المركز الخبري لجريدة السيمر الإخبارية / الخميس 04 . 02 . 2016 — تتزايد الدعوات هذه الايام، من جانب بعض المستشارين وكبار المسؤولين الحكوميين، الى بيع ممتلكات الدولة واراضيها الزراعية الى الاشخاص والجهات القادرة على شرائها، بغية توفير ايرادات مالية لخزينة الدولة والتخفيف من أزمتها المالية الخانقة الناجمة عن الهبوط الشديد في اسعار النفط العالمية.
وتطرح هذه الدعوة في الغالب كبديل عن اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والداخلي لتمويل عجز الموازنة العامة، وهي تدعم نظريا بالقول ان الاراضي والعقارات العائدة للدولة (لوزارة المالية والوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى) والتي تزيد نسبتها على سبعين بالمائة من اجمالي اراضي العراق وحوالي اربعة اخماس الاراضي الصالحة للزراعة، غير مستغلة عموما بشكل كفوء وناجع، وانها مهملة ولا تدر للدولة موردا ذا شأن، واكثر من هذا يجري التصرف بها لغرض منح امتيازات لكبار المسؤولين في الدولة وللمحسوبين عليهم، مقابل اثمان رمزية بخسة.
لذا فان خصخصة هذه الممتلكات (وذلك هو المقصود ببيعها) ستحقق حسب المنطق الليبرالي للمروجين لها، ايرادات كبيرة للدولة، سواء من حصيلة بيعها او من الوارد الضريبي الناتج عن تأهيلها وتطويرها والاستخدام الكفوء لها من قبل المستثمر الخاص المفترض، الأكثر قدرة على الادارة الناجحة، وان هذا بدوره سيقلل من حاجة الدولة إلى الاستدانة، كما ان الاستثمار الكفوء للممتلكات والعقارات سيسهم في رفد النمو الاقتصادي، وتكوين فرص عمل أكبر.
انه سيناريو جذاب حقا، يقدم صورة زاهية للخير الوفير الذي ستجلبه هذه السياسة ازاء الممتلكات العامة !
ولكن لنتفحص بشيء من الدقة ابعاد بيع اراضي وعقارات الدولة وآثاره في ظل الواقع السياسي والاقتصادي والمؤسسي الملموس في بلادنا اليوم، وانعكاس ذلك في البناء المشوه والمتشظي للدولة العراقية واجهزتها واداراتها وانظمتها وآليات عملها، التي تتسم بالبيروقراطية المفرطة وضعف الكفاءة واستشراء الفساد في اوصالها.
ان هناك اجماعا في تشخيص حقيقة ان مشاكل العراق الاقتصادية لا تكمن في ضآلة المال والثروة، بل في سوء الادارة، وضعف الاجهزة التنفيذية والرقابية واختلالها وتوزع ولاءاتها على حساب المصلحة العامة، وتغلغل منظومات الفساد في مختلف مفاصلها، لا سيما تلك المسؤولة عن جباية الأموال واستحصالها.
لذا فان من الوهم الحديث عن امكانية بيع اراض وعقارات باسعار تعكس قيمتها الحقيقية، ووفق آليات وطرق شفافة وكفوءة، وعلى ايدي عناصر ولجان ذات مهنية عالية ونزاهة موثوقة، وفي آماد زمنية قصيرة .. في ظل الأوضاع الراهنة غير الطبيعية التي تعيشها البلاد، والظروف الضاغطة للازمة المالية الحادة، وحيث الادارات تخضع لنفوذ وسيطرة الكتل السياسية المتنفذة، المتنافسة والمتصارعة على تقاسم المغانم والاستحواذ على اكبر الحصص من المال العام – مثلما كشفت واثبتت تجربة السنوات الماضية.
وليس من دون مفارقة ان المتحمسين لهذه الخصخصة يقرّون بأن عمليات التصرف بعقارات الدولة وبيعها على مدى السنوات الماضية سادها الفساد، حتى انه اعلن عن تشكيل لجان للتحقيق في ذلك، فمن اين لهم ياترى هذه الثقة من ان عمليات البيع التي يدعون لها اليوم، ستتم بنزاهة ومهنية وشفافية تضمن الحصول على افضل الشروط والعوائد ؟
ومما لا يرد ذكره في احاديث وطروحات دعاة بيع الاصول العقارية للدولة، أن من يمتلك الامكانات المالية الضخمة القادرة على شراء الأرقى موقعا والأحسن عمرانا والأغلى ثمنا من العقارات والاراضي المفترض عرضها للبيع، هم الحلقة الضيقة من كبار النافذين في الدولة، المتشاركين مع حفنة من اصحاب الثروات الطائلة “حديثي النعمة” القابضين على معظم مراكز المال والصيرفة والتجارة والاعلام، وبضمنهم كثيرون ممن يشغلون حاليا القصور والبيوت الفارهة العائدة لعقارات الدولة، ويتلهفون الى فرصة لشرائها باسعار بخسة.
ان بيع الاراضي والعقارات في ظل هذه الظروف، سيعني بالضرورة انتقال جزء كبير من أثمن الممتلكات العامة إلى هذه الشريحة الضيقة من اصحاب الثروة والسلطة، ما يؤدي – في الوقت ذاته – الى تعاظم سطوتها ونفوذها ومكانتها الاحتكارية في الاقتصاد العراقي، وتحكمها في مساراته، كما يعني تعمق التفاوت في الدخل والثروة في المجتمع، وستكون لذلك كله آثاره وتداعياته على الواقع السياسي والاجتماعي وعلى البناء الديمقراطي للدولة.
وردا على ما يقيمه المتحمسون للتعجيل بخصخصة اصول وممتلكات الدولة من ربط بين الملكية والكفاءة، لتبرير محاربتهم للملكية العامة بسبب فشلها في الادارة كما هو الحال في العراق، نشير إلى ما قاله عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل “ستيغلتز”، من أن المبرر النظري للخصخصة هو في احسن الحالات ضعيف، هذا إن كان موجودا، حيث تم نظريا اثبات أن الكفاءة والربحية لا علاقة لهما بالملكية، وإنما تتوقفان على الادارة، فما تعانيه الشركات المملوكة للدولة وسائر الأصول المالية والعقارية الأخرى التي تملكها، هو نتيجة لسوء الادارة، ويمكن معالجته من خلال اصلاح النظم الادارية والمالية التي تعمل بموجبها.
واخيرا فان بيع عقارات الدولة واراضيها ليس، ولا يمكن – في ظروف بلادنا القائمة – ان يكون “الحل السحري” للأزمة المالية المخيمة، وانما يكمن الحل في اعتماد تدابير اخرى، ناجعة حقا، سبق ان طرحناها في اكثر من مناسبة، وستكون لنا عودة قريبة اليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية “طريق الشعب”
الاربعاء 3/ 2/ 2016