الخميس 26 . 11 . 2015
نارام سرجون / سوريا
الحمدلله أنّ اللعبة التنكرية انتهت بعد أن استمرّت خمس سنوات، تعبت فيها الوجوه من ثقل الأقنعة، وتعبت فيها الأقنعة نفسها من الوقوف والكذب، وأرهقت فيها العيون من النظر في الوجوه الجامدة، وكانت الطائرة الروسية تسقط وتجرّ معها كلّ الأقنعة التي سقطت على جبل التركمان، اللعبة انتهت بشكل غير متوقع وصادم وبدأ الحفل الحقيقي من دون رتوش ونفاق.
كنا ونحن نرى مؤتمر أنطاليا نكظم الغيظ لأننا سئمنا هذه المسرحية والديكورات التي يضعها الغربيون من أجل إقناع العالم بأنهم جادّون في محاربة «داعش» والإرهاب من اجتماع داخل تركيا عشّ «داعش»، كنا الوحيدين الذين نرى أنّ الأقنعة السوداء لـ«داعش» و«النصرة» لم تعد تخفي وجه أحد مقنّع، ولم يعد هناك داع لأيّ لثام، بل صار من السذاجة على الغرب الإصرار على ارتداء الوجوه البلاستيكية، لأنّ بصمات الملثمين رفعت عن كلّ زاوية وجريمة ومذبحة على طول مسرح الجريمة من العراق الى ليبيا، وكانت أيديهم تصافحنا وهي مغمّسة بالدم، وسقطت من القتلة الصور التذكارية في كلّ الشوارع الشرقية وهم يعانقون قادة الغرب وملوك الرمل وسقطت منهم جوازات السفر وشهادة الميلاد قرب المجازر، وعلى ثيابهم ظهرت بقع النفط المسروق من سورية، وفوق كلّ هذا كانوا يجتمعون في أنطاليا من أجل «محاربة الارهاب»!
في مقالة بالأمس كتبت أن لا أحد يصدّق أنّ الغرب يريد إنهاء الإرهاب أو إسقاط «داعش»، وكان الروس في المؤتمر يريدون إحراج الغرب ليس إلا ومحاصرته إعلامياً، ولكن الغرب اليوم أعلن صراحة سقوط كلّ مؤتمر أنطاليا وسقوط كلّ الأقنعة التي هوت بسرعة كما هوت الطائرة الروسية بسرعة الى الأرض معلنة نهاية الحفلة التنكرية المملة والطويلة والسمجة والوقحة.
لا شك انّ الحركة التركية فاجأتنا جميعاً، ولم يتوقعها الكثيرون، لأنّ تركيا لا تتصرف من دون العودة واستئذان الغرب وطلب الترخيص لكلّ عمل عسكري، وكانت الضربة خارج التوقعات بشكل شبه مطلق لأنّ الغرب كان يصوّر نفسه على أنه ضحية للإرهاب وأنه جاء الى أنطاليا لتوحيد العالم ضدّ «داعش» وكلّ الحركات المتطرفة الراديكالية، ورغم أنه كان ينافق فإنّ أحداً لم يصدّق أن يتوقف عن النفاق بسرعة قياسية وخلال 48 ساعة من إنهاء لقاء أنطاليا الذي ملئ وعوداً ومصافحات وأيماناً مغلظة لإنهاء الإرهاب، والمفاجئ في الحركة أيضاً هو أنّ الغرب أعلن بهذا السلوك ضدّ الروس صراحة أنه معنيّ بحماية «داعش» بالرغم من أنه استخدم طريقة مواربة للتملّص من وعده بدعم ضرب الإرهابيين، وهي أنه لم يقبل بضرب القوى المعتدلة غير الداعشية، الا أنّ السلوك العدواني تجاه الروس يعني في ما يعنيه أنه مهتمّ جداً بإيقاف المشروع الروسي لضرب «داعش» دون أن يعلن ذلك، فإحراج الروس وتهديدهم فيه هي رغبة طاغية في إخراجهم من معادلة الحرب على الإرهاب لما لأدائهم العسكري من جدية واضحة وأثر بالمقارنة مع الأداء الغربي الرخو المائع الذي صار بلا أثر بعد سنة كاملة على الضربات الغربية الجوية والذي ترجم خلالها البغدادي شعار باقية وتتمدّد ، ومن كان ضحية للإرهاب لا يعمل على إحراج من يأتي لمساعدته، ولا يعمل على إيذائه بل على العكس يوفر له كلّ السبل ليبقى بجانبه وكسب جهده العسكري، وهذه اللامبالاة بحشد القوى الدولية ضدّ الإرهاب تعني حرصاً على عدم إسقاط الإرهاب كمشروع غربي طموح بل العمل على حمايته وتوفير سبل بقائه وتمدّده، وهو يشبه التبجّح «بإعلان الحرب على الإرهاب ولكن مع الإصرار على عدم التعاون مع الرئيس الأسد والجيش السوري»، فإذا أبعدنا الرئيس الأسد ثم أخرجنا روسيا وإيران من المعادلة فمن سيبقى ليحارب «داعش»؟ الجولاني أم زهران علوش؟ الحقيقة هي أنّ إخراج هذه القوى هو تثبيت للإرهاب وتحالف معه، وهذا هو المشروع الغربي ببساطة.
الحركة الغربية المفاجئة تمثلت أيضاً في أنها دفعت تركيا إلى القيام بها نيابة عنها وحمل الرسالة جواً فيما تصنّع الغرب سياسة النأي بالنفس والدعوة الباردة إلى ضبط النفس، والكلّ يعرف أنّ تركيا لن تجرؤ على هذا التحرّش دون ضوء أخضر غربي، فالمنطق يقول بأنّ الحركة التركية هي بتحريض الناتو بشكل كامل.
وتفسّر هذه العملية المباغتة والمفاجئة رغم أنّ فناجين القهوة لا تزال على الطاولات في أنطاليا بأنّ الغرب فشل في تحويل مؤتمر أنطاليا الى منصة يستولي من خلالها على القرار الروسي بتدمير «داعش» وأشباهها أو يحتويه، فالمؤتمر أراد أن يضمّ روسيا الى تحالفه لا أن ينضمّ هو الى تحالف روسيا، وتحالفه يعني أن تصبح روسيا قوة مقاتلة ضدّ الإرهاب ولكن تحت السيطرة والتوجيهات الغربية، بحيث يلزمها التنسيق مع الغرب على الاعتراف بمكونات المعارضة الاسلامية التي تصنّف معتدلة، ويتمّ تقاسم ميدان الحرب ضدّ «داعش» مما يتسبّب في تجنيب «داعش» الضربات القاتلة الروسية والموجعة، ويتمّ بعد فترة إعلان فشل روسيا في محاربة الإرهاب مثلما فشل الغرب، وتبدأ خطوط التقسيم الواقعي بتثبيت نفسها، فيتولى الغرب عملية احتواء «داعش» ثم استبدال «داعش» بقوى تسمّى معتدلة ولكنها ترسم خط تقسيم سورية والعراق النهائي، لكن الروس أبدوا فهماً دقيقاً للنوايا الغربية وأنّ حمل روسيا الى منصة التحالف الغربي غايته حماية خفية للمشروع الغربي بإقامة مراكز قوى إسلامية متطرفة، وإظهار روسيا على أنها فشلت ايضاً.
وبرغم هذا فإنّ المغامرة الغربية من ناحية أخرى تعني أنّ الميدان العسكري في الشمال السوري صار يتجه نحو إعلان هزيمة مجلجلة للقوى الراديكالية الموالية للغرب، ولا بدّ من إيقافه حتى من باب التلويح بالمواجهة لإيقاف الاندفاعة الروسية السورية والمعركة البرية المرتقبة في حلب وإدلب التي سيخوضها الجيش السوري وروسيا وإيران، وهذه المناورة ضدّ الطائرة الروسية تشبه تمثيلية السلاح الكيماوي في الغوطة، حيث أوقف التوتر الدولي المبالغ فيه هجوماً كاسحاً للجيش السوري نحو ريف دمشق وكانت تحصينات جوبر على حافة الانهيار لفتح الطريق نحو عمق الغوطة وإنهاء التمرّد في دوما.
العالم اليوم لا يهمّه سوى الإجابة على سؤال واحد هو: كيف سيتصرّف الروس؟ هل سيجزعون؟ هل سينكفئون؟ هل سيقرأون الرسالة ويميلون الى العقلانية ومراجعة الحسابات؟ أم أنهم سيصبحون مثل النمر الجريح الذي يصبح في غاية الشراسة ويندفع نحو من يهاجمه ليمزقه؟
دعونا نقرّ بأن لا أحد توقع الحركة الغربية، ولا أحد تنبّأ بأن ينكث الغرب وعوده الأنطالية بسرعة ويحاول إخراج روسيا من المعادلة، فيما حادثة باريس لا تزال طرية ودماؤها لم تتخثر على الطرقات، وهناك رأي عام غربي يبحث عن الثأر ويرغب في مساهمة الجميع، فإذا بالغرب لا يبالي ويكلف أردوغان بمهمة إفساد حفلة افتتاح الحرب على الإرهاب، ولذلك لا يجب على أحد أن يسارع إلى القول بأنه قادر على التنبّؤ بما سيفعله الروس الذين أيضاً فاجأوا العالم باندفاعتهم المذهلة في سورية ولم يتوقعها أحد أيضاً، ولكن أذكر أنني كتبت مقالة عن تحليل لقمة الرئيسين الأسد وبوتين وقلت إنها قمة الحرب والسلام وإنها جاءت للاستعداد والتنسيق تجاه أيّ احتمال وطارئ يمكن توقعه من الغرب وتركيا إذا ظهرت في الأفق ملامح هزيمة عسكرية للقوى الإسلامية واندحارها كمشروع غربي، أيّ أنّ هناك احتمالاً واقعياً وضعه الروس والسوريون بأنّ ردّ الفعل الغربي يجب دراسته ووضع كلّ احتمالاته والاستعداد لها، بما فيها التصعيد العسكري في الناحية الشمالية تحديداً عند تركيا.
ولذلك فإننا يجب أن نميل الى الاعتقاد بأنّ هذه المناورة الغربية متوقعة من قبل القيادتين الروسية والسورية، وانْ كانت في سياقات أخرى وليست بالضرورة بهذا الشكل الذي ظهر، وهذا يعني أنّ علينا انتظار الخطة «ب» التي وضعت احتمال الردّ الغربي على إنهاء مشروع الإرهاب الإسلامي في سورية، والتي وضعتها القيادة الروسية بالتنسيق مع السوريين والإيرانيين، وهي غالباً استكمال الهجوم وإعلان منطقة حظر جوي مطلق للطيران الغربي فوق المناطق التي تتحرّك فيها المقاتلات الروسية وإغلاق المجال الجوي السوري أمام الطائرات التركية التي تريد الادّعاء أنها تنوي ضرب «داعش» أو الأكراد، وربما تمدّد هذا الحظر الى عدة كيلومترات داخل تركيا ريثما تستكمل روسيا عملياتها.
ولكن الأهمّ أنّ هذه الصفعة الغربية بيد تركيا يجب أن تلاقي رداً روسيا من أجل هيبة روسيا وكرامتها، فلا يصحّ أنّ حزب الله تلقى صفعة من «إسرائيل» فردّها خلال أيام في شبعا من دون تردّد، والعالم بات يعرف الآن أنّ الأتراك على موعد مع الثأر الروسي، خاصة أنّ بوتين لم يهدّد بشكل منفعل بل اكتفى بالقول إنّ لذلك عواقب وخيمة على العلاقات التركية الروسية، وهذا الضبط للكلمات دون المبالغة في استعمال كلمات نارية لا يجب أن يثير إلا القلق لا الاطمئنان، وتبدو درجة الاستنفار العسكرية التركية قلقة للغاية وتنتظر أيّ أخبار سيئة.
ولكن على الأتراك أن يعرفوا أنّ الناتو لا يفضّل التصعيد ولن يخوض حرباً من أجلهم مع روسيا حتى وانْ كانت تركيا أطلسية، وكون تركيا هي التي اعتدت واعترفت بذلك، فإنّ هذا سيوفر ممراً للناتو للتنصّل من التزاماته المباشرة تجاهها انْ تطوّرت الأحداث في غير ما يشتهي، وتاريخ الروس معروف بأنهم انْ غضبوا ذهبوا الى أقصى مدى في غضبهم، وأنّ الغرب انْ لمس ذلك فإنه يستطيع ببساطة أن يقدّم أردوغان وأوغلو قرباناً لأيّ تهدئة مع الروس ويتجنّب التصعيد، بل انّ البعض يرى في جنون العظمة الأردوغاني سلوكاً يشبه سلوك صدام حسين حين قام بدخول الكويت تحت مظلة جواب السفيرة الأميركية ابريل غلاسبي بأنّ الولايات المتحدة لن تتدخل في النزاع الكويتي العراقي، وكان ذلك فخاً قاتلاً، فهل هناك من قال لأردوغان العكس بأنّ الغرب سيتدخل بقوة إذا تحرّش الروس به كونه عضواً في الناتو؟ وقد يستجيب الرجل لجنون العظمة وهو يرى معجبيه يصفقون به ويبدون مبهورين بجسارته على تحدّي أقوى رجل في العالم، ولكنه إذا ما دخل الفخ تُرك لمصيره في مواجهة لا يقدر عليها وتقوم اميركا بتغيير الصفّ القيادي التركي لاعتبارات ناتوية؟
اذا ما دخل الغرب في مواجهة وتصعيد فإنّ هذا يعني أنّ العالم تشقّق من جديد وحدث تحالف ناتوي إسلامي تتولى فيه تركيا قيادة الإسلاميين الجدد جنود الناتو المخلصين، وسيتداعى بسبب ذلك كلّ العالم الناهض الى مواجهته من الصين الى كلّ دول بريكس، لما سيسبّبه من قلق على بقية العالم الذي سيدرك أنّ من الخطأ القاتل التساهل مع هذا التحالف الشرير، ونحن عندها مقبلون على مواجهة القرن.
الأيام المقبلة ربما ستقرّر مصير الحرب في سورية، ومصير الدور التركي، وقد تحدّد نهاياته أو نهايات الحرب السورية، أو بداية طويلة الأمد لمواجهة القرن الباردة بين عالمين، لكن السؤال الذي يؤرق الجميع هو متى تتلقى تركيا الأخبار السيئة؟ الجميع بانتظار ساعي البريد الذي سيدقّ قصر اردوغان ويسلّم الرسالة الجوابية للقيصر فلاديمير بوتين، أقوى رجل في العالم…