الخميس 12 . 11 . 2015
د. مصطفى يوسف اللداوي / اللداوي
أكثر ما يذكر الفلسطينيون في هذه الأيام المباركات من انتفاضة القدس الثانية، القائد الراحل ياسر عرفات، الذي تحل ذكرى استشهاده هذه الأيام، التي كانت موجعة ومؤلمة، وحزينة وغريبة، وفيها أثار خسة ونذالة الخبثاء، ومكر الخائفين الجبناء، رحل كبيراً كما كان، وعزيزاً كما أراد، ورمزاً كما بقي، وقائداً كما عرفنا، وعيونه إلى القدس ترنو، ونفسه إلى المسجد الأقصى تهفو، أن يصلي فيه ويركع، وبجبينه على أرض المسرى يسجد، وبقي حلمه شهيداً أن يدفن في ثرى القدس، وإنه لينتظر.
رحل القائد أبو عمار بينما يخوض شعبه انتفاضةً ولا أعظم منها إلا انتفاضة القدس الأولى، التي شهدها وكان أحد صناعها، وكان فيها جندياً وقائداً، وردفاً وسنداً، وعوناً وناصراً، وموجهاً ومرشداً، يعمل بصمتٍ وخفاءٍ، وهدوءٍ وسكينةٍ، دون جلبةٍ ولا فوضى، ولا ضوضاء ولا أضواء، يظنه الراؤون أنه صامتٌ ضعيف، وعاجزٌ يتفرج، ويدرك العارفون أنه فاعلٌ ويعمل، ليله نهارٌ تدبرٌ وافتكارٌ، ونهاره صحوٌ فعلٌ ومتابعة، وتوجيه ومساندة.
اغتاظ العدو الإسرائيلي وغضب منه وحنق عليه، فحاصره وعزله، وضيق عليه وخنقه، وسمه وحاول قتله، وتآمر عليه وساعد على الإطاحة به، بعد أن علم أنه يؤمن بالانتفاضة ويساعد رجالها، ويؤيدها وينصر شبابها، ويفكر فيها ويخطط لها، وقد رفض كل أشكال التعاون والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني لوأدها والقضاء عليها، وإخمادها ومنع انتشارها، فما استجاب إلى مطالبهم، ولا خضع إلى شروطهم، ولا سمع نصح أوليائهم، ولا تهديد أربابهم، وبقي على موقفه مع شعبه، وحافظ على ثوابته مع أهله، فكانت الانتفاضة في عهده قوة، وفي أيامه رفعة، ولم يسمها عنفاً أعمى، ولا فوضى خنَّاقة لا أفق لها، ولا نتائج مرجوة منها.
انتصر أبو عمار لانتفاضة القدس الأولى لأنه كان يعلم أن قوة شعبه له قوة، وعظمته له عظمة، وانتصاره على عدوه انتصارٌ له ورفعة، وقوة جديدة ومنعة، وأن الانتفاضة لا تخلف إلا عزاً، ولا تورث إلا نصراً، فأوعز إلى ضباطه وعناصره، وكوادره ورجاله بأن يكونوا على استعدادٍ تامٍ لأيامٍ قادمة، وأمرهم بالوقوف إلى جانب انتفاضة شعبهم وحمايتها من أعدائها، وصيانتها من خصومها، وتطهيرها من المتآمرين عليها، فكانت النتيجة أن أغلب شهداء انتفاضة القدس الأولى كانوا من عناصر الشرطة الفلسطينية، ومن منتسبي الأجهزة الأمنية، ومن العاملين في مؤسسات السلطة الفلسطينية، انتقاماً من موقف ياسر عرفاتٍ القائد الرجل، ومحاولةً إسرائيلية لعقابه وتأديبه، عله يغير موقفه، ويبدل سياسته.
لكن عرفات بقي على موقفه صامداً، وعلى مبادئه ثابتاً فاعتقلوا رجاله، ولاحقوا مجموعاته العسكرية التي كان يدعمها بصمت، ويوجهها بسريةٍ، وأبعدوا طبيبه، ومنعوا علاجه، وضيقوا الحصار عليه في مقاطعته، وقطعوا عنها التيار الكهربائي فبقي في مكتبه على ضوء الشمعة، يدير اجتماعاته، وينظم أعماله، ويجري اتصالاته بأبسط الأدوات المتوفرة لديه وهي جداً قليلة، ومن مكانه الضيق المحاصر بالدبابات والسيارات العسكرية الإسرائيلية، كان يبشر بأن شبلاً من أشبال القدس، سيرفع العلم فوق مآذنها، وكان يرد على من يريد قتله أنه يتمنى الشهادة ويريدها، فكانت كلماته شهيداً شهيداً شعاراً له ودالةً عليه.
لو أن ياسر عرفات بيننا اليوم ما كان ليتأخر عن اللحاق بدرب المقاومة، والمشاركة في الانتفاضة، والمساهمة مع شباباها وشاباتها، ومدهم بالسلاح والمال، وحمايتهم من القتل والاعتقال، وما كان أبداً ليسمح للعدو الإسرائيلي أن يحلم في تنسيقٍ أمني معه، يلتف على الانتفاضة، ويتآمر على الشعب، ويخون العهد، ويسرق الجهود، فقد مات ياسر عرفات وهو يحلم باستعادة القدس عاصمةً، والصلاة فيها مسجداً، والاحتفاظ بها مسرىً ومدينةً مقدسةً للعرب والمسلمين جميعاً.
اليوم أيها القائد أبو عمار نذكرك ولا ننساك، ونعلم أنك كنت في السر والخفاء تعمل مع المقاومة، وتساند رجالها، وتصنع ألويتها، وتعقد راياتها، وتنسج من ضوء الصباح أثوابها، وترسل مع أشعة الشمس إلى بقاع الوطن أنوراها، فهل نحلم أن ينهض رجالك، وتنتفض حركتك، وتعيد مجدك ومجدها، وتحقق حلمك وحلمها، وتستعيد راية الانطلاقة وشعلة المقاومة وعاصفة التحدي والمواجهة، فإننا والله في حاجةٍ إلى فصائلنا القوية، وفتح الأبية، وتنظيماتنا الصلبة، ورجالنا البواسل، الصيد الأباة الكماة، التي لا تقبل بالتنازل ولا تؤمن بالتفريط، ولا ترضى بحلولٍ وهميةٍ ومفاوضاتٍ مذلةٍ ومهينة.
انتفاضة القدس الثانية تحييك أبا عمار في ذكرى رحيلك العالي، وهي اليوم أشد ما تكون قوةً وبهاءٍ، وجمالاً وجلالاً، تزدان وتزدهر، وتتيه وتفخر، فالشعب قد توحد، والشباب قد اتقد حماسةً وانطلق بركاناً، والأرض الفلسطينية قد استعادت لحمتها وألقها التاريخي المجيد، وبهاءها القديم من البحر إلى النهر، ومن رفح حتى رأس الناقورة، فما عادت فلسطيننا الضفة وغزة، بل رجعت إلى أصلها الضفة وقلبها القدس وغزة، والمثلث والجليل والناصرة، وحيفا وعكا وصفد وكل بقاع الوطن الحبيب فلسطين.
أبا عمار … لن تخبو انتفاضة القدس الثانية حتى تحقق أهدافها وتصل إلى غاياتها، ولن يغمد شباب فلسطين وشاباتها سكاكينهم حتى تعود إليهم قدسهم حرةً، وأقصاهم مطهراً من كل رجسٍ ودنس، ولن ينعم الإسرائيليون بأمنٍ وأهلنا يقتلون، وحقوقنا تهدر وتستباح، فما كانت انتفاضة القدس الأولى إلا من أجل الكرامة، ورداً على استهتار الإسرائيليين واستفزازهم لمشاعر العرب والمسلمين، وكما فاجأ الفلسطينيون عدوهم في انتفاضة القدس الأولى، فإنهم يفاجئونهم اليوم بأشد مما يتوقعون، وأجرأ مما يحسبون ويتخيلون، وما الشباب المندفع نصرةً للقدس ودفاعاً عن فلسطين، إلا عنواناً لثورةٍ في النفوس كامنةً، وجذوةً في الأرض مشتعلةً، لن يقوَ أحدٌ على إخمادها إلا باستعادة الحقوق، ورد المظالم.
غيابك أيها الأجل مكانةً والأعظم قدراً، يذكرنا بقادةٍ أمثالك وأخوةٍ لك، ورفاق دربٍ ورواد مسيرةٍ، شهدوا معك انتفاضة القدس الأولى وكان لهم فيها فضلٌ وسبق، وسهمٌ وعمل، ورجالٌ وأتباعٌ، وجنودٌ ومقاومون، ولكن العدو الخبيث الماكر أدرك قوتهم، وعلم أثرهم، ولمس تأثيرهم فغيبهم اغتيالاً، وصفاهم انتقاءً لأنه يعلم أنهم الأقوى والأخطر، والأشد فعلاً والأعمق جذراً، فهم في عمق الأرض يمتدون، وفي باطنها ينغرسون.
اليوم نذكر معك شهداءً كباراً وقادةً عظاماً، نحبهم ونجلهم ونفتقدهم، نذكر الياسين أحمد، والأسد الهصور الرنتيسي، وكلاهما كان بنفسه جبهةً عظيمةً، ووحده جيشاً يقاوم ويقاتل، ولكن عزاءنا أن أبناءهما من بعدهما حملوا الراية، وواصلوا المسيرة، وتابعوا الخطى التي بدأتم، والجهاد الذي رسمتم، فطوبى لك معهم، وهنيئاً لشعبنا بقادةٍ عظامٍ أمثالكم، ورجالٍ كبارٍ ذوي قدرٍ عظيمٍ كقدركم، جمعكم الله وشهداء فلسطين، وجعلكم في خير مقامٍ وأعلى درجةٍ، في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.