الثلاثاء 01 . 12 . 2015
هشام نفاع / فلسطين
من لا تهمّه تدمر سيخسر في لندن. من يحتقر الدم الشرقي الأسمر والأسود إنما يستقدم القتل الى الدم الغربي الأبيض. هذا هو درس سوريا والعراق وليبيا. هذا درس مطلع القرن الحادي والعشرين. هذا هو نتاج وتاج السياسات الامبريالية: تضخّم الرأسمالية من حدودها القومية واقتحامها لكل الحدود ومراكمة المزيد والمزيد من الأرباح، الجرائم والأحقاد. أردتموها قرية صغيرة؟ إذاً انسوا الحدود القديمة
سيقول شخص ما هنا أو وهناك لنفسه التالي:
كيف ظننتَ يا ساذج أن الأمر بعيدٌ عنك؟
لماذا؟
أصلاً كيف لا يفكر الناس أن ما يحدث هناك هو جوهرياً، وبعد فترة عملياً، هنا؟
فهنا وهناك هما كل مكان محتمل، ويغطيان كل المواقع المأهولة على هذا الكوكب.
لأن حدود الفصل الجغرافي بين هناك وهنا وهميّة، سيّالة بل مائعة من الأساس، فكم بالحريّ اليوم في «القرية الصغيرة»، في كوكبنا المريض الذي لملمته شركات وسلطات العولمة الرأسمالية، خنقته، كبّلته ثم حشرته في بقعة مادية وذهنية مقفلة.
أليس ساذجاً التفكير بأن ما يحدث في شمال الشام مثلاً ليس محتملاً جداً أن يصل جنوبها (هذه ملاحظة لبنيامين نتنياهو المغرور)؟ أو غربها – بل غربها البعيد – حتى باريس؟
فلاش باك: قبل سنة ونيّف كانت آلة الحرب الاسرائيلية المتوحشة تسحق قطاع غزة وأهله.
يومذاك اتصلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل برئيس حكومة اليمين بنيامين نتنياهو ودانت «بشدة الهجمات الصاروخية التي تنطلق من قطاع غزة على إسرائيل».
لم تقل شيئاً عن قتل اسرائيل الجماعي للفلسطينيين. لم تجد أية حاجة في اطلاق تصريح يليق بقتل عائلات بكاملها مثل عائلة كوارع وعائلة حمد، ولا قتل أطفال اعمارهم 5 سنوات و4 سنوات وسنة واحدة مثل الطفلة الرضيعة رنين جودت عبد الغفور.
صديقة السيدة المستشارة، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، أعلنت حينذاك أيضاً في بيان أن «الاتحاد الأوروبي يدين بشدة إطلاق النار العشوائي على إسرائيل من قبل جماعات مسلحة في قطاع غزة» وبعد هذه «الادانة بشدّة»، تابعت: «نستنكر سقوط عدد متزايد من الضحايا المدنيين خاصة من الأطفال، الذي تسببت به نيران الرد الإسرائيلية».
الصواريخ اليدوية الصنع بمعظمها على اسرائيل استحقّت «إدانة بشدة»، أما تدمير البيوت على اهلها الفلسطينيين بأحدث الوسائل والتكنولوجيات من الطائرات الحربية الأميركية فليس سوى «نيران ردّ اسرائيلية». هذا هو النفاق الأوروبي الرسمي باقتضاب كثيف.
كتبتُ في حينه الكلام الغاضب التالي:
«سادة وسيدات حكومات الاتحاد الاوروبي، لديّ رسالة لكم ممّن تعتصر قلوبهم على الجرائم التي تقترفها اسرائيل بغطاء صمتكم ضد أهلهم: حين يعود مرتزقة الحرب الذين سكتّم عليهم وربما دعمَهم بعضكم، من سوريا والعراق وليبيا الى قارّتكم المبجّلة، لا تلوموا أيّ شخص لن يستنكر الجرائم والفظائع التي سوف يرتكبها مرتزقة الحرب من حمَلة مواطنتكم في عواصمكم. لا تطالبوا أحداً بالاستنكار ولا بالتعاطف. دماء الفلسطينيين، والعرب عموماً لا تساوي الكثير بنظركم. وهذا جميلٌ لن ينساه لكم كثيرون هنا في منطقتنا.
صدّقوني، كثيرون يتمنون عودة التكفيريين والداعشيين وسائر المرتزقة بالخير والسلامة الى أوروبا كي يتحقق ولو شيء من العدالة الشاعرية».
اليوم بعد سنة وأشهر أشعر أني توقعتُ (كغيري) شيئاً اتضّحت صحته! لكني أشعر بشيء يثقل الصدر لأنه تحقّق. وبالاحترام للضحايا الفرنسيين. والتعاطف مع أحبابهم. وبالاستنكار والاشمئزاز من نفاق حكومتهم وسائر حكومات الاتحاد الأوروبي.
لقد قتل زعماء الاتحاد الأوروبي مواطنيهم بسبب احتقارهم لدماء العرب التي سفكتها ميليشيات التكفير والإرهاب التي خرجت من عباءة السياسات الغربية، والأميركية خصوصاً، ضد أهل «المشرق والجنوب».
نحن لدينا في المشرق والجنوب طبقات سميكة من المحافظة والتزمّت والرجعية وكلّ ما شئتم. هذا صحيح. وهي موجودة بالمناسبة لدى كل شعوب العالم بتفاوتات تحكمها ظروف التاريخ والاقتصاد والسياسة. ولكن تحويل تلك الطبقات السميكة الى وحوش مسلّحة ليس مسألة حتميّة، ليس تطوراً أوتوماتيكياً ولا منطقياً ضرورياً.
مجرد زعم هذا سيكون سخافة. وفي حالات معيّنة، حقارة. لأنه يبغي تنظيف ساحة قوى الاستعمار (نعم، الاستعمار!) من جرائمها الوحشية التي قوّضت ركائز وبنى حياة شعوب ومجتمعات ودول. نحن علينا محاسبة انفسنا واصلاح أمرنا، نعم. ولكن من يُعفي قوى الاستعمار تلك من مسؤوليتها الهائلة وجشعها وتوحّشها فهو منافق أو منتفع أو، في أفضل الأحوال، جاهل.
لذلك، من اجل سلامة مَن هنا ومَن هناك، يجب قلب الأسطوانة.
إنّ «داعش» في تدمُر ليست بعيدة عن احد. إنها هناك، قريبة، وكثيراً، من هنا.
وكل هنا هو كل مكان محتمل. بيروت، باريس، سيناء، بروكسيل وقريباً ربما نيويورك.
من لا تهمّه تدمر سيخسر في لندن.
من لا تعنيه حياة أهل الموصل سيأسف على أعزاء له في بوسطن أو سيدني.
من يحتقر الدم الشرقي الأسمر والأسود إنما يستقدم القتل الى الدم الغربي الأبيض. هذا هو درس سوريا والعراق وليبيا. هذا درس مطلع القرن الحادي والعشرين.
هذا هو نتاج وتاج السياسات الامبريالية: تضخّم الرأسمالية من حدودها القومية والاقليمية واقتحامها كلّ الحدود ومراكمة المزيد والمزيد من الأرباح، الجرائم والأحقاد. هذا هو الأساس وهنا لبّ المشكلة.
أردتموها قرية صغيرة؟ إذا انسوا الحدود القديمة.
الأسواق المفتوحة التي وسعتموها للبيع والاستهلاك، هي نفسها طرق التسلّل بالاتجاه المعاكس… نحوكم.
قد يقطعها لاجئون محرومون ومذعورون. قد يقطعها يائسون مجهّلون مُفقَرون يسهل استغلالهم. وقد يقطعها أيضاً مجرمون مرتزقة تربوا في كنف زعماء الحروب بالوكالة.
كما سبق أن كُتب هنا: يكفي أن يضرب اليأس أو التجهيل أو النقمة أو الإغراء نسبة نصف في الألف من ضحايا «السوق»، حتى يزدهر «داعش» وأشباهه.
هؤلاء الشباب المحرومون من فرصة العمل الكريم ليسوا منظّري تكفير ولا وهابية ولا «إخوان». أخوتنا هؤلاء هم «وقود للحرب». ضحايا يحرقهم «قوّادو الحرب». الكبار منهم والأدوات. مشعلو الحروب ومنتفعوها وتجّارها والوكلاء. يبدو أنه حتى الملك الأردني عبد الله توصّل الى ما يقترب من هذا الاستنتاج. وقد قال في قمة عقدت بالعاصمة السعودية الرياض (10 تشرين الثاني) إنه «من الضروري العمل على إيجاد وظائف جديدة تلبي طموحات الشباب لتحصين الأبناء وحمايتهم من سموم الإرهاب والفكر المتطرف».
جميل الاعتراف بالبُعد الطبقي حين يأتي من ملك، ويدلي به في الرياض بالذات.
على أمل أن يكون آل سعود فهموا هذا القول، أو سمعوه على الأقل.
لكن هناك أمل: ها هو التحليل المادي يفرض نفسه كخيط رفيع من نور (ونار) على الصورة القاتمة حالكة العتمة.
بالمناسبة: كارل ماركس لا يتململ فرحاً في قبره طبعاً. لأن هذه الأمثال متروكة للمؤمنين بالغيبيّات؛ نفسها التي غيّبت العقول لتشكيل واحد من مداميك إنشاء مرتزقة/ ضحايا «داعش»، وقبله «القاعدة».
* كاتب فلسطيني