أسعد أبو خليل / لبنان
ليس للشيوعيّين في لبنان طائفة تحميهم، ولا رجال دين ديماغوجيّين ليتاجروا بالعملة من أجلهم. لا، ليس الشيوعيّون طائفة من الطوائف المحصيّة والمحظيّة. وهم لهذا لا ينالون اعتراف الدولة اللبنانيّة، التي لا تعترف إلا بالطوائف ولا تتعامل إلا بالعملة الطائفيّة. ليس للشيوعيّين في لبنان دولة إقليميّة، طائفيّة، تتولى رعاية مصالحهم، وهم بذلك عرضة للاتهام والتصنيف والإهانة.
وليس للشيوعيّين ميليشيا مسلّحة، لأن قيادة الحزب الشيوعي قرّرت أن الطائف يعنيها، مع أن الاتفاق كان محاصصة طائفية، كما كان مناقضاً لكل أحلام اليسار اللبناني، ولم يزد النظام الطائفي إلا تدعيماً وتمكيناً. تخلّت قيادة الحزب الشيوعي اللبناني عن الكفاح المُسلّح، لم تفعل ذلك بضغط من أحد. وفوق معاناة الشيوعيّين في لبنان والعالم العربي، فقد بلغ الضعف بهم في لبنان أن مي شدياق ونقولا شمّاس وجيش كتّاب الحريريّة يتطاولون عليهم من دون ردّ.
ليس نقولا شمّاس نافراً في كلامه: هو الاسم الحركي لرفيق الحريري وكل طبقة الأثرياء المتحالفين مع زعماء لبنان (وزعماء لبنان باتوا من أثرى الأثرياء). نقولا شمّاس لم يصرّح إلا بمقاصد السياسات التي بُني عليها لبنان ما بعد الحرب… كما لبنان ما قبل الحرب. لم يُدخل رفيق الحريري الرأسماليّة إلى لبنان — وكل رأسماليّة هي متوحّشة—، بل الحقيقة، ان رفيق الحريري، اعاد رأسماليي لبنان من رأسماليّة القرن العشرين إلى رأسماليّة القرن التاسع عشر. رأسماليّة نقولا شمّاس ورفيق الحريري موصوفة في مقدّمة كتاب «قصّة مدينتيْن» لتشارلز ديكنز. بالنسبة لنقولا شمّاس، كما أصحاب المليارات، فإن حياة الملايين من الفقراء لا تعنيهم. هؤلاء الذين تطيب لهم جهنّم في ليالي الشتاء، بحسب وصف امين الريحاني في “الريحانيّات”. عند هؤلاء المنازل تحت الجسور تكفي، وإصلاح الثقوب في الأحذية من واجبات إصلاح الحال، كما وعظ رفيق الحريري يوماً. ويسند هؤلاء وعود الدين بالجنّة ووعود الحريري بـ”الربيع القادم”(علما ان المقصود كان السلام مع دولة العدوّ).
لكن إطلالة نقولا شمّاس بليغة في عظتها. هي ترسم لنا الملامح الحقيقيّة للحريريّة السياسيّة: لا، لم يخلق رفيق الحريري دولة الفساد، لكنه أعلاها شأناً وأسّسها (وضع لبنان مؤسّساتها) وساهم في المزاوجة بين رجال الأعمال وبين ساسة الفساد. كان زعماء لبنان في حقبة ما قبل الحرب (أناس مثل سليمان العلي في عكّار وكامل الأسعد في الجنوب وصبري حمادة في البقاع) من مخلّفات الإقطاع. قضت الحرب اللبنانيّة على هؤلاء، لكنها استبدلتهم بحكم أصحاب المليارات في كل الطوائف. وصار تملّك المليارات مدخلاً إلى الحكم في لبنان. نقولا شمّاس قال ما لا تريد ان تقوله الطبقة الحاكمة جهراً. لكن الحريري سبقه بقول ذلك في فعله وإعماره (من جيب اللبناني) وفي خطابه وسياساته.
الذين باعونا ماركس مُعلّباً من قبل ستالين، يبيعوننا اليوم ماركس مُعلّباً من قبل البنك الدولي
إن بناء لبنان ما بعد الحرب كان على مقاس أثرياء لبنان ودول الخليج. لم يلحظ تخطيط الحريري للإعمار أي وجود للطبقة المتوّسطة، فكيف يلتفت الى الفقراء والموعزين الذين طُردوا من بيروت (قبل الحرب وبعدها) من خلال منظومة لبرجزة الجغرافيا المدينيّة.
نقولا شمّاس لم يكتف بإهانة الفقراء، بل زاد على ذلك إهانة للشيوعيّين في لبنان. والشيوعيّون (على انواعهم وأنساقهم) مجبرون بالردّ على شمّاس هذا. وبيان الحزب الشيوعي اللبناني في الردّ كان هزيلاً، لا بل زَها بدفاع الحزب عن “الاقتصاد اللبناني”. الاقتصاد اللبناني؟ هذا اقتصاد رأسمالي منذ إنشاء الجمهوريّة فكيف يدافع عنه حزب شيوعي؟ وكأن الحزب الشيوعي أضاع هويّته، وبات يخجل بأصوله الماركسيّة. يكفي انك لا تجد كلمة المُعلّم ماركس على موقع الحزب على الإنترنت.
إن الهجوم على الشيوعيّين في لبنان، ومن قبل احد الأثرياء، يكشف عن الوجه الإيديولوجي القبيح للسلطة الطبقيّة الحاكمة، ولا يجب أن يمرّ هذا الهجوم مرور الكرام لما يحمله من تهديدات وأوصاف تطاول نضالات الآلاف من اللبنانيّين واللبنانيّات والفلسطينيّين والفلسطينيّات من الذين حموا لبنان وفلسطين على مر عقود التاريخ اللبناني.
إن الحملة ضد الشيوعيّة، هي حملة تدخل ضمن تأسيس الدولة اللبنانيّة منذ عهد الفرنسيّين. كانت دولة الانتداب تلقي القبض على مَن يجاهر بالدعوة الشيوعيّة، او حتى مَن يجاهر بالدعوة الرومانسيّة الاشتراكيّة الفرنسيّة الحالمة، وهذا هو حال الحركة الشيوعيّة اللبنانيّة في بداياتها. أما دولة ما بعد الاستقلال فقد أوكِلَت، مهمّة محاربة الشيوعيّة في أراضيها. ولم يُسمح للنبتة الشيوعيّة العربيّة بأن تنمو وأن تزدهر كما حال غيرها من الأحزاب والعقائد. لأن الإيديولوجيّة تلك كانت تشكّل خطراً حقيقيّاً على مصالح السلطة الطبقيّة والسياسيّة (الحليفة) الحاكمة. كانت الحكومة الأميركيّة عبر برامج سريّة وعلنيّة تموّل تلك الحكومات التي تتبنّى رسميّاً محاربة الشيوعيّة بشتّى الوسائل. وكانت صناعة الثقافة والإعلام في لبنان فرعاً من هذه الحروب (غير) السريّة، وكانت جريدة”النهار” و”دار النهار” و”الحياة” وغيرهما من الصحف ودور النّشر، تساهم في الحرب المُضلّلة ضد الشيوعيّة والشيوعيّين. مُذكّرات عن شيوعيّين سابقين يذمّون الشيوعيّة كانت تُنشر مُترجمة إلى العربيّة بعد أشهر قليلة فقط من نشرها في الغرب، وكانت شهادات قدري القلعجي التائب عن الشيوعيّة تملأ الصحف النفطيّة.
عملت كل أجهزة الأمن والجيش في لبنان على محاربة الشيوعيّة والشيوعيّين في لبنان، وأوارق فريد شهاب (راجع كتاب “في خدمة الوطن: مختارات من الأوراق الخاصّة لفريد شهاب”) تكشف ان كان هناك أجهزة من خارج سلطة الدولة تعمل على التجسّس على الشيوعيّة والشيوعيّين (يبدو من أوراق شهاب أنه كان يدير جهاز تجسّس خاص ضد الشيوعيّة والشيوعيّين بعد تقاعده من وظيفته الرسميّة ولحساب جهة مجهولة). وقد خرقت أجهزة أمن الدولة المنظمّات الشيوعيّة الفلسطينيّة وساهمت في خدمة العدوّ من وراء ذلك (هل كانت صدفة ان الذي جنّد وليد قدّورة، الذي وصل إلى عضويّة اللجنة المركزيّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، لم يكن غير أبو أرز عندما كان في جهاز الأمن العام اللبناني، كما كشف عصام أبو زكي أخيراً في كتابه “«محطّات في ذاكرة وطن”؟).
كانت الحركة التقدميّة العربيّة، بنموذجها الجنبلاطي والبعثي والناصري، تساهم هي الأخرى في الحرب ضد الشيوعيّة والشيوعيّين بحجّة الدفاع عن الدين مع ان الحركة الشيوعيّة العربيّة تنصّلت من الفكر المادي الإلحادي في نشرها للعقيدة الشيوعيّة (إلا في مرحلة وجيزة من التاريخ المُبكّر للحزب الشيوعي العراق في عهد حسين رحّال). وما قاله حنّا بطاطو عن الحزب الشيوعي العراقي في كتابه عن “الطبقات الاجتماعيّة القديمة والحركات الثوريّة في العراق” ينطبق على الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. إن مطبوعات الحزب منذ الخمسينيات وما بعد لا تتضمّن “إشارة واحدة” إلى الدين، وأن الحركة الشيوعيّة قرّرت التعامل مع الدين عبر التجاهل (ص. ٤١٠ من كتاب بطاطو). إن الحركة الشيوعيّة العربيّة قدّمت من التنازلات الكثير في محاولة منها لتجنّب العداء والحرب ضدّها لكن ذلك ألحق الضرر بها لأنه فتح المجال امام المزيد من التنازلات العقائديّة في تاريخها.
إن هذه العوامل، والحروب والمجازر التي كانت تُشنّ ضد الشيوعيّة في العراق وفي السودان وفي الأردن وفي اليمن وفي عُمان — حتى لا ننسى تلك الثورة في عُمان والتي كتب عنها عبد الرزّاق التكريتي أخيراً كتاباً قيّماً — كلّها أضعفت من جسم الحركة الشيوعيّة العربيّة. لكن هذا لا يعفيها من مسؤوليّة الهزيمة والانكسار والضعف.
برامج الرعاية للدولة الرأسماليّة الحديثة لم تكن منّة من الطبقة الحاكمة
لقد ساهمت قيادة خالد بكداش في ربط الحركة الشيوعيّة العربيّة بقرار التقسيم المشؤوم، كما ان قيادة الحزب الشيوعي اللبناني والسوري (وغيره من الأحزاب الشيوعيّة العربيّة) ساهمت طيلة سنوات الحكم السوفياتي في ربط الحزب وسياساته ذيليّاً بالقيادة الموسوكوبيّة. أكثر من ذلك، إن النموذج الشيوعي الذي قاده جورج حاوي ونقولا الشاوي وكريم مروّة في لبنان، فاق النموذج السوفياتي في قمعه وستالينيته وفي رفضه للتنوّع والنقد الذاتي الحقيقي. كان الإعلام الحزبي الشيوعي اللبناني أكثر تزمّتاً وانغلاقاً عقائديّاً من إعلام الحزب الشيوعي السوفياتي.
فور سقوط الاتحاد السوفياتي، فرّ قادة الشيوعيّة اللبنانيّة من الماركسيّة مذعورين. والأنكى ان القيادة الشيوعيّة الستالينيّة التي فرضت الأجندة السوفياتيّة على كل الأحزاب الشيوعيّة العربيّة، كانت أوّل من هرب من تهمة الشيوعيّة بمجرّد سقوط الاتحاد السوفياتي واصطنعت لنفسها تاريخاً مزيّفاً من المواجهة والمعارضة لهيمنة الاتحاد السوفياتي والتي كانت هي المسؤولة عن نشرها في العالم العربي. كما أن الحرب ضد الشيوعيّة هي ذاتيّة: أكثر من محاولة للحلّ الذاتي للوجود التنظيمي تلبية لطلب خارجي.
الحزب الشيوعي المصري حلّ نفسه عام 1965 تلبية لأوامر سوفياتيّة، والحزب الشيوعي السوري لم يرد ان يطالب بحقّه في العمل في سوريا بعد إقامة الجمهوريّة العربيّة المتحدة. قبل بكداش حالة النفي شبه الطوعي، فيما قرّرت القيادة الستالينيّة للحزب الشيوعي اللبناني تمييع عقيدة الحزب وتغييبها بمجرّد سقوط الاتحاد السوفياتي.
لقد ساهم رفيق الحريري في إسقاط الحركة الشيوعيّة في لبنان، عبر اجتذاب قادة من منظمّة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي اللبناني. طبعاً، ليس غريباً على المُفسِد الأكبر في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة ان يبتاع قيادات في كل الأحزاب اللبنانيّة من دون استثناء لكنه تعاطى مع الشيوعيّين بطريقة مختلفة. كان يقبل ان يبقى القيادي الذي يبتاعه في “امل” أو “الحزب التقدّمي الاشتراكي” أو “قرنة شهوان” أو “القوّات” أو “التجمّع الإسلامي” أو “حزب الكتائب” على عقيدته، لكنه كان يفرض على الشيوعي نبذ عقيدته وتقيّؤ ذم الشيوعيّة واليسار مهنةً. لا بل إن الحريري كان يُجنّد القيادات الشيوعيّة للعمل ضد المطالب التقدميّة وضد الأحزاب الشيوعيّة. فتولّى، مثلاً، الماركسي العتيق محمّد كشلي مهمّة ضرب الحركة العماليّة المستقلّة (طبعاً بالتعاون مع حلفاء رفيق الحريري في المخابرات السوريّة).
ليس صدفة ان ذمّ اليسار والشيوعيّة في العالم العربي يجري بأقلام شيوعيّين سابقين مهما كانت الذرائع والمسوّغات والحجج والتنظيرات المضحكة. فضل هؤلاء طغاة الخليج على ماركس ولينين. طبعاً، هم يخرّجون طاعة أنظمة الخليج على انها خيار ديمقراطي. كل هؤلاء في الأنساق المختلفة من اليساريّة المُزيّفة بألوان مختلفة من الولاء الخليجي تضخّ بصورة يوميّة العداء ضد اليسار وضد الشيوعيّة.
إن المكارثيّة العربيّة المُعادية للشيوعيّة لم تنتهِ على صغر الحركة الشيوعيّة العربيّة. لا تزال معاداة الشيوعيّة واليسار، عنوان مقالات الرأي المنشورة في صحف آل سعود التي لا تزال على نَفَس الحرب الباردة، والتي تكفّلت فيها الساحة العربيّة بالنيابة عن الآمر الناهي الأميركي. لا يزال سمير عطالله وغيره يملؤون صحفات النفط بالسخرية من الشيوعيّة والتحريض ضدّها، برغم حالة الانحسار الفظيع للشيوعيّة في الساحة العربيّة. لكن عند هؤلاء، تعلو العقيدة الوهابيّة على ما عداها. كما ان لهم حساباً عسيراً مع الذين تجرّأوا على حكم الطغاة في الخليج. كان إعلام اليسار في الخمسينيات والستينيات حتى السبعينيات مُجاهراً بالدعوة إلى إسقاط كل الأنظمة الرجعيّة (لأن اليسار الفلسطيني جرّ اليسار العربي – اللبناني والسوري نحو مواقف أكثر ثوريّة بعد إن استكانت مواقف اليسار العربي بأوامر سوفياتيّة).
ذم الشيوعيّة يجري على أكثر من صعيد. هو يجري على أيدٍ شيوعيّة من الذين يعطّلون الحزب الشيوعي اللبناني، والذين يميّعون عقيدته الماركسيّة عبر شعارات لا تختلف عن سياسة الأحزاب الرأسماليّة الليبراليّة في الدول الغربيّة. وهو يجري على الذين يشوّهون الإرث الماركسي، وهم في العلاقة مع ماركس، كحال علاقة سعد الحريري مع هيغل. هاكم وهاكنّ كريم مروّة، يكتب قبل أيّام فقط في ملحق “النهار”، الجريدة التي تكرّست في سنوات الحرب الباردة للنيل من الشيوعيّة والشيوعيّين عن “يسار لبناني جديد”. إذ انه يخال لصاحبكم أنه سيجرّ الشبيبة اليساريّة في لبنان نحو الحريريّة. وبعد ان كان مروة قد قرّر في كتابه “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي”، ان الدولة الرأسماليّة هي وحدها المؤهّلة لـ”الحدّ” من جشع الرأسماليّة، شرط ألا يعكّر صفوها سلاح المقاومين وماركسيّة الثوريّين. طلع مروّة في مقالته الجديدة المذكورة بفهم جديد لما هو مُناسب له من ماركس وفهم مبتكر لتراثه العميق.
بلغ تمييع الفكر اليساري الذروة في أطروحات اليساريّين السابقين مثل مروّة الذي يدعو في مشروع لتجديد اليسار إلى أخذ “هموم الوطن والمواطنين كافّة”. لكن وفق هذه التوليفة، لا نعود نعرف كيف نميز اليسار عن الكتلة الوطنيّة أو حزب الكتائب أو تيّار الحريري. ومع مروة، يصبح من واجب اليسار، ان يحمل في قلبه وعقله هموم الطبقة الرأسماليّة الفاسدة كما يحمل هم الطبقة العاملة. أي ان اليسار الجديد في صيغة كريم مروّة، يبتغي ان يحمل هموم نقولا شمّاس وسعد الحريري ونجيب ميقاتي كما يحمل هموق الفقراء والمحتاجين. ويرى مرّوة في تلخيصه لفكر ماركس ان النضال اليساري يجب ان يتركّز حول “النضال الدائم لتحقيق التنمية المستدامة”. الذين باعونا ماركس مُعلّباً من قبل ستالين، يبيعوننا اليوم ماركس مُعلّباً من قبل البنك الدولي. مصطلحات البنك الدولي وصندوق النقد، باتت هي وجهة اليسار الموغل في اليمين. “تنمية مستدامة” في فكر كارل ماركس؟ ماركس ينطق بلغة جيمس ولفنسن ورفيق الحريري؟ أين وجد مرّوة كارل ماركس هذا؟ كيف أصابه بهذا التشويه الفظيع؟ هذا نوع من اليسار لا يزعج، لا بل يوافق مصالح الطبقة الحاكمة.
حملة نقولا شمّاس وما يمثّل، تؤشّر على صعود في خطاب اليمين الرأسمالي في لبنان (وهو متعدّد الطوائف مع غلبة موروثة من معادلة عهد دولة ما قبل الطائف). هذا اليمين الرأسمالي الحاكم، يرى أن هناك بوادر لانتعاش الحركة اليساريّة في لبنان، تزامن مع تنشيط لبعض حركات اليسار في العالم العربي، لكنه نشاط يضرب بأقلام اليساريّين السابقين الذين يهتفون بحياة الأمير لو مرّ طيفه. ينفون وجود اليمين واليسار، وينفون حتى وجود الطبقات. هؤلاء هم الذين يعتبرون ان شر صراع الطبقات هو شرّ مستطير وأن رائحته أنتن من رائحة نفايات بيروت.
لكن كيف تُحلّ مشاكل المجتمع والاقتصاد من دون صراع طبقي؟ وكيف تُمارس السياسة في الدول الغربيّة عندما تتصارع مصالح اقتصاديّة مختلفة (أُقصيَت عنها مصالح العمّال بعد تقويض الحركات والنقابات العمّاليّة حتى بلغت نسبة العمّال المنضوين في نقابات في أميركا أقلّ من عشرة في المئة بعد ان جاوزت الثلث في أوائل الخمسينيات) عبر أحزاب مختلفة، يتقاسم فيها الأثرياء الكعكة مع فتات للطبقة المتوسّطة؟ حتماً، إن الصراع على النفايات في لبنان، حتى لا نتحدّث عن غيره من القضايا، هو صراع طبقي. لقد اختار رفيق الحريري صاحب “سوكلين” ميسرة سكّر، والرجل، خلافاً لكسل وسائل الإعلام في لبنان، نتاج صداقة عميقة بينه وبين الحريري. وقد تعرّف الناس إلى سكر للمرّة الأولى، في مقابلة على تلفزيون الحريري، أسهب فيها سكّر، وعُرِّف على انه الصديق الأقرب إلى الحريري وعمل في شركته حتى منتصف التسعينيات. وعندما اختاره الحريري، فعل ذلك، كي يثري بالشراكة مع منتفعي الشلّة على حساب مصلحة الشعب اللبناني. إن كل الذين تقدّموا بعروض لحل مشلكة النفايات هم من أثرياء لبنان وهم — كما في كل قطاع في لبنان — يتقاطعون مع زعماء الطوائف. والصراع الطبقي هو صراع يندرج في سياق الصراع الرأسمالي العالمي. وليس صدفة ان هناك خطبة خاصّة من السفير الأميركي في مديح نقولا شمّاس. الطبقة الاقتصاديّة – السياسيّة الحاكمة بكلّ طوائفها (لنقولا شمّاس آراء أيضاً ضد سلاح المقاومة وفي مديح “عاصفة الحزم”). وهي طبقة تمثل دور الخادم المحلي للاستعمار الرأسمالي الغربي في منطقتنا. لهذا، فإنه لا فائدة من تحرّك شبابي (أو شيوخي) مطلبي لا يرفع شعارات في السياسة الخارجيّة.
والثقافيّة الرأسماليّة لا تسمح بالإقرار بالبديهيّات: أن كل برامج الرعاية الصحيّة والاجتماعيّة للدولة الرأسماليّة الحديثة لم تكن منّة من الطبقة الحاكمة وإنما اتت عنوةً نتيجة لتراكم نضالات العمّال الشيوعيّين والفوضويّين حول العالم. الإجازة المدفوعة وضمان الشيخوخة والضمان الاجتماعي والضرائب التصاعديّة والتأمين الصحّي والحدّ من الاحتكارات (هذا ليس في لبنان طبعاً) وكل ما هو في جانب “الحريّة الإيجابيّة” هو نتيجة النضال الشيوعي.
قد يكون الشيوعيّون يشكّلون “بقايا”، لكن عليهم اجتراح المعجزات وأن يرتكبوا الخوارق لو هبّوا. لهم ان يهدموا أركان البنيان الاقتصادي الراسمالي القبيح — الذي كرّسه رفيق الحريري أكثر من دولة ما قبل الحرب الأهليّة — وأن يطاردوا اصحاب المليارات خارج قصورهم حتى يفرّوا مذعورين في طيّارتهم الخاصّة. لهم ان يغيّروا من معالم وسط البلد وأن يُكرّموا فيه مُحرّري لبنان لا مستعبديه. لهم الشمس والقمر و… السوليدير وكل الساحات، لو أرادوا، ولو هبّوا.
الأخبار