السيمر / الاثنين 02 . 05 . 2016
وداد عبد الزهرة فاخر
غياب هيبة الدولة والحاجة لدولة القانون
عندما اقتربت (الدولفين) التي تنهب بنا الأرض من الحدود العراقية في مجمع الوليد الحدودي بعد اجتياز الحدود السورية، علا صوت زوجتي الجالسة في المقعد الخلفي وهي تتلوا الآيات القرآنية والأدعية، بينما كنت أستعد على طريقة المتصوفة لاستقبال أول نسمة هواء تدخل في صدري بعد غياب 27 عاما عن الوطن الذي أحب. وحتى لا يقع القارئ في (حيص بيص) كما يقال فـ(الدولفين) هي ما يطلقه السواق العراقيون على سيارة (الكابريس كلاسك)، ولا ادري تفسير ذلك للآن، بينما فسرت’ كلمة (بهبهان) التي تطلق على (جيمس شفر) لأنها من استيراد التاجر الكويتي (يوسف مراد بهبهاني). ولحظة اجتياز الحدود خامرتني مشاعر عدة، وأنا أتنشق أول نسمة هواء من وطن كان أسيرا لثلاث عقود ونصف بيد عصابة من الغرباء والقتلة والمأجورين، لكن هذا الفرح الغامر ما فتأ أن خبا وأنا أطالع سحنا غريبة لموظفين مادين أيديهم لمن يضع المقسوم لتركوه يدخل بكل حرية الأرض التي نحب دون أية مبالاة بما سيحصل بعدها. ولم يشفع لذلك الموقف اللاوطني وجود دورية تقف وسط الطريق بعد اجتياز الحدود مباشرة فهي لم تفعل سوى أن دققت في جوازاتنا على ضوء فانوس سيارتهم وسط ظلمة مدلهمة ونحن في منتصف الليل وفي صحراء موحشة قاتمة، وتركتنا نمر دون أن تتمعن في السيارة وحمولتها.
ومن تلك النقطة الحدودية تيقنت تماما من غياب لهيبة الدولة والحاجة لأجهزة دقيقة وحساسة لكشف كل شئ وبسرعة لا تسئ للناس ولا تسبب تأخيرا لهم، وتحمي العراق والعراقيين من غدر وحقد الآخرين، بعد أن اختفى وجه الحاسب الآلي، وسجلات الموظفين للداخل والخارج. وبين الطريق الدولي المار بنقاط الخطر في كل من الرمادي والفلوجة، والذي قطعناه دون توقف في الكيلو 160 غير مبالين بالتحذيرات من الآخرين الذين كانوا ينتظرون انبلاج الفجر في الاستراحة حتى البصرة محطتنا النهائية، كانت هناك صور متعددة تحمل دلالات ومعاني لا حصر لها. ناهيك عن الخراب الذي جابهني ونحن ندخل في أول الصبح عروس الدنيا بغداد، وأحس كالمنتشي والسيارة تقطع شوارعها في جولة سريعة تنتابني هواجس غريبة وأنا احتضن جميلة الدنيا، وامسح الغبار والدخان العالق بها من أثر الحروب والخراب والدمار بناظري.
وبين حر البصرة اللآهب التموزي، وحرارة لقاء الأهل والأحبة تتردد أسماء لشخصيات ومجموعات تحمل من الغرابة الكثير لوطن أستبيح من قبل عصابات وقتلة ومجرمين كان للنظام العفلقي المنهار دورا كبيرا في تأهيلهم ونموهم، لأن كل مقومات وجوده كانت تقوم على وجود تلك التناقضات الغريبة التي كانت نتاج وجوده كنظام دكتاتوري فاشي عنصري قائم على الجريمة ونفي الآخر.
فأسماء مثل (الكرامشة) و (بيت رويمي) و (الشغامبة) و (العلاسه) و(الحمادنه)، وهي لمن يسأل أسماء لعشائر من المعدان والرعاع ممن كانوا أيام السلطة الفاشية عونا للنظام، وكل ما يتقنونه من حرفة هي النهب والسلب والتهريب والاختطاف، لذلك فهم يمثلون الجانب الأمني الأكثر خطرا على المجتمع العراقي وتطوره اللاحق. ولا يمثل الخطر الآني الممثل بالصبي المعجزة (مقتدى الصدر) إلا جزءا صغيرا من عدو ظاهر للعيان بعث تصرفه الصبياني الاستياء من جميع المجتمع العراقي السوي، وخاصة أهالي العتبات المقدسة في كل من النجف وكربلاء والكاظمية، وعموم الشيعة في العراق، واستنتاجي هذا نابع من أحاديث متفرقة لشرائح عديدة من المجتمع العراقي ومن مدن مختلفة التقيتهم في داخل العراق، أو في السيدة زينب في دمشق الشام ومنهم شباب معممين من آل الصدر.
وفي خضم تلك الحالة الأمنية المربكة، وما يسببه القتلة والمأجورين من أيتام النظام، المعارضين بقوة وعنف لعملية التغيير الكبيرة بعد 9 نيسان 2004، ومآزريهم من مجرمي القاعدة والتنظيمات الاسلاموية التي دخلت ولا زالت تدخل بكل حرية للعراق، تساهم بعض التنظيمات الدينية الحزبية، بقسط وافر في خلخلة الأمن وارباك السلطة، وتكون أحيانا عاملا مساعدا لتوقف التطور السياسي – الاجتماعي المنشود بسبب من ممارساتها المستوردة نتيجة عوامل التثقيف الخاطئ في الدولة الحاضنة سابقا. كذلك سجلت حالات عديدة لرشاوى من قبل الكثير منهم، منها ما حصل في موسم الحج الماضي من بيع لكوبونات الحج المجانية لآل الشهداء “تم بيع الكوبون ب 300 دولار”، وأخذت الواسطات دورها بحيث حج من عائلة واحدة شخصين وحرم الكثير من آل الشهداء من حجة واحدة. ولدي الكثير مما لم أقله عن تلك التنظيمات التي تحكم العراق حاليا.
لكن يظل الهاجس الأمني هو مطلب الجميع ويفوق في أهميته حتى القطع المبرمج للتيار الكهربائي، فالشكوك تحوم حول الكثير من رجال الشرطة الجدد، الذين لازالت ملفاتهم بدون تفحص دقيق، فقد تغلغل الكثير من القتلة والمجرمين في هذا السلك المهم، واختفائهم من الطرق والشوارع مساء حيث تقضي الحاجة الماسة لوجودهم سبب لا مبرر له. ويقتضي تسيير الدوريات الأمنية ليلا ونهارا. وحثهم على ممارسة دورهم بفعالية، لان الكثير من المواطنين لا يلقي بالا لتحذيرات أو أوامر الشرطة وخاصة شرطة المرور، ولا يجد المواطن الشجاعة الكافية لتقديم الشكاوى ضد اللصوص وقطاع الطرق والمهربين. بينما يلقي مهربي النفط، أو ما يسمى بأصحاب (القفيصات) الدعم الخفي من قبل عناصر موجودة أساسا في رحم السلطة نفسها ممن ركب قطار الوطنية مؤخرا وزايد على الوطنيين الحقيقيين، وراح يسلب وينهب على مرأى ومسمع الجميع، خاصة من ازلام النظام السابق الذين اختلفوا معه أو سجنوا لسرقات الأموال العامة مزاحمين بها رجال السلطة الكبار والتي سببت غضبهم عليهم فكان جزائهم السجن آنذاك.
وتمثل الحالة الأمنية الواهنة للدولة العراقية، وغياب شبه واضح لهيبة الدولة، ما كانت عليه الدولة العراقية الفتية عند تأسيس الحكم الوطني على يد المرحوم الملك فيصل الأول باني الدولة العراقية الحديثة، الذي قال بأن (ما تملكه الدولة 1000 آلاف بندقية، مقابل 100 ألف بندقية بيد العشائر العراقية)، وهو ما يحصل بالفعل حاليا. فالدولة العراقية لا تملك من المعدات العسكرية ما يؤهلها لردع القتلة والمجرمين وقطاع الطرق الذين نهبوا كل مخازن السلاح العسكرية وخزنوها لديهم، إضافة لما يهرب حاليا من قبل دول الجوار من أسلحة ومعدات حربية حديثة لإقلاق الأمن في العراق، وخاصة من قبل النظام الثيوقراطي الإيراني الذي يجد في التحول الديمقراطي المستقبلي للعراق خطرا داهما عليه، يحاول عن طريق المغامرة الحربية بالتدخل الغير مباشر إيقافه مهما تطلب الثمن لأن المطلوب مستقبلا رأس النظام. كذلك ما يفكر به السوريون الذين يتحركون وفق الإمدادات المادية لبقايا البعث الساقط ودعم إيراني شبه معلن. لذا تتصاعد وتيرة عداء الشارع العراقي بصورة ملموسة ضد التصرف الإيراني ويظهر هذا الاستهجان والاستنكار والعداء بوضوح في المدن الشيعية المقدسة التي توقفت الحياة بها تماما بسبب انقطاع زوار العتبات المقدسة نتيجة الوضع الأمني الخطر، وهو ما يسبب انهيارا لاقتصاد تلك المدن التي تعتمد على جموع الزوار وعمليات دفن الموتى بالنسبة لمدينة النجف الأشرف.
مضافا لكل ذلك ما يقوم به بعض رجال النظام البعثي المنهار ممن عاد للسلطة ثانية بعد الإلغاء المتعمد من قبل الحاكم المدني الأمريكي السابق (بول بريمر) لقرار (اجتثاث البعث) الذي كان بدفع من قبل رئيس الوزراء أياد علاوي كما يشاع، والذي فتح الباب واسعا لعودة رجالات البعث ممن يضمر الحقد والكراهية للعراق والعراقيين، وتقف كل عقليته المحجمة عند التعليمات والقرارات الإدارية الجامدة لإيقاف عجلة إعادة تعمير العراق، والاستمرار في عمليات النهب والسلب بصور عدة.
لكن ما يثير التساؤل هو السكوت المطبق للحكومة العراقية المؤقتة، وعدم مبادرتها لمداهمة أوكار ومقرات وبيوت يعرفها حتى المواطن العادي لقتلة ومأجورين ولصوص وقطاع طرق، لأن غالبيتهم سلبوا بنايات عدة ووضعوها مقرات لحركاتهم (الوليدة) وبأسماء دينية مختلفة عدد الحصى والرمال.
لذا يقف المواطن العادي بغرابة أمام أسماء وشخصيات تعبث بالأمن والأمان، وتتصرف لوحدها كحكومة دون خوف أو وجل من احد، وينصاع المواطن البسيط لابتزازهم وهمجيتهم، فهم من يملكون السلطة دون السلطة الحقيقية نفسها، فأين الخطأ في كل ذلك ؟!
ايلاف
الخميس 26 أغسطس / 2004