء وفنانون، ومبدوعون، مؤمنون بما انتجوا ثقافيا ، ولو ان عددا غير قليل منهم قد تراجع لاحقا، وفسر الاحداث والمواقف من جديد . والشاهد الموثق حول ما نقول هو العشرات، بل والمئات، ممن مجدّوا العنف والحروب والدماء، بكتابات وقصائد ونثريات ولوحات وتشكيلات فنية وغيرها. وكان اصحابها يرون بأن ما قدموه جاء دفاعا عن الحق والمشروعية والضرورة، والمبادئ والقناعات.. وما علينا هنا بجموع اخرى من الموظفين أو الذين يعملون وينتجون لغرض المعيشة، الحلال او الحرام !.
ويقيناً ان هناك الكثير من الخصوصيات والواقع التي تفرض على المتابع الموضوعي، والباحث الحريص ان لا يساوي بين مستويات العنف السياسي الدموي، السلطوي والمجتمعي، او ان يضعها في كفتين متقابلتين. فلا يجوز منطقياً، وضميرياً، احتساب اعمال العنف والجرائم الفردية، أو الطارئة، بموازاة سياسة دولة، وسلطات وقوى حاكمة اعتمدت نظريا وعمليا، سياسات العنف والاضطهاد، والابادة، وجماعية القتل، واستخدام الاسلحة الفتاكة و”التفنـن” في اشكال وممارسات ذلك العنف الدموي.
كما يقينا ايضا ان كل ما تقدم يجب ان لايدعو للظن بأن المطلوب هو الدعوة للخضوع والاستكانة للاحوال القائمة، المليئة بالظلم الانساني، والهيمنة والعسف، والاستبداد.. فلا بدّ مقابل كل ذلك من النضال الانساني، الديمقراطي الحضاري، والاحتجاج والتظاهر والتمرد، ووالاضرابات السلمية، رفض كتم الافواه.. ولا قبول الارتهان لقوى الشر والطغيان السياسي والاجتماعي، تحت اية لافتات كانت.. ولكن الهدف هو ادانة استخدام العنـــف، بكل اشكاله وصوره وجهاته،والسعي الى اعتماد نضالية بسبل اخرى تقلل الخسائر – وخاصة بالارواح – فالحياة كما يؤمن الكثيرون اغلى من كل شئ، وان الوطن – بلا ناس آمنين طموحين للحياة -، ليس مهماً ان يكون جميلاً او غيره، وبخاصة حين تصل اعداد ضحايا الحروب والعنف والطغيان أرقاما تصل لمئات الالوف، ولعقود طويلة ..
* أوليات على طريق تحجيم العنف
أن كل الحديث يأتي عن كيفية تحجيم العنف، ولا نقول انهاءه، فتلكم حال قد لا تتوفر سوى في الخيال، وندعي ان ذلكم التحجيم يتحقق او يكاد عبر التنوير بأهمية الوعي والمعرفة، وكبح جماح الجهل المتفشي، والتركيز على ما يساهم في اقامة دولة الديمقراطية والقانون، وتعزيز التكافل الاجتماعي، والسعي لوقف الصراعات والتداعيات الدينية الطائفية، والعمل على تشريع القوانين العقابية المشددة، ضد ممارسي العنف والترويج له، والتحريض عليه، اسوة بما هو جارٍ عند دول العالم والمجتمعات الحضارية، ولا شك بأن تلك المتطلبات لا يمكن توقع أنجازها سريعا بمثل واقع الظروف الاسثنائية المريرة التي تعيشها البلاد العراقية اليوم والمستمرةمنذ عقود وعقود ..
ان من الطبيعي والمعروف كون السيّر بأتجاه تحقيق المتطلبات السابقة لتحجيم العنف يقع اولاً على كاهل الدولة بكل مؤسساتها، واداراتها الامنية والتربوية والاجتماعية ، وكذلك الاحزاب والقوى الوطنية، الوطنية، ومنظمات المجتمع المدني، الحقيقية. فضلا عن الادوار البارزة لرجال السياسة والمثقفين الحقيقيين، والتشكيلات النقابية والمهنية الجماهرية..
اخيرا ، وكما ورد في عدة مواضع من هذه الكتابة، نجدد القول بان لكل فقرة مما تقدم من ايجازات – ولنقل رؤوس اسطر وحسب- تفاصيل تحتاج لوقفات مسهبة، وبحوث ودراسات وجهود حثيثة…. كما نود التنويه ايضا بأنا حاولنا ان نبتعد عن القناعات الشخصية، والتقييمات الذاتية للأحداث والوقائع التاريخية التي مـرّ ذكرها، في محاولة للتركيز على العام الشامل بشكل رئيس، بعيدا عن القناعات الشخصية، وجهد الامكان بالطبع!..
————————————————————————————
** هوامــش واحــالات :
1/ ومن اهمها: “تاريخ العنف الدموي في العراق ” لباقر ياسين، وكتابات ومؤلفات د. على الوردي ذات الصلة .
2/ استمرت المواجهات بين السلطات العراقية المتعاقبة، مع الثورة / الحركة الكردية المسلحة، بأشكال واساليب عديدة خلال الفترة (1961-1991) .
3/ عُرفت السلطة البعثية الحاكمة طوال تلك العقود بعنفها ودمويتها ضد مختلف القوى السياسية، والمعارضين، وبمستويات قسوة لا نظير لها بحسب المؤرخين والمتابعين.