الرئيسية / مقالات / ما لا نستطيع فهمه حتى الآن

ما لا نستطيع فهمه حتى الآن

كاظم فنجان الحمامي

من فيكم يستطيع أن يفسر لنا كيف أصبحنا نستورد المياه العذبة من البلدان الجافة المتصحرة، التي يحلم أهلها بالتقاط صورة تذكارية واحدة على ضفاف نهر الفرات العظيم، ويحلمون بالتجوال بين جنائن دجلة وبساتين شط العرب ؟. ألا ترون كيف تتشابك أنهارنا وجداولنا وسواقينا وأهوارنا وبحيراتنا، بينما تعج أسواقنا هذه الأيام بكميات هائلة من مياه الشرب المعبئة بقناني إماراتية مستوردة، وبكميات كبيرة من التمور المعبئة في السعودية والكويت بأكياس مسحوبة الهواء ؟. كيف يمكن أن نفسر هذا التناقض الجغرافي والإروائي والزراعي في بلد تتسع مساحات تربته الخصبة لتزيد على مساحة بقاع السهل اللبناني بعشرات ألأضعاف ؟.
من فيكم يستطيع أن يفسر لنا كيف أصبحنا نستورد الغاز والبنزين من البلدان المجاورة، في الوقت الذي نمتلك فيه أكبر وأوسع وأغنى وأقدم الحقول النفطية في كوكب الأرض ؟. وفي الوقت الذي قطعت فيه جولات التراخيص في حقولنا أبعد مدياتها التنقيبية والإنتاجية والتصديرية ؟. كيف يمكن أن تفسروا لنا هذه التناقضات الغريبة والخسائر الفادحة بالأرقام والكميات والأموال المهدورة ؟، وكيف يمكن أن تفسروا لنا تقهقر قيمة عملاتنا النقدية مقارنة بالدولار ؟، وكيف أصبحت بهذا الضعف لتقف محنية الظهر خلف الدينار الأردني والريال العماني والدينار البحريني ؟. وكيف تدهورت بهذه الصورة المربكة رغم عائدانا النفطية الهائلة.
كيف يمكن أن تفسروا لنا تناقضات حياتنا المعيشية بالمقارنة مع سكان مدينة شنغهاي الصينية، التي تزدحم بالسكان، ويتساوى تعداد نفوسها مع تعداد نفوسنا، فمدينة شنغهاي لا يوجد فيها متسولا واحداً يستعطف الناس، ويستجدي رغيف الخبز، ويمد يده للمارة في الأسواق والطرقات، وليس فيها عاطلا واحداً عن العمل، ولا تتكدس فيها المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في بناية واحدة، بينما صار التسول في طرقاتنا من العلامات الفارقة، وصارت البطالة من الكوابيس التي تنتظر الشباب في المقاهي والأرصفة البائسة. وصار التعليم المجاني عندنا يسير خلف دكاكين المدارس الأهلية الخاصة.
من مطالبنا القليلة جدا في هذه الحياة (أن لا يكذب علينا أحد بعد الآن). نشعر دائماً ونحن نعيش بين جدران العراق أن النظريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تقف عاجزة عن تفسير هذه الظواهر الغامضة، ولسنا مغالين إذا قلنا أننا نشعر كما لو أن القواعد الجغرافية والنواميس الطبيعية الثابتة لا تعمل هي الأخرى، وربما فقدت ثوابتها، وتخلت نهائياً عن قواعدها.
محاصرون دائماً بتناقضات غامضة وتراكمات محبطة. نعيش كبواتها المتكررة عثرة بعد عثرة، فما لا نستطيع فهمه حتى الآن لا يمكن السيطرة عليه بعد الآن، ولا يمكن التكهن بنتائجه السلبية. حتى المعادلات الحسابية تكاد تكون معطلة تماماً كلما فكرنا بتحليل ما نراه أمام أعيننا. وما أكثر الشكوك والوساوس والهواجس، التي ظلت تطاردنا منذ سنوات، وكم في العراق من تناقضات لا نستطيع فهمها. والله يستر من الجايات. .