هاتف بشبوش
الشيوعي الهوليودي (دالتون ترمبو Dalton Trumbo) أشهر كاتب سيناريو أمريكي في بداية القرن العشرين ، فهو الذي كتب سيناريو أشهر فلم في العالم حتى الآن ، ألا وهو ( سبارتكوس) ومن منا لايعرف هذا الفلم وممثله الشهير ( كيرك دوغلاص) . لكن مشكلة ( دالتون ترمبو) أنه كان شيوعيا وسط منتجين همهم الوحيد الجنس والمال في مملكة هوليوود ، فحاربوه وأعتقلوه عام 1950. لكنه نال شرف هذه الأحقية ورد له إعتباره بعد موته بأعوام حيث مثلت شخصيته وحياته بفلم درامي رومانسيٍ جميل للغاية بعنوان ( ترمبو Trumbo) من إنتاج 2015.
في الفيلم نجد( دالتون ترمبو) وصديقه المقرب الكاتب الشيوعي ( آرلين هارد) وأصدقاءهم الشيوعيين يحاربون من قبل المتنفذين في هوليوود والمنتجين والممثلين من أمثال( دونالد ريغان) الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة وهو أشد الآعداء للشيوعيين في هوليوود ، ثم الممثلة والصحفية الأولى الشهيرة في هوليوود ( هيدا هوبر) التي ترتدي قبعة مائلة على الرأس تعطيها مظهرا برجوازيا أنيقا . ثم ممثل الكابوي الشهير (جون واين) الذي إعتلى المنصة التي أعدت لعزل القائمة السوداء لعشرة شيوعيين من أعظم مبدعي هوليوود أنذاك وقال مستهزءاً من شيوعيي هوليوود (إذا اردت ان تكن شيوعيا فكن.. ولكن عليك ان ترحل الى روسيا وترى باليه بولشفي ) . وحصلت مشادة كلامية بينه وبين (دالتون ترمبو) حيث اتهم جون واين ترمبو بكرهه لأمريكا فقال له ترمبو أنا كنت مراسلا حربيا مدافعا عن بلدي وأنت ماذا كنت في الحرب فخرج (جون واين) يجر أذيال خيبته من الخجل .
الفلم تناول الحقبة التأريخية البشعة لهوليوود و سياسة أمريكا في محاربة الشيوعية في الاربعينيات وماتلتها من عقود مشؤومة حتى إرتعبت أمريكا من سيطرة الشيوعيين على هوليوود والإذاعة .
يُقدم للمحاكمة جميع الشيوعيين في هوليوود وعلى رأسهم ترمبو وصديقه الكاتب الكبير (آرلين هارد) وكان مصابا بالسرطان ، الذي اعطى إجابة أخرست الحاضرين وقال ( انني بحاجة الى طبيبي اذا كان بوسعه ازالة ضميرنا جراحيا) ، في رده على قاضي التحقيق الذي أراد منه الاعتراف بإنتمائه للحزب الشيوعي وإحتقاره للكونغرس الأمريكي حيث أنذاك قدم الرفاق الشيوعييون كتيباً بسيطا للكونغرس يتضمن تعديلا للدستور الأمريكي .أما ترمبو حين حكم عليه القاضي بالسجن قال ( هذا هو معسكر الإعتقال الأمريكي ) .
يّطرّد من هوليوود ويسجن عشرة من الرفاق الشيوعييون بعد حفل توديع لهم أقامه الفنان الثري المعروف والليبرالي (إدي روبنسون) في بيته حيث كان هذا البيت مقرا لإجتماعات الشيوعيين . هذا الفنان الشاب يبيع أغلى لوحاته التي جمعها لكبار الفنانين ومنها لوحة (فان كوخ) ولوحة (مونيه) ويعطي أموالهما الى الشيوعيين للدفاع عن أنفسهم أمام المحاكم ، وبهذا يكون قد ضرب أعظم مثلا للتضحية والدفاع عن اصدقائه الشيوعيين . وفي السجن يبقى ترمبو على حبه لزوجته وأطفاله عابقا فيكتب لهم ( لكم خالص حب السجين رقم 3267) وبهذا يكون قد حذا حذو الشاعر الشيوعي التركي ناظم حكمت ورسائله الى زوجته من خلف القضبان . في السجن يلتقي ترمبو بالقاضي الذي حاكمه وأدخله القباء وبيده مكنسة ينظف بها مرافق السجن ، فيقول له القاضي هانحن كلانا سجناء ، لكنّ ترمبو يقول له أنت تختلف عني ، لأنك مجرم سرق أموال الشعب و لم تدفع الضرائب المستحقة عليك .
يخرج ترمبو من السجن على شرط أن لايكتب مرة أخرى . ويحارب من وسائل الأعلام وحتى من جيرانه الذي ارسل له قصاصة ورقية كاتبا فيها إرحل من هنا أيها الخائن. لكنه ضاق ذرعا من المعيشة فهو متزوج ولديه عائلة فالتجأ الى الكتابة بإسم مستعار وظل لعشرة أعوام يكتب ونال العديد من الجوائز الأكاديمية عن أفلامه السينمائية الشهيرة بأسماء اصدقائه الليبراليين المستعارين ومنها جائزة فلم (الشجاع) حيث كتب قصته بإسم صديقه ( روبرت ريتش) واستلم الجائزة شخص آخر فغضبت الصحفية هيدا هوبر لأنها تريد أن تعرف من هو روبرت ريتش . وفاز فيلمه أيضا (عطلة رومانية) بطولة الجميلة ( أودري هيبورن) والشهير (كيركوري بيك) المحايد سياسياً والذي أعلن رفضه لأحكام السجن بحق الشيوعيين في هوليوود ومثل الفلم دون أن يعرف أن كاتب السيناريو الحقيقي هو الشيوعي ( دالتون ترمبو) .
أهم جانبٍ في الفيلم والذي أعطاه رونقا باهراً وهو الجزء الأساسي من الفيلم يظهر الممثل الشهير ( كيرك دوغلاص ) الذي له علاقة طيبة مع الشيوعيين ، لينقذ ترمبو وكان كيرك دوغلاص في ذلك الوقت أراد تمثيل شخصية ( سبارتكوس) بطل ثورة العبيد على الرومان . ولم يجد كيرك دوغلاص في هوليوود أفضل من الشيوعي ( ترمبو) لتأليف سيناريو فلم سبارتكوس الذي هو أساسا كتب روايته شيوعي بارز في أمريكا . لاقى كيرك عداءاً كبيراً من الممثلين في هوليود ومن الصحفية هيدا هوبر حتى قالت لكيرك لم أرك سافلا لهذه الدرجة بحيث تعمل مع الشيوعي ترمبو فقال لها بل أنا سافل منذ زمن ياهيدا وأنت لاتعرفين ، فتركها غاضبة في مكانها . أصر كيرك دوغلاص على ترمبو في أن يقوم بكتابة السيناريو بإسمه الصريح بعد إعطائه الضمانة بعدم مطاردة السلطات الامريكية وهوليوود له ، وبالفعل نجح كيرك وكتب ترمبو السيناريو بإسمه ومثل مع كيرك دوغلاس في الفيلم الممثل الآسود الشهير الذي عرفناه في تمثيله لشخصية الشيوعي الأفريقي الثائر ( بياترس لومومبا) الذي أغتالته المخابرات الامريكية . عُرض الفلم وحاز على أعظم أرباحٍ في شباك التذاكر وفاز بجائزة الاوسكار لعام 1961 وأعلنت الصحفية الشهيرة هيدا هوبرز بنفسها عن نجاح الفلم في الصحف وتراجعت عن موقفها السلبي بشأن ترمبو وشيوعيته لثقله الكبير في هوليوود ككاتب حفر اسمه في تأريخ هوليوود رغما عنهم وعن مناكافاتهم له وهذا ما أعطاه نجاحاً آخراً .
حضر فلم سبارتكوس الرئيس الامريكي جون كنيدي وأشاد بجمالية الفلم ومتعته وغاياته وبهذا رُفع اسم ترمبو من القائمة السوداء ومن لجنة أنشطة ألغير مخلصين لآمريكا وهذه اول مرة يكتب بها ترمبو بإسمه الصريح بعد كتابته لعشرة سنوات باسم مستعار ومنها إنطلق يكتب ويكتب ، وكل هذا الفضل لكيرك دوغلاص نصير الشيوعيين . فكم هو عظيم كيرك دوغلاص وكم هما سخيفان جون واين ودونالد ريغان . كيرك دوغلاص كان ممثلا مشهورا وله العديد من الأصدقاء من الساسة الامريكيين إذ انه لم يدخل مجال السياسة كما الممثل دونالد ريغان فظل ممثلا يحترم الحرية ويناضل ضد الاستعباد من خلال افلامه فقط ، فنجح في أن يكون نصيرا لترمبو ورفعهِ من حضر الكتابة ، وهذه القصة شبيهه بما حصل لعبد الرحمن الآبنودي الشاعر المصري الشهير والذي كان شيوعيا أنذاك وأعتقل من قبل سلطة جمال عبد الناصر المعادي للشيوعيين ، وقد أخرجه من السجن المطرب عبد الحليم حافظ الذي كان صديقا معروفا لجمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم فاطلق سراحه وبدأ يكتب أشهر ألاغاني لعبد الحليم حافظ ومنها انطلق عبد الرحمن الابنودي الى عالم شعر الغناء والحب .
وينتهي الفلم بكلمة لترمبو في حفل جائزة الأوسكار التي منحت له ويتحدث بها عن حبه لأمريكا وعن آلامه مع عائلته ورفاقه وفقدان وظائفهم أنذاك من جراء العداء للشيوعية في هوليوود وفي عموم أمريكا .
ينقل لنا الفلم أيضا في نهايته كيف انّ هوليوود ردت اعتبار هذا الكاتب الشهير واعتبرته من أعظم كتاب السيناريو في ذلك الزمن العصيب فمثلت له هذا الفلم بعنوان ( (Trumbo في العام 2015 . وهكذا هي الشيوعية تبقى خفاقة ببيرقها العالي حتى وان خفت لونها لكنها تظهر قسرا في التاريخ وتفرض نفسها لما لها من قابلية على البقاء والبقاء مثلما نرى اليوم الحزب الشيوعي الصيني الذي أذهل العالم بعلمه وازدهاره بعد خفوت سماء الشيوعية في أنحاء العالم .
وفي خلاصة القول هناك نتيجة مفادها ، انه لايمكن أن نجد حزبا شيوعيا على أرض أمريكا لأنها على مر أعوامها حاربت الشيوعية بشراسة فكانت تخيّر الشيوعيين أما بالنفي من أمريكا أو القتل ولايهمها مهما كانت شخصية الشيوعي ، وأشرس هذه الحملات هي المكارثية نسبة الى السيناتور مكارثي الذي اشتهر بمحاربته للشيوعيين وساعدته الصحفية هيدا هوبر في الكشف عن أسماء الشيوعيين في هوليوود . ومن المشاهير ورموز أمريكا مَن طالتهم هذه الجريمة الشيوعي ( شارلي شابلن ) الممثل الكوميدي المعروف ، فنفته الى بلده ألاصلي بريطانيا مع زوجته وبقي هناك عشرة أعوام . (جون لينون )المغني والشاعر الشيوعي مؤسس فرقة البيتلز قتلته المخابرات الأمريكية بمسدس وبسبب هذه الجريمة نحت الفنان السويدي صديق جون لينون المسدس المعقوف تخليدا لجون لينون ورمزا للسلام .
وأخيرا كمعلومة سينمائية لابد منها : فلم ُّميلودرامي بمشاهد رومانسية ، فلمُّ وثائقي ضم العديد من الشخصيات الكبيرة في هوليوود من مخرجين كبار ومنتجين جشعين . الفلم من تمثيل (برايان كرانستون) بدور (دالتون ترمبو) ، صحفية هوليوود الأولى (هيدا هوبر) مثلت شخصيتها الممثلة المعروفة (هيلين ميرين) التي مثلت دور زوجة الروائي الشهير ليون تولستوي في فيلمٍ عظيم عن حياته . الجميلة (دايانا لاني) مثلت دور زوجة دالتون ترمبو( كليو) والتي كانت بمثابة المؤازر له في كل أوقاته العصيبة حتى ماتت عن عمر ناهز الثالثة والتسعين ( 2006) بينما زوجها ترمبو مات في السبعين من عمره في عام 1974 . أما شخصية الممثل العظيم كيرك دوغلاص الذي توفى قبل شهر من الآن عن عمر 104 أعوام أعطيت لشخصية شابة شبيهه له للغاية وقد أجاد دوره بإتقانٍ مذهل أعطى للفلم روعته لأن ذكرى سبارتكوس باقية في اذهان كل صانعي ومحبي السينما في هوليوود والعالم حتى هذا اليوم .
شاعر وناقد عراقي