الرئيسية / مقالات / موسم الهجرة نحو المجهول

موسم الهجرة نحو المجهول

الأربعاء 11 . 11 . 2015

كاظم فنجان الحمامي

حتى أنا الذي لم ولن أفكر في يوم من الأيام بمغادرة العراق أصبحت أمضي وقتي كله في البحث عن أشقائي الذين انقطعت أخبارهم في القارات النائية، وابحث عن أصدقائي الذين غيبتهم الغربة. ربما أصبحنا نحن الغرباء في وطننا بعد هذه الهجرة المخيفة التي شملت النازحين والمهجرين واللاجئين، ووضعت أوربا في وضع لا تُحسد عليه، إلى المستوى الذي قررت فيه المستشارة الألمانية تأجيل أعمالها، وتكريس اهتماماتها بالعراقيين الوافدين عليها، ولم يخطر ببالي أن يأتي اليوم الذي يضع فيه رئيس وزراء فنلندا (يوها سبيبلا) منزله الواقع في (كيمبيلي) تحت تصرف الأسر العراقية النازحة، ويتبرع لهم براتبه الشهري، ولم يخطر ببالي أن تصل مصيبتنا إلى اليوم الذي تجهش فيه وزيرة خارجية السويد (مارغوت ولستروم) بالبكاء، وتذرف دموعها الصادقة متأثرة بأوضاعنا البائسة.
حتى الطيور التي رسمت مسارات بوصلة الهجرة باتجاه العراق منذ قرون وقرون، انخفضت أسرابها تدريجيا بسبب جفاف الأهوار، وبسبب تصاعد العمود الملحي، واختلال منظومة التنوع الأحيائي، والصيد الجائر، ثم فقدت بوصلتها البيئية فهجرت العراق، ولجأت إلى حاضناتها البديلة. لم تمض بضعة سنوات على هجرة الطيور حتى بدأت هجرة الإنسان العراقي الذي يحمل النسخ الأصلية لجينات السلالات البشرية الأصيلة، ويخفي في خلاياه التركيبة النوعية النقية لأصل الخليقة، فغادر مهده الحضاري، وتخلى عن مسلة حمورابي، وهبط من قمة زقورة (أور) تاركاً مفاتيح معبد سيدنا إبراهيم بيد أعضاء مجلس محافظة (ذي قار)، الذين أعلنوا مدينتهم جنة وهمية للمستثمرين، لكنهم حولوا مدرجات (النمرود) إلى مكبات للأنقاض والنفايات، وسمحوا بتجفيف الفرات والغراف، ليحصدوا سنابل الخيبة والفشل من حقول (الرفاعي) المدرجة على قوائم تعطيش الأرض، فلا نواعير تروي السواقي المصابة بكولسترول الأطيان، ولا قدور تفور، ولا عجلات تدور،. ثم ظهرت آفات الفساد في البر والبحر، فنشرت فايروساتها في السهل الرسوبي ومقترباته، الأمر الذي أجبر شباب الميزوبوتاميا إلى شد رحالهم نحو البقاع البافارية البعيدة، فعبروا الحدود المجرية اليونانية في هجرة جماعية توحدت فيها طوائف العراق من شماله إلى جنوبه.
كان الآشوريون في طليعة القوافل المهاجرة عنوة نحو المنافي المجهولة. كانوا أول الذين اُقتلِعت جذورهم من سهل نينوى، فهاموا على وجوههم في الجبال والوديان، وسيقت نساءهم في أفواج السبايا، ثم تلاحقت من بعدهم موجات الفرار من منغصات المدن الأخرى، منهم من أجبروه على الهجرة، ومنهم من اختارها بحثا عن الملاذ الآمن، ومنهم من قرر ترك العراق إلى غير رجعة.
العالم كله يقف حائراً متألماً على ما آلت إليه أحوالنا، بينما ينشغل (قادتنا الأشاوس) بأشياء أخرى لا علاقة لها بمستقبلنا المظلم، ولا ترتبط بحاضرنا المبهم، ولا تنتمي إلى ماضينا المؤلم.