الجمعة 27 . 11 . 2015
أحمد الشرقاوي / تونس
ما من شك أن جنون العظمة أعمى السلطان أردوغان لدرجة أنه فقد البصر والبصيرة حين انصاع لتحريض أوباما بإسقاط الطائرة الروسية لكسر هيبة روسيا وتمريغ أنف بوتين في التراب، ولم يتصور للحظة، أنه بإقدامه على هذا العمل الطائش والبالغ الخطورة، سيدق إسفينا عميقا في العلاقات الودية التي كانت تربط تركيا بروسيا، ويضحي بمصالح بلاده الإقتصادية والتجارية ومشاريع روسية المستقبلية التي كانت ستعزز من دور تركيا وموقعها الجيواستراتيجي بين الشرق والغرب..
وإذا كان أوباما قد سعى من وراء هذا الإستفزاز الرخيص لاختبار ردة فعل بوتين ومعرفة إن كان سيتراجع عن اندفاعته الحازمة في حرق الأوراق الأمريكية في سورية من خلال استهداف كل الفصائل الإرهابية المتطرفة و”المعتدلة” وفق التصنيف الأمريكي، اعتقادا منه أن الدب الروسي لن يقدم على الرد العسكري الذي سيجر حتما رجل الناتو للدفاع عن تركيا، فإن أردوغان من جهته يكون هو من سقط في الفخ برهانه على الوهم، اعتقدا منه أن المظلة الأطلسية ستضمن له تحقيق مشروع إقامة منطقته العازلة في الشمال السوري، وفق ما أعلن بوقاحة مباشرة عقب إسقاط الطائرة الروسية، ما يؤكد أنه حصل على موافقة ضمنية بذلك..
بوتين كشف اليوم في المؤتمر الصحفي الذي عقده بمعية الرئيس الفرنسي هولاند في موسكو، أن القيادة العسكرية الروسية في سورية، وفي إطار التنسيق القائم في الجو مع تحالف أمريكا، تمد القيادة الأمريكية مسبقا بمعلومات دقيقة حول توقيت وأماكن عمل الطائرات الروسية تجنبا لأي صدام محتمل في الجو، لكن، والكلاام للرئيس بوتين، يبدو أن هذا المعلومات استغلتها أنقرة للغدر بتركيا، حيث تبين من معلومات كشفتها مديرة مكتب الميادين في سورية قبل يومين، أن الطائرات التركية ومن ورائها الأمريكية كانوا يتربصون بالسوخوي 24 في كمين محكم..
كلام بوتين، يفضح كذب أردوغان “كلب أمريكا المسعور”، والذي حاول المراوغة من خلال القول في حديث لقناة “السي إن إن” أمس، أن تركيا لو كانت تعلم أن الطائرة روسية لتصرفت بخلاف ما حدث، لكنه رفض الإعتذار، ورفض دفع الأضرار، ورفض معاقبة من ارتكبوا الجريمة في حق الطائرة الروسية بمخالفتهم لبروتوكول التنسيق الجوي القائم بين روسيا وتحالف واشنطن الذي تعتبر تركيا عضوا فيه، وتنطلق الطائرات الأمريكية من قواعدها العسكرية، هذا علما أن الطيار الروسي الناجي أكد أن طائرته لم تتلقى أية إشارة ضوئية أو تحذير من طائرات (إف 16) التركية، وأن الإستهداف كان مباغثا.
لكن ما لم تكن تتوقعه أمريكا وكلبها المسعور أردوغان، هو أن النتائج جاءت عكس كل التوقعات، حيث خلق الرئيس بوتين مفاجأة من العيار الثقيل على المستوى السياسي باتهامه علنا لتركيا بأنها دولة داعمة للإرهاب، وعلى المستوى العسكري من خلال قرار التصعيد على مختلف الجبهات السورية المفتوحة وبكثافة نيران غير مسبوقة، وبشكل خاص في الجبهة الشمالية، وتحديدا في ريف اللاذقية الشمالي و وفي مراكز المعابر بين تركيا وسورية..
سحقت الطائرات الروسية مجاميع التركمان الإرهابية في منطقة سقوط الطائرة، وقتلت الأتراك الذي أطلقوا النار على الطيار الروسي أثناء هبوطه بالمظلة، وتساءل الرئيس الروسي: «ماذا كان يفعل الأتراك هناك؟»، ليتبين وفق خبير عسكري روسي، أن لتركيا مجموعات عسكرية منظمة تسمى “الذئاب الرمادية”، تعمل في منطقة التركمان وفي الشمال السوري، وهي من تنسق مع المجاميع الإرهابية داخل الأراضي السورية..
وقد كان لافتا اليوم استهداف الطائرات الروسية لقوافل شاحنات دخلت سورية من معبر باب الهوى وباب السلامة وبها شحنات سلاح موجهة لـ”جبهة النصرة” و “أحرار الشام” الإرهابية، الأمر الذي أثار غضب أردوغان، فاتهم روسيا بقصف المساعدات الإنسانية، ولو صح هذا الأمر كما قال بوتين، فالمفروض أن المساعدات الإنسانية تدخل بالتنسيق مع الأمم المتحدة، الأمر الذي لم يتم بالمطلق، متهما تركيا بدعم الإرهاب لا بمحاربته.
لكن حقيقة الأمر تتجاوز مسألة التركمان الذين يتباكا على مصيرهم أردوغان زورا وبهتانا، لأن الرئيس بوتين اكتشف أن الخطورة على أمن بلاده القومي ستأتي مستقبلا من هذه المنطقة التي حولتها أمريكا وتركيا والحلف الأطلسي إلى معسكرات متقدمة لتدريب الشيشانيين والقوقازيين والإرهابيين المستقطبين من وسط آسيا وإقليم الإريغور الصيني، الأمر الذي دفع بالرئيس بوتين لاتخاذ قرار حاسم بسحق المجاميع الإرهابية في هذه المنطقة وعلى طول الحدود السورية التركية، حيث تعمل الطائرات الروسية المدعومة بالدفاعات الجوية والأرضية على بعد كيلوميتر واحد فقط من الحدود التركية..
وبالتالي، فقرار إسقاط الطائرة الروسية له علاقة وطيدة بهذه القضية تحديدا، وهو ما فهمه الرئيس بوتين بوضوح، فرد عليه بتكثيف الطلعات الجوية بأسراب مضاعفة من الطائرات الحربية مدعومة برا بهجمات منظمة من قبل الجيش العربي السوري وحلفائه، كما أنه (أي الرئيس بوتين)، قرر دعم أسطول الطائرات العاملة في سورية بسرب جديد من 12 طائرة كدفعة أولى مشكلة من (سو 27) و (سو 30 )، على أن يصل العدد الإجمالي في الأيام القليلة القادمة إلى 70 طائرة من مختلف الأنواع، تضاف إلى 67 العاملة حاليا في سورية، هذا بالإضافة لزيادة نشاط القادفات الإستراتيجية فوق سورية، وهي طائرات مدمرة لا تستعمل إلا في الحروب الكبرى ضد الأهداف الإستراتيجية لا المجاميع الإرهابية.
وبموازاة ذلك، وضع الطراد الروسي المعروف باسم “قاتل حاملات الطائرات” بالقرب من المنطقة قبالة شاطئ اللاذقية، فأقفل بذلك السماء السورية من العربدة التركية وغيرها، حيث أعطت القيادة العسكرية الروسية الأمر بتفعيل منظومة صواريخ (إس 300) بنسختها البحرية ضد أي هدف غير مرخص له بالتحليق يظهر في فضاء المنطقة، مع الإشارة إلى أن روسيا أنهت التعاون العسكري مع حلف داعمي الإرهاب بعد أن استغلت أمريكا المعلومات الروسية لإسقاط طائرتها، وأصبح العمل في الفضاء السوري من دون خطوط حمر، وأي خطأ من جانب المتآمرين قد يكلفهم غاليا هذه المرة..
وإذا كانت منظومة صواريخ (إس 300) منظومة دفاعية وفق التصنيف العسكري الروسي، فإن قرار بوتين بنقل منظومة (إس 400) الدفاعية – الهجومية إلى قاعدة حميميم العسكرية حيث وصلت مساء اليوم بطائرات نقل عملاقة، فقد فهمها الرئيس أوباما كرسالة تصعيدية مقلقة وغير مسبوقة، مفادها، أننا لن نكتفي بالدفاع فقط، بل ومستعدون للهجوم في حال ارتكاب أية حماقة جديدة ضد القوات الروسية في سورية ومن أية جهة كانت، وهو ما علق عليه مسؤول أمريكي كبير لوكالة “سبوتنيك” الروسية، والذي فضل عدم الكشف عن هويته، إن “الأمر يتعلق بنظام سلاح حديث يمثل تهديداً حتميا كبيراً على الجميع، بما في ذلك طائرات التحالف بقيادة الولايات المتحدة”..
ولمزيد من التوضيح أمر الرئيس بوتين بتكليف البوارج الحربية في بحر قزوين بمهمة جديدة تتعلق بالإستعداد لاطلاق صواريخ “كاليبر” عند الضرورة، وهو ما فهم على مستوى الحلف الأطلسي بأن بوتين غاضب جدا، ومستعد للمواجهة..
الرسائل العسكرية الروسية الموجهة لأمريكا وحلفها الأطلسي وفق التفسير الإستراتيجي، تعني، أن بوتين قرر هذه المرة الجمع بين العامل الدفاعي والعامل الهجومي في نفس الوقت، وأن روسيا بإشهارها لهذا السلاح النوعي الخطير لا تسعى للتصعيد مع أية جهة كانت، لأن ما يهمها هو سحق الإرهاب دفاعا عن أمنها القومي وأمن حلفائها والسلم العالمي، وأن زمن التفرد بمصير الدول والهيمنة على قرار الشعوب السيادي قد ولى إلى غير رجعة، لكن روسيا مستعدة عند الضرورة لتحويل الردع إلى قوة فاعلة ضد كل من يخطئ الحساب، ولن تقبل بعد اليوم أن تخدش كرامتها..
لا نعلم ما الذي يخطط له الرئيس أوباما بالنسبة للقادم من الأيام، لكن اللافت، أن قوات أمريكية دخلت اليوم الأراضي السورية، هذا في الوقت الذي نشرت تركيا دباباتها على الحدود مع سورية، وهناك حديث متزايد عن معارك برية حاسمة، يبدو أنها ستقاد من قبل فرق كومندوس روسية وصلت إلى سورية، بالإضافة إلى لواء من الجيش الروسي مزود بالمعدات الثقيلة من دبابات وأسلحة نوعية انتشر في وسط سورية بين دمشق وحلب..
والديث يدور في الكواليس عن قرب انطلاق معركة حلب الكبرى التي ستحسم الحرب مع الإرهابيين وداعميهم في الميدان، الأمر الذي يجعل من مؤتمر فيينا والحديث عن التسوية السياسية في سورية حديثا بلا معنى، فالجميع يراهن اليوم على الحسم في الميدان..
حتى المراهق السياسي وزير خارجية ‘آل سعود’ كرر معزوفته المشروخة اليوم بقوله، إن الخيار العسكري لا يزال قائما في سورية، وهذا مؤشر على أن الأمريكي ليس مستعدا بعد للإعتراف بالأمر الواقع والتسليم لروسيا بالتفوق العسكري في سورية وحقها في الدفاع عن مصالحها المشروعة..
لذلك، قد يكون القول بأن الحرب بدأت الآن صحيحا، وبالتالي فالحرب بالوكالة مرشحة لتتوسع إلى أكثر من ساحة في المنطقة، من سورية إلى العراق فاليمن وسيناء وليبيا، بعد أن ظهرت مؤشرات بقرب انضمام مصر لحلف روسيا..
بانوراما الشرق الاوسط