الاحد 15 . 11 . 2015
بعد مرور 15 شهراً و8 أيام، بدأت “ساعة الصفر” لإطلاق عملية “شنكال الحرّة” بدعم وإسناد جوي مكثف من مقاتلات “التحالف الدولي”، التي نفذّت عشرات الضربات الجوية ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي أدى إلى نجاح العملية وتحقيق أهدافها وغاياتها 100% بحسب تصريحات مسؤولين في البيشمركة وحكومة إقليم كردستان.
اللافت للنظر في عملية تحرير شنكال، هو تكرار ذات السيناريو أثناء تحرير مجمعات شمال شنكال في 18 ديسمبر الماضي، حيث لم يبدِ تنظيم داعش أي مقاومة. ما يعني أن شنكال خرجت من سيناريو الإحتلال بصفر مقاومة للبيشمركة، لتدخل في سيناريو التحرير بصفر مقاومة لداعش. في كلتا الحالتين كان هناك إنسحاب وتكتيك ولامقاومة.
الحديث عن “تفوق” داعش العسكري، عديداً وعتاداً على قوات البيشمركة، إبان وأثناء احتلاله لشنكال كان مبالغاً فيه جداً. انهيار قوات البيشمركة مع كامل منظومة الدفاع الكردستانية في الثالث من أغسطس 2014 أمام هجوم داعش على شنكال، لم يكن بسبب النقص في السلاح والعديد والعتاد، ولا بسبب تفوق الخصم الداعشي عسكرياً ولوجستياً، كما تمّ تبرير “الإنسحاب التكتيكي” كردياً، وإنما كان بسبب النقص في الإرادة والعقيدة القتالية لدى البيشمركة، الذين تخلّوا عن الإيزيديين (الكفّار الأصلاء بحسب توصيف داعش) وتركوهم وراءهم فريسةً سهلةً ينهشها وحوش القرن الحادي والعشرين.
ولعلّ صمود القوة الإيزيدية المستقلة (قوة حماية إيزيدخان) التي تحصّنت في جبل شنكال وتصدّت بسلاح متواضع جداً لعشرات العمليات الهجومية والإنتحارية لإرهابيي التنظيم على معاقلها، ودافعت عن أرض الإيزيديين وشرفهم بإعتباره شرفاً لعموم العراقيين والكردستانيين، على مدى أكثر من 15 شهراً، من تاريخ احتلال داعش لشنكال حتى تحريرها في 13 نوفمبر الجاري، هو خير دليل على أنّ الكلام عن “تفوق” داعش العسكري أثناء احتلاله لشنكال، لم يكن سوى أكثر من دعاية مبالغٌ فيها للتسويق المحلي وتبرير “الإنسحاب التكتيكي” لمنظومة الدفاع الكردستانية.
قبل الثالث من أغسطس الماضي، كانت شنكال تُدار من قبل حكومة “أمر واقع” تابعة في كلّ شيء (القائمقامية، الآسايش، البيشمركة، الباراستن) إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني. لكنّ انسحاب قوات الأخير من شنكال في الثالث من أغسطس 2014 ب”صفر مقاومة” و”صفر شهيد” و”صفر جريح” بتلك الطريقة الدراماتيكية، خلال ساعات، ما أدى إلى حدوث أبشع وأفظع جينوسايد بحق الإيزيديين في هذا القرن، أثار الكثير من الشكوك حول أداء حكومة شنكال وحزب رئيس إقليم كردستان المنتهية ولايته السيد مسعود بارزاني، الأمر الذي أدى إلى فقدان ثقة الإيزيديين بالأخير وحزبه، خصوصاً بعد نكثه لوعوده الكثيرة التي أعطاها للإيزيديين، دون أن ينفذ منها شيئاً حتى الآن، خصوصاً لجهة محاسبة قادة الصف الأول المسؤولين عما سمي ب”الإنسحاب التكتيكي”، لا بل أن البعض منهم شارك في عملية “تحرير شنكال” الأخيرة، وكأن شيئاً لم يكن.
بعيداً عن التحليلات والتقارير التي تحدّثت عن “مسرحية احتلال شنكال” والتي كانت عبارة عن صفقة شارك فيها أكثر من جهة محلية وإقليمية وربما دولية، ل”مقايضة شنكال بالسلاح”، يتحدث الإيزيديون الذين نجوا من عمليات الإبادة، عن قصص “بيع” و”خيانة” حكومة شنكال بقيادة الديمقراطي الكردستاني للإيزيديين. في قصة مؤلمة لإحدى الحرائر الإيزيديات الناجيات من أيدي عصابات داعش، قالت بألم شديد: “ما آلمني جداً هو خيانة جارنا الكردي الذي كان يربطنا به علاقة كرافة ومصاهرة لأكثر من ثلاثة أجيال” ثم تتابع “في إحدى المرات جمعنا الداعشي الذي كان يشرف على بيعنا لرجال التنظيم، فخطب فينا قائلاً: أتعلمون أننا اشتريناكم من كردستانكم.. بارزاني باعكم لنا”!
ثلاث حقائق أو قناعات، باتت تشكّل أساس المزاج العام للإيزيديين في شنكال وخارجها، بعد ما حلّ بهم بعد الثالث من أغسطس 2014:
الأولى، فقدان الثقة بحكومة إقليم كردستان وأدائها، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني. الثانية، ما حصل لهم بحسب قناعاتهم، كان نتيجةً لخيانة في وضح النهار على أعلى المستويات، ودليلهم في ذلك هو عدم إنقاذ البيشمركة لحياة مدني واحد. الثالثة، صعوبة أو ربما استحالة التعايش مع “خيانة” الجار الذي تحوّل خلال ليلة وضحاها من “كريف” للإيزيديين وشريك في العيش المشترك معهم، إلى “قاطع” لرؤوسهم، وسابٍ لنسائهم، يستبيح دمهم وعرضهم وأموالهم.
هذه الحقائق الثلاث المؤلمة على الأرض ستشكّل على الأرجح أساس تعاطي الإيزيديين مع واقع شنكال الجديد (شنكال ما بعد التحرير) إثر عودتهم إليها. ما يعني بأنّ الإيزيديين الذين يشكلّون أكثر من 70% من مجموع سكان قضاء شنكال، حيث يتجاوز عددهم 350 ألف نسمة، لن يقبلوا بإعادة شنكال إلى ما قبل الثالث من أغسطس 2014. زد على ذلك تغيّر الخارطة السياسية والعسكرية في شنكال خلال ال15 شهراً الماضية.
قبل احتلال شنكال كان الحزب الديمقراطي الكردستاني وأذرعه العسكرية والإستخبارتية والأمنية، هو القوة الوحيدة المتحكمة بزمام الأمور في شنكال، بإعتبارة “قوة أمر واقع”. لكنّ الأمور الآن تغيّرت، والمواقف تبدّلت، والقوى على الأرض تعددت، والظروف تعقدّت. فهناك إلى جانب قوات تابعة للديمقراطي الكردستاني، قوة الإيزيديين (قوة حماية إيزيدخان HPÊ)، وقوات للعمال الكردستاني (HPG)، ووحدات حماية الشعب (YPG)، ووحدات حماية المرأة شنكال (YPJ- Şingal)، ووحدات مقاومة شنكال (YBŞ)، بالإضافة إلى لواء للإتحاد الوطني الكردستاني. علماً أن عملية التحرير شهدت مشاركة فاعلة من جميع هذه القوى والجماعات المسلحة، الأمر الذي يقلق المسؤولين في إقليم كردستان، وعلى رأسهم الرئيس مسعود بارزاني المنتهية ولايته. والسبب الأساسي لهذا القلق هو احتمال خروج شنكال من تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، بإعتباره أحد أهم مراكز نفوذه في منطقة بهدينان.
كان هذا القلق حاضراً في أول ظهورٍ للسيد مسعود بارزاني بعد معركة تحرير شنكال، حيث بدا غاضباً ومتجهماً وكانت علامات الغضب بدلاً من الفرح على وجهه واضحةً.
على الرغم من أجوبته المقتضبة كعادته، ومحاولته التظاهر بأكبر قدر من التوازن، والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف بإعتباره رئيساً للإقليم، إلا أنّه بدا غير مرتاحاً للأوضاع إثر عملية تحرير شنكال.
ظهور بارزاني فوق جبل شنكال مع أكبر علم لكردستان، كان رسالة واضحة لبغداد بأنّ شنكال المتنازع عليها طبقاً للمادة 140 من الدستور العراقي، هي من كردستان وإليها، ما يعني ضمّها إلى نفوذ حزبه فعلياً، بحكم الإتفاقيات الإستراتيجية الموقعة بينه وبين شريكه في الحكم، حول توزيع مناطق النفوذ. لكنّ مؤتمر بارزاني الصحفي كشف بأنّ الطريق إلى ما يريد تحقيقه في شنكال، لإستعادة نفوذ حزبه، وإعادة الأوضاع فيها إلى ما قبل الثالث من أغسطس 2014، ما عاد سهلاً كما كان، وبات ربما محفوفاً بأكثر من خطر وأكثر من مغامرة.
بارزاني “القلق” في شنكال، أراد من خلال مؤتمره الصحفي عقب تحرير شنكال، إيصال الرسائل التالية:
* رسالة أولى إلى الداخل الكردستاني وأحزاب المعارضة مفادها “أنا الرئيس والقائد العام للبيشمركة”: خلافاً لظهوره عقب تحرير شمال شنكال كرئيس للحزب الديمقراطي الكردستاني، ظهر بارزاني، أمس، عقب تحرير قضاء شنكال، كرئيس لكردستان. هذه رسالة واضحة لمعارضي بارزاني بأنه لا يزال “رئيساً شرعياً” لكردستان، شاء من شاء وأبى من أبى. وربما من هنا جاء تأكيده على رفع علم كردستان فقط في شنكال، دون رفع أي علم آخر. علماً أنّ الحقيقة على الأرض كانت تقول عكس ذلك، حيث علم الحزب كان يتقدم علم كردستان ويعلو عليها في جميع محاور عملية تحرير شنكال.
* رسالة ثانية إلى حزب العمال الكردستاني وأذرعه المسلحة وقوة حماية إيزيدخان، لتعزيز هيبة البيشمركة، وأنّ “أي قوة عسكرية أخرى خارج منظومة الدفاع الكردستانية، هي خارج القانون، مرفوضة، وقوة غير شرعية”: على الرغم من أنّ بارزاني لم يجانب الصواب حين قال، بأن لا وجود لأحد في شنكال ومعركتها غير البيشمركة، وأكبر دليل على ذلك هو ظهور علم وحدات حماية الشعب (YPG) والعمال الكردستاني (PKK)، يرفرفان فوق سايلو شنكال الذي شهد رفع أكبر علم لكردستان، رغم هذا الإلتفاف على حفيقة ما يجري على الأرض ولّي عنقها، حيث الصور والوقائع على الأرض تقول أنّ قوة حماية إيزيدخان (HPÊ)، ووحدات حماية الشعب (YPG)، وقوات حماية الشعب (HPG)، ووحدات حماية شنكال (YBŞ)، ووحدات حماية المرأة شنكال (YPJ-Şingal)، كلّها شاركت في عملية تحرير شنكال، رغم كلّ ذلك إلاّ أن بارزاني أراد إيصال رسالة واضحة مفادها أنّ: شنكال هي جزء من إقليم كردستان ولن يحكمها غير هولير، ولا إعتراف بأي قوة أخرى على الأرض في شنكال، خلا قوات البيشمركة، ما يعني أنّ معركة كسر العظم الكردية بين الأحزاب الكردية وأذرعها المسلحة قد بدأت، وأنّ ساحة شنكال باتت مفتوحة على كلّ الإحتمالات.
* رسالة ثالثة إلى الحكومة المركزية بأن “شنكال تابعة لكردستان لكن نحتاج إلى مساعدة بغداد”: خلافاً لتصريحات بارزاني المستفزة عقب احتلال الموصل من قبل داعش، حين قال “انتهت المادة 140″، بدا بارزاني هذه المرّة أكثر ديبلوماسيةً وأكثر مرونة تجاه بغداد والحكومة المركزية، حيث أشار أكثر من مرّة على ضرورة التفاهم والتوافق مع الحكومة المركزية بخصوص مستقبل شنكال لضمّها كمحافظة سادسة إلى إقليم كردستان. لا شكّ أن لهذه المرونة تجاه بغداد أسباب لها علاقة بضعف موقف بارزاني تجاه معارضية بعد أزمة الرئاسة من جهة، وعدم امتلاكه لأوراق تفاوضية قوية، تعزز من موقفه في بغداد من جهة أخرى.
شنكال في جميع الأحوال ستتحوّل إلى بؤرة صراع كردستانية وعراقية وإقليمية جديدة، بين حزب بارزاني وأحزاب المعارضة الكردستانية من جهة، وبين بغداد وهولير من جهة ثانية، وبين حكومة إقليم كردستان وعلى رأسها الديمقراطي الكردستاني والعمال الكردستاني وتوابعه وأذرعه المسلحة من جهة ثالثة.
الكلّ، خصوصاً الأحزاب الكردستانية الرئيسية، حزب بارزاني وحزب طالباني وحزب أوجلان، سيحاول أن يضع قدماً له في شنكال.
شنكال خرجت على الأرجح من فوضى لتدخل فوضى أخرى.
شنكال تحررّت من فوضى داعش لتدخل في فوضى الأحزاب الكردية!
شنكال تحرّرت من فوضى الإحتلال لتدخل في فوضى التحرير!
شنكال تحوّلت الآن، من غنيمة تقاسمها أمراء داعش، إلى غنيمة تتقاسمها الأحزاب الكردية!
شنكال تحرّرت من جهنّم داعش، لكنّ السؤال الكبير ما بعد التحرير، هو: من سيحرّرها من جهّنم الصراعات الكردية!
شنكال لن تعود إلى ما قبل الثالث من أغسطس 2014.. هي ستنتقل من ديكتاتورية الحزب الواحد، والزعيم الواحد، والعلَم الواحد، والآيديولوجيا الواحدة، إلى ديكتاتورية أكثر من حزب، وأكثر من زعيم، وأكثر من علَم، وأكثر من آيديولوجيا.
شنكال ما بعد التحرير لن تنام في سلام.. المعركة القريبة القادمة فيها ستكون معركة كسر إرادات بين الأحزاب الكردية ذاتها.
شنكال ستتحوّل في القادم القريب جداً إلى ساحة جديدة لتصفية حسابات كردية قديمة لا علاقة لها بشنكال وأهل شنكال ومصلحة شنكال ومستقبل شنكال.
إيلاف