السيمر / الأربعاء 09 . 12 . 2015
جورج عيسى / سوريا
حين كتب الشاعر #نزار_قبّاني قصيدته “رسالة من تحت الماء”، نفخ عاطفته في جزء من أبياتها فتجلّت كلماتٍ وصوراً معبّرة: “لو أنّي أعرف أنّ الحبّ خطير جدّاً ما أحببْت، لو أنّي أعرف أنّ البحر عميق جدّاً ما أبحرْت”. بالنسبة الى الكلام المتعلّق بالحبّ، يستحسن تركه للشعراء والأدباء. أمّا في المسائل المتعلّقة بالغوص في البحار وتوجيه الرسائل من على أسطحها أو من تحت مياهها، فيستحسن تركها لشخص واحد: فلاديمير بوتين.
بطبيعة الحال، لا يترك الرئيس الروسي #فلاديمير_بوتين مناسبة فيها مغامرة أو تحدّ، إلّا ويكون أوّل خائضيها. وكذلك الأمر حين يتعلّق بإرسال الرسائل “المفخّخة والصاروخيّة”. فالرجل كان أوّل من وجّه رسالة من هذا النوع، تحديداً من بحر قزوين، عبر إطلاق صواريخ كروز من الاسطول الروسي هناك، باتّجاه مراكز لتنظيم “داعش” في سوريا. كان ذلك في أوائل تشرين الاوّل الماضي.
أمّا بالنسبة الى “رسالة من تحت الماء” فأبى بوتين إلّا أن يرسلها من تحت مياه #البحر_الأبيض_المتوسّط عبر غوّاصة حربيّة، باتّجاه مقرّين تابعين لداعش في محافظة الرقّة. ساعده في هذا الأمر هوايته في الغوص الى اعماق البحار كما فعل في شهر تمّوز من العام 2013، حين نزلت به غوّاصة الى أعماق مياه بحر البلطيق لتفقّد حطام سفينة غرقت سنة 1869. وكانت تلك السفينة تقبع على عمق يناهز ستّين متراً تحت سطح المياه.
وبالعودة الى قصف مقرّات “داعش”، فقد أطلقت غوّاصة “روستوف أون دون” في البحر الأبيض المتوسّط صواريخ كروز بحسب ما أعلنه وزير الدفاع الروسي #سيرغي_شويغو. وجاء تصريح هذا الاخير واضحاً حين أكّد على “الثقة المطلقة بأنّ أضراراً كبيرة لحقت بمستودعات للذخيرة ومصنع لإنتاج الألغام فضلاً عن بنًى تحتيّة نفطيّة”. وأشار الى أنّ الغوّاصة كانت مغمورة بالمياه عند إطلاقها الصواريخ.
نبذة عن الغوّاصة
موقع “ناشونال إنترست” قال إنّ الغوّاصات الروسيّة النوويّة بشكل عام، مشهورة بقدرتها على حمل ترسانة من الصواريخ المضادّة للسفن وتلك المخصّصة للهجوم على أهداف برّيّة. لكنّ صواريخ أمس الثلاثاء أطلقت من مشروع “كيلو كلاس المطوّر” الذي يضمّ غوّاصة “روستوف أون دون”.
و”كيلو كلاس” هي التسمية التي أطلقها حلف شمال الاطلسي على الغوّاصات التي تعمل على الوقود والطاقة الكهربائيّة معاً. أمّا الروس فقد أطلقوا على هذا المشروع اسم “مشروع 636 فارشافيانكا”. وينقل الموقع نفسه عن تلك الغوّاصة قدرتها على البقاء تحت سطح المياه لفترة طويلة، وتميّزها بانخفاض الضوضاء الصادرة عنها. فهي من ضمن الغوّاصات “الأقلّ ضجيجاً حول العالم”. وتتمتّع تلك الغوّاصة بقدرة إطلاق صواريخ من طراز “نوفايتور-3 أم – 54 إي1 ” وهي مضادّة للسفن، وتنتمي الى نفس عائلة “كاليبر”.
يشير موقع “ديفنس نيوز” الى أنّ هذه الصواريخ يمكن لها أن تصل الى ما يقارب مسافة ألفي كيلومتر. ويسمح صغر حجمها من جهة أخرى، بأن تحملها غوّاصات أو حتى سفن حربيّة صغيرة ما يجعلها “تغيّر في حسابات المدى والفاعليّة بالنسبة للمقاتلات البحريّة الصغيرة”. وأشار الموقع أيضاً إلى أنّ الصواريخ هذه كانت مشابهة لتلك التي استخدمها الاسطول الروسي في السابع من تشرين الأوّل الماضي. أمّا الغوّاصة، فتمّ بناؤها في مدينة سانت بطرسبورغ وهي واحدة من ستّ غوّاصات تابعة لمشروع 636 صُنعت أو هي قيد التصنيع، لتلتحق بالأسطول الروسي في البحر الأسود. وذكر الموقع أيضاً أنّ “روستوف أون دون” وضعت حديثاً في الخدمة.
إبلاغ من يعنيهم الأمر
بوتين كان قد أشار الى أنّ صواريخ “كروز” الجديدة يمكن أن تحمل رؤوساً حربيّة تقليديّة ونوويّة آملاً ألّا يتمّ الوصول الى مرحلة تستخدم فيها الرؤوس النوويّة. موقع “ميليتاري” الالكتروني ذكر أنّ شويغو أعلن أنّه تمّ إبلاغ الإسرائيليّين والأميركيّين بالضربات قبل شنّها. ونقل عن أحد المسؤولين الأميركيّين في وزارة الدفاع تأكيده أنّ #واشنطن تبلّغت من #موسكو خبر إطلاق الصواريخ قبل حصوله. وأضاف المسؤول أنّ “10 صواريخ على الأقل تمّ إطلاقها من سفن في #بحر_قزوين وصاروخ واحد على الأقل أطلق من غوّاصة روسيّة موجودة في شرق المتوسّط”.
من الواضح أنّ التنويع الكبير الذي يقوم به الجيش الروسي في إطلاق الهجمات ما هو إلّا دليل على إعادة تأكيد موسكو إبلاغ جميع الأطراف بأنّ الساحة السوريّة جزء من النفوذ الروسي في المنطقة. فتنويع الهجمات الصاروخيّة يفيد تنويعاً في مستويات بسط الروس لنفوذهم في شرق المتوسّط وتوسيعاً للمدى الذي يشمله. فبعد السماء والبرّ والبحر، ها هو الكرملين يبعث برسائله من تحت مياه البحار.
ولا شكّ في تحوّل البحر المتوسّط شيئاً فشيئاً الى دائرة من دوائر التأثير الروسي على مجريات الأحداث في الشرق الأوسط. فحتى لو صحّ الحديث عن إبلاغ الروس الأميركيّين نيّتهم قصف الرقّة من غوّاصتهم، يبقى توسّع الروس في المتوسّط واضحاً للعيان. يأتي ذلك بعد مناورات بحريّة، فرديّة ومشتركة، أجروها هذه السنة في شرق حوضه، كانت آخرها المناورة التي جرت في العشرين من تشرين الثاني الماضي.
في تذكّر المأساة
وبالحديث عن الغوّاصات، تصادف السنة الحاليّة الذكرى الخامسة عشرة على غرق الغوّاصة النوويّة الروسيّة “كورسك-141” المعروفة أيضاً باسم “أوسكار2” في آب من العام 2000. الغوّاصة التي غرقت بفعل عطل تقني ناجم عن انفجار صاروخ “طوربيدو” من عيار 650 ميلليمتر ناجم عن تسرّب مواد كيميائيّة، أدّى الى انفجار آخر في حجرة الأسلحة عادل 6 أطنان من مادّة “تي أن تي”.
وقالت “روسيا اليوم” إنّ قوّة الانفجار كانت كبيرة لدرجة استطاعة أجهزة قياس الهزّات الأرضيّة تسجيلها في شمال أوروبّا. وتسبّب غرق الغوّاصة بهلاك طاقمها المؤلّف من 118 فرداً حيث تمّ انتشال 115 جثّة فيما بقيت ثلاث أخر مفقودة. ولم يتمّ انتشال الغوّاصة من قاع البحر إلّا في تشرين الأوّل سنة 2001. أمّا حجرة الأسلحة فرُفع حطامها في أيّار من العام 2002. وفيما أعيد تدوير بقاياه، تمّ الاحتفاظ بسطح مقصورة القيادة كنصب تذكاري في شمال البلاد.
وعلى رغم تلك الحادثة الأليمة التي طبعت إحدى مراحل البلاد بالأسى، تستمرّ البحريّة الروسيّة في صناعة الغوّاصات ويستمرّ بوتين في إرسال رسائله السياسيّة من تحت الماء والسماء، حتّى لو قدّر له مشاركة نزار قبّاني في قصيدته لكتب معدّلاً فيها ربّما: “لو أنّي أعرف أنّ البحر عميق جدّاً … لأبحرت أمْساً”.
النهار اللبنانية