عبد الجبار نوري
” فيديريكو غارثيا لوركا ” شاعر أسباني ، وكاتب مسرحي ، ورسام ، وعازف بيانو ، كما كان مؤلفاً موسيقياً ، ولد في غرناطة 5 حزيران 1898 ، ومرور 79 عاماً على أفول نجمه فلا بُدّ من ذكراه ، كان أحد أفراد ما عُرف بأسم جيل 27 ، ويعدهُ البعض أحد أهم أدباء القرن العشرين ، وهو واحد من أبرز كتاب المسرح الأسباني ، ومسرحيته ” عرس الدم “من أشهر أعماله المسرحية ، فيما كانت قصيدة ” شاعر في نيويورك من أشهر أعماله الشعرية ، أُعدم من قبل الثوار القوميين المؤيدين للنازية والفاشية وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهلية الأسبانية في 19 آب 1936 ، وبرحيله المبكر ونتاجاته الأدبية والشعرية الثرّة أرتقى الجوزاء بروائعه الشعرية والمسرحية كقامة في قمة الهرم العالمي للأدب والتراث ، ويتساءل البياتي ” لوركا ” من يستطيع وقف الرعشة أزاء هذا الأسم المكهرب ؟ كان لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربية ، والفتنة ، ويلف مستمعيه بجوٍ أخاذ من السحر ، فيأسرهم حين يتحدث ، وينشد الشعر أو يرتجل مشهداً مسرحيا ً أو يغني أو يعزف ، لقد كان العيد والبهجة يشعُ علينا ، وليس علينا ألا أنْ نتبعهُ (الشاعر بيدرو ساليناس الذي سبقهُ بسبعة سنوات )
أرهاصات الذات عند ” لوركا “مع مقاربات معرفية
أسلوبه الشعري والنثري أصبح ظلهُ الذي لايفارقه فهي مشخصنة “للوركا” فقط عصية الأستنساخ من طراز الصعب الممتنع على أبجديات المعرفة الأدبية التي جاءت بعده ، لكون لوركا يحمل في أعماقه لاهوت الحب الغير مشاع وأيقونات الرومانسية (بأنسنة ) متسامية بكيمياءعالية التركيز ، في الأدب الواقعي الملتزم ، وكانت رحلته إلى أميركا عام 1929 أصيب بخيبة أمل من الحضارة الأمريكية المتخلفة ، وتعتبر رائعته مسرحية ( عرس الدم ) 1933 كرسي الأعتراف للوركا ليفصح عما في دواخله من أرهاصات الأضداد الحب الكراهية ، الموت الحياة ، الحرية العبودية الفقر المدقع واالثراء الفاحش ، الرذيلة والفضيلة ، تلك هي سوسيولوجيته النفسية وسايكلوجيته الجسدية وهي معطيات المجتمع الأسباني الذي وقع في مصيدة النازية والتي قسمت المجتمع الأسباني إلى قسمين قومي مع النازية وجمهوري ثوري غايته الحفاظ على النظام الجمهوري الحرب الأهلية الأسبانية الذي جعل لوركا يناضل ضد النازية والدكتاتور فرانكو بسلاحه الشعري والخطابي وقد تكون من المقاربات المعرفية بين الكثير من الشعراء بسريان عدوى أرهاصات الذات عند لوركا في الحب والقمر والموت وظواهر اللاوعي في الأضداد السوسيولوجية الروحية والسايكولوجية الجسدية والبيئية من الحب وهايكو الكراهية ، الموت والحياة ، القمر ومقابر الموتى ، الأنسنة والهولوكوست النازي ، التعصب الأثني واللبرالية ، فظهرت بحدودٍ نسبية في شعراء وأدباء القرن العشرين ، وصورة واضحة في شعراء البيئة العربية بفعل المشتركات العربية الأندلسية ( كالجواهري والبياتي وبلند الحيدري والسياب ونازك الملائكة ومعروف الرصافي في العراق ، ومحمود درويش وسميح القاسم وأبراهيم طوقان ( فلسطين ) أحمد فؤاد نجم (مصر ) أيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران ( لبنان ) أدونيس وعمر أبو ريشه ( سوريا ) بابلو نيرودا الشاعر التشيلي الذي يكبرهُ لوركا بستة سنوات ، ألشاعر ” أليوت “( أمريكا ) وظهرت المقاربات المعرفية الأدبية في أشعارهم ونتاجاتهم الفكرية وبالذات القرن العشرين المتسم بقصائده التي فيها القمر ، وغرناطة ، والليل ، وترنيمات الموت ، وسوناتات الحب الغنائية التي تمتلآ بالمفاجئات الشعبية ، وربط المفاهيم الجمالية بالبديهية الجمالية حين يزاوج ” لوركا ” بين الشعر والموسيقى ، وكشف حقيقة الذات بكل تعقيداتها وتناقضاتها الداخلية وجدلياتها الوجودية ، وبتقمص واقعي حين يطلب منه أن يكون كوميديا أو تراجيديا ملهاتياً .
همسات مرهفة من شعر الشاعر الأسباني ” لوركا ”
رومانسية القمر” لونا “// يهبُ النسيمُ بارداً – فتحركُ ” لونا ” ذراعيها/ أهربِ لونا لونا لونا – فلو عثر الغجرُ عليك / أذن لصنعوا من قلبك قلائد وخواتم فضة / يا صبي دعني أرقص – فحين يأتي الغجر سيجدونك فوق السندان/ وعيونك الصغيرة مغلقة – عبر بستان الزيتون بلون البرونز
لونا هو الأسم الأسباني المؤنث لكلمة القمر العربية ، وللمعلومة اني لا أرغب التراجم من اللاتينية لأنها تقتل روح الشاعر ونصه الشعري ، ولم أجد نسخته الأنكليزية ، على كل حال ومن خلال التراجم الفلسطينية والمصرية واللبنانية ، وجدته في هذه السوناتة الشعرية : مشوش وممزق ، ضاحك وحزين صادق ومتألق ودود ، عفوي الطبع ، فيه شيء من الجلافة الغجرية .
مقطع من سوناته غزلية // قبلتي كانت رمانة – عميقة ومفتوحة / وثغرك كان وردة من ورق – وعمق المشهد حقل من الثلج .
وأرى فيها لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربائية والفتنة ، ويلف مستمعيه بجوٍ أخاذٍ من السحر ، وفي هذه الكلمات الرومانسية الشفافة يفرض الحب الأبدي فيأسر القاريء لكونه ينشد ويغني ويعزف ، فسجل له التراث الأدبي ( موسقة الشعر ) .
وفي قصيدو ( نبوءة موتي ) //عرفتُ أنني قتيل – فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس – أفتحوا البراميل والخزائن / ولم يعثروا عليّ!!! هل عثروا عليّ ؟ نعم عثروا عليّ !!!.
والمقاربة مع الشعر العالمي بالسؤال الجدلي الفلسفي الذي لم يجدوا له جواب،ما هو الموت ؟ في نظر لوركا {ا لموت النهاية الأبدية للأنسان} وفي هذه القصيدة يستسلم لوركا لهذا القدر الأعمى والأخرس والأصم والمشلول بقيادة مجنون مهوس ، واروع من عبر عنه شكسبيرFor Ever أذأ أنها النهاية الأبدية للكائن البشري ،وجدلية المعنى عريقة في القدم حتى نسج منه الفلاسفة الأسطورة الملحمية ، عندما يهيم كلكامش في البراري والوديان والتضاريس الوعرة وقاتل الوحوش في مقابر غابات الموت لكي ينتقم من الموت الذي أختطف صديقهُ أنكيدو ، فهو نفس فوبيا السياب في ترنيمة { مطر —- مطر وتنقشع الغيوم السوداء ويُسْدلْ الستار بالنهاية الأبدية في طريق اللاعودة !!!.
وفي قصيدة ( وداعا) يقول : // أذا متُ فدعوا الشرفة مفتوحة – الطفلُ يأكل البرتقال من شرفتي أراه // الفلاح يحصد القمح من شرفتي أسمعه – فدعوا الشرفة مفتوحة .
وفي هذه القصيدة يعلن أنسنته بأيمان عميق بأنّ الأنسان صحيح هو أثمن رأسمال ، لذا أختار الأنظمام إلى الجمهوريين المضطهدين ومحاربة النازية المنتشرة في وقته .
وفي قصيدة ( البكاء ) حيث يقول : // أغلقتُ شرفتي – لأني لا أريد البكاء // ألا أنهُ وراء الجدران الرمادية لا يسمع شيءٌ غير البكاء // الدموع تكمُ فمْ الريح – ولا يسمع شيءٌ غير البكاء.
يدين النازية بأبادة الجنس البشري بهولكوست القوميين الأسبان ضد معارضيهم ، فالبكاء عند لوركا في هذه القصيدة لا تعني بالضرورة الأحباط والقنوط والهروب ألى الأمام فقد يكون سلاحا للترويح عن النفس البشرية المعذبة ، وهي رسالة أدانة للفاشية ولعميلهم الجنرال ” فرانكو “.
وقد أسهبت في جدلية الموت والحزن ، للننتقل إلى الوجه الثاني المضيء والمشرق في شاعر العملة الصعبة ” لوركا ”
في سونيتا ” الزهرة”// رقد الشجر باكياً من المطر – آه —- من ضوء القمر راقدا فوق أغصان الشجر ، بدون عيني لن تشاهدي يا روحي روعة القمر // بدون شفتي لن تعرفي يا روحي طعم – الخمر –طعم القبل //بدون قلبي أنت ميّتة // ما جدوى كل أعماق مراياك يا روحي عندما تموت الكلمات ؟
وفيها يسمو لوركا تحت صرح لاهوت الحب العذري المقدس ، بعشقٍ كاثوليكي – صوفي رافعا ايقوناتها إلى الجوزاء ليرقى إلى العلياء لتعميد تلك العلاقة الروحانية الملائكية المنزهة من خطايا العالم السفلي ، عالم اللاوعي ، قال الأديب الفلسطيني ” محمود درويش ” : أنّ سوناتات الحب المعتم هذه هي أحب قصائد لوركا إلى قلبي ، وأصبحت أسبانيا في كل أرجاء الذاكرة عند لوركا ، وكان لوركا ينشد ويسبح ضد التيار عندما يقول : أنّ الشعر يحتاج إلى ناقل ، يحتاج إلى كائن حي ، سواءٌ كان هذا الناقل مغنياً أو منشداً ، وكان لوركا يمتحن حاسة الذوق ، ويمتحن القصيدة ذاتها ” بالألقاء ” ، وكان يبحث بين الصوت والقلب ، فالشعر عند لوركا ليس فناً بصرياً —- لابد من أذن — لابدمن جرس ، وهو يردد دوماً {أنّ الشعر لا وطن لهُ } / أنتهى .
79 سنة على غياب لوركا ، غياب وعد الجمهورية ، وأختم هذا البحث المتواضع ” بشهادة قاتل ” قلتُ للوركا أنهض هذا هو الموعد ! رد برجولة فارس غير ملثم : متى شئت —- أنا جاهز ، وقال لوركا أحبُ أنْ لا يحدث ذلك في المقبرة ، فالمقابر ليست ليموت الناس فيها —– فقط هي” للصمت” { Silencio} وتعني السكوت بالأسبانية ، والأزهار والغيوم ولا أحب أنْ أموت على مرأى من القمر ، فالمقبرة هي خط النهاية لماراثون بشري والغريب في هذا المكان الثلجي المتجمد والملفوف بالصمت الأبدي { لا احد من المتسابقين رابح }.
وبرصاصات فرانكو الطائشة الغبية أسدل الستار على الشاعر القتيل ، وشاعر الأندلس الشاب ( بعمر 38 سنة ) ، وشاعر أسبانيا ، وكانت غرناطة ، وكان الليل والقمر وشباكه المشرع المفتوح شاهداً على جريمتهم النكراء .
الهوامش /فيديريكو غاثيا لوركا / الشاعر القتيل –مترجم —- الشرعية الثورية ترجمة رائعة للدكتور عبد الواحد لؤلؤة