الرئيسية / ثقافة وادب / الجواهري وأحمد شوقي / * مقارنات ومقاربات: حسان الحديثي
الصورة للاستاذ الحديثي عند زيارته لمركز "الجواهري" في براغ عام 2014

الجواهري وأحمد شوقي / * مقارنات ومقاربات: حسان الحديثي

السيمر / الاحد 11 . 09 . 2016

* قراءة وعرض: د.عدنان الأعسم / براغ

تحت عنوان “جيّدُهُ خيرٌ من جيّدي ، ورديئي خيرٌ من رديئِه” … وهي العبارة البليغة التي أجاب فيها البحتري في مفاضلته مع أبي تمام… كتب الاستاذ حسّان الحديثي مقالة جديدة، عن بعض مقاربات ومقارنات موجزة، ولكن معبرة، بين الجواهري وأحمد شوقي، وعنهما… وأردف الحديثي متابعاً عبارة البحتري اعلاه، فكتب:
“هذا هو كلام الكبار للكبار…لعله لم يدرِ أنه بقولته هذه اطلقَ قاعدةً نقديةً فذةً لم تزلْ ميزاناً يحوّل الفكرةَ المطلقةَ التي لا تستوعبها أو تحويها سوى فضاءات العقول، يحولها إلى وحدة قياسٍ عجيبة؛ جوهرُها أنني إن لم أبلغْ جيّدَك فلن أنحطَّ إلى دون رديئك !..
من قال إن الفخر في العلوِّ فقط؟ أليس هناك فخرٌ بعدم السقوط في الهاوية؟…
من قال إن الجمال في الحسن وحسب؟ أليس هناك جمالٌ بالترفع عن القبح؟..
من قال إن جمال القول في البلاغة فقط، أليس هناك جودة في الحفاظ على عدم الإنزلاق في الرديء؟..
هذه القاعدة الهائلة الجمال، العظيمة القيمة، البعيدة الإدراك تعلمنا أن المقارنة لا تعتمد على الجيد فقط بل الجمال قائم في عدم النزول تحت الحد الأدنى للجمال ولم ينحط إلى هاوية الرداءة “.
* وأضاف الحديثي في مقالته منوهاً، بأنه على الرغم من كَم التساؤلات اعلاه :
” يكتب أحدهم مقالاً مثيرا للشفقة في مناظرة بائسة بين شوقي والجواهري، وقد وضع اعتباراً واحدا للتقييم لا غير، وهو العاطفة في تمييز الشعر والشاعر فجاء حكمه هزيلاً بائساً، إذ لم يُجهد نفسَه في الحديث عنهما كقيمةٍ فنيةٍ وهذا من الظلم بمكان…فلم يصل في جيدِه جيدَهما، ولم يحفظْ رديئَه من أن يسقط تحت رديئهما، فكان كتلك التي أهرقت ماءَها لتطهر، فلا ماءهَا أبقتْ ولا درنَها أنقتْ…فحاولتُ هنا أن أعدّل ما اعوجّ من الفكرة واصحّح خطّ المقارنة بين شاعرين فحلين من شعراء العربية الحديثة، أغنيا مكتبتها الفكرية أولاً ثم العقل والذوق العربي بكل جميل، بين أمير الشعراء وشاعر العرب الأكبر”.
* ووفق الكاتب الحديثي أيضاً، فأن تلك كانت المقدمة، أما المتن فجاء فيه:
” لقد اختلف كثير من عشاق الادب والشعر بين شاعرين فحلين من شعراء القرن الماضي واللذيَن أخذا من من اهتمام محبي الأدب حصة عظيمة مقارنة بمن عاصرهما من الشعراء، فقيل فيهما الكثير وكتب عنهما وعن آدابِهما من الدراسات والمقالات والمقارنات ما يفوق العد والحصر، فقد كانا ولا شك شاغليَن جديريَن باهتمام الناس بل لعلهما أكثر شعراء العربية الحديثة اهتماما، لا جرم، فقد أغنيا مكتبتها الفكرية أولاً ثم العقل والذوق العربي بكل جميل”.
* والمقارنة بين شوقي والجواهري كشاعرين تتعدى حدود الأدب واللغة – كما يكتب حسان الحديثي- فهي بتقديره:
“تشمل ظروفاً اجتماعيةً وتربويةً أحاطت بهما من جانب، وظروفاً سياسيةً وإعلاميةً من جانبٍ آخر، لكن يبقى العاملُ الأهم في كلا حياتَيّ الشاعرين هو الجهد الفردي لهما في التعلم والاجتهاد والاطلاع على التراث الشعري العربي في جميع عصوره وما أحدث المحدِثون وما اضاف المولِّدون من الصناعة والإيحاء والتشبيه والوصف وباقي فنون الشعر، هذا بالإضافة إلى عبقريتهما الشعرية والأدبية والمتجسدة في نتاجهما الأدبي التي تتجاوز حدود الموهبة، بل أجد أنه من الظلم أن توصف بالموهبة فقط !..فالمقارنة بين الجواهري القادم من أزقةِ وحواري النجف ومن مدارسها الدينية الضاربة في القدم، المتجرع شوك ألفية ابن مالك وجفاف كتاب سيبويه في صغره ثم الناهل من أمالي أبي علي القالي والمتمعن في نسيج الجاحظ في البيان والتبيين، والجامع بين علوم البلاغة واللغة إلى النقد في كامل المبرّد وادب ابن قتيبة..الجواهري، الذي نحت اللغة بآلة الدرس والاجتهاد ثم جمّلها بالاطلاع بآداب وفنون الشرق والغرب والاحاطة بالتاريخ حتى تربع على عرشها فأصبح يقلب المفردات بين إصبعيه برقة متناهية حتى لتكاد “ أُصَيْبيَةٌ” على سفح دجله تلهو فتلهيه”..
* ولكي يوضح للقارئ أكثر فأكثر مزيداً من المقاربة والمقارنة، يضيف الحديثي:
“الجواهري الذي غدت المفردة أطوعَ عنده من الطيــن في كف الكوّاز، ولا اكثر من الامثلة على ذلك كقوله :
وظللتُ أرمِقُها بإسجاحٍ وترمِقني بِلُطفِ.
وقوله: وسرْتُ قصدكِ لا خِبّاً ولا مَذِقا.
وقوله: ما بَينَ أربدَ لا يشِفُّ وبين مفضوحٍ أشفِّ
الجواهري الذي يقول عن نفسه – دون مبالغة ولا تكلف- ولدت شاعراً، قدري أن اكون شاعراً، حتى لقب بشاعر العرب الأكبر….
وبين شوقي الجامع بين مدارس القرآن وحلقة الكُتّاب وسطوة المشايخ مع نشأة العز وترافة الامارة المتأثر بها والمؤثر فيها.. المتنقل بين معاهد الأمراء ونوادي النبلاء وجامعات أوروبا وأضواء باريس مع برد الشمال ودفء صيف مرسيليا ومونبلييه..شوقي، الناشئ بين لمعان المرايا ونعمومة الرخام، المازج بين عراقة وادي الملوك وأنوار أوروبا وحضارتها وثورة فكرها وتمدنها..شوقي، المتأثر بالقرآن والبلاغة النبوية حد الهُيام، شوقي المتقن للفرنسية السابح في فضاء الأدب الغربي شعرا وقصصا ومسرحاً وحضارة.
يكفي شوقي فخراً أنه لم تضيّعْه بحبوحة العيش وترافة المدنية وأغراء الجاه ونعومة الأمارة وحفاوة الملك، كما يكفيه علماً أنه جمع بين علوم الشرق والغرب وآداب الماضي والحاضر.. شوقي الذي بايعته وفود الشعراء على الأمارة معترفة بأدبه وسموه في فضاء الشعر” ..
* وهكذا يروح الكاتب دؤوباً لايصال المتلقي لما تهدف اليه المقالة، توثيقاً وتوضيحاً، فيضيف:
” .. من خلال نظرة سريعة ومقارنة بين شعريهما في الغرض الواحد فإننا نجد أن كليهما منتمٍ لعروبته، عابرا لحدود وطنه:

•شوقي بليبيا وشيخها:

ركزوا رفاتك في الرمال لواءا … تستنهض الوادي صباح مساءا

•والجواهري بـالجزائر وشهدائها:

رِدِى علقَم الموتِ لا تجزعي … ولا ترهبي جمرةَ المصرَعِ

وكلاهما يدرك أصوله:
•شوقي بنيلهِ:

مِـنْ أَيِّ عَهدٍ في القُـرَى تتَـدَفَّق … وبأَيِّ كَفٍّ في المدائن تُغْدِقُ
ومن السماءِ نزلتَ أَم فُجِّرتَ من … علْيا الجِنان جَداوِلاً تتَرقرقُ

•والجواهري بدجلتِه:

حييت سفحك عن بعد فحييني… يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به … لوذ الحمائم بين الماء والطين

وكلاهما رقيقٌ غَزِلٌ:
•شوقي بقوله:

عَلَّمـوهُ كَيْـفَ يَجْفـو فَجَـفَـا … ظَالـمٌ لاَقَيْـتُ مِنْـهُ مَا كَفَـى
مُسْرِفٌ فِي هَجْرِهِ مَا يَنْتَهي … أَتُـراهُـمْ عَلَّـمـوهُ السَّـرَفَـا

•والجواهري بقوله:

تَهَضّمَني قَــــدّكِ الأهـيـفُ … وألـهَـبَـنـي حُـسـنُـكِ المُترَفُ
وضايَقَني أنّ ذاك الـمِـشَدّ … يضيقُ بـهِ خَـصـرُك المُرهَفُ

وكلاهما أدرك الحكمة في شعره:
– شوقي:

صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُه … فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ

•والجواهري:

وحين تطغى على الحران جمرته … فالصمت أفضل ما يطوى عليه فمُ

وتكلما عن المدن:
– فقال شوقي في باريس:

جهد الصباب ما أكابد فيك … إن كان بي سر الهوى يغريك

•وقال الجواهري في براغ:

سبع توهمتها سبعين لا كدراً … لكن لحاجتها القصوى إلى الكدرِ

وهكذا دأبهما في حياتهما الشعرية فقد تعرضا لكل غرض ومبحث من أغراض ومباحث الشعر في غير موطن وزمن ومناسبة ما يصعب حصره في هذه السطور”.
* ولم يكتفِ الحديثى بما افاض به من مقارنات، فراح يتوقف هذه المرة في شؤون أخرى، ذات صلة بالاسلوبية وبعض جذورها ومراسيها، فيكتب:
” غير أن المتمعن في شعر الجواهري -بناءً ومفردةً- والمُقلّبِ في أسلوبه الشعري سيجد الأثر التربوي والعلمي المتمثل في مدارس النجف وتركيزها على النحو والصرف والبلاغة واضحا فهو إن صح التعبير فرزدقي السبيل نابغي الوِجهة ينحت شعره نحتَ الخبير العارف باللغة المترفع تارة عن سهلها والسالك تارة أخرى وعورة حَزونها غير آبهٍ بتأخر زمنه عن فحول العربية وشعرائها وقد سبقه في هذا النهج أسلافه من شعراء النجف سيما السيد محمد سعيد الحبوبي الذي وإن عرف برقيق موشحاته وغرله إلا أنه لم يفتأ سالكاً طريق أسلافه من القدماء … ولا يكاد الجواهري يخير بين مفردتين الا اختار أعمقَهما معنى وأبعدَهما دلالة وأشدَهما وقعاً، سندُه في ذلك لجُّة مفرداتِه الهادرةِ وكفيلُه وفرةُ معانيهِ الزاخرةُ، موشياً قديم التراثِ بحديثِ الصناعةِ واضعاً عليه بصمتَه الجواهريةَ التي تركت أثرَها واضحاً في مقلديه ممن جاءَ من بعدَه دونَ أن يتعمدوا التقليد أو يتقصدوا الإتباع”.
* وتتتابع اغراض المقالة في خلاصات ايجازاتها، فتضيف:
“كما أن المتقصي لشعر شوقي يجده ميالاً إلى السلاسةِ والسهولةِ والعفويةِ، بل لعله أكثرَ أهلِ زمانِه انطباعاً إذا ما قيس بأقرانه ممن عاصره، بالإضافة إلى ذلك فقد مال شوقي إلى الوجدان في شعره بالمديح والتهاني والمناسبات والغزل وبعض المراثي كما توفرت في شعره الحكمة حتى أن سرت على السنة العرب في كل البلاد، مما جعله معروفاً مشهوراً محبوباً قريباً من النفس لا تكاد حين تقرأه أن تنتهي منه حتى تشتاق اليه ، ولعل أهم ما تميز به شوقي بالإضافة إلى الوجدان هو العاطفة الوطنية والدينية البائنة والمتأججة في شعره”.

* ووفق الكاتب الحديثي أيضاً:
” ان كلا الشاعرين بعيد عن المبالغة في المعاني وتفخيمها والغلو فيها، كما لم يتسمْ الشاعران بالطرافة الهابطة أو الإغراق في التفكير، أو النزوع إلى التجريد في الغموض والإبهام، أو رسم الصور الغريبة والاستعارات البعيدة المأخذ فلم تتعددْ أوجه الفهم في أسلوبيهما، ولم تحتجْ إلى الشروح والتأويلات أمام الفكرة أو المسألة ولم يعتريها غموضٌ أو انحرافٌ في المعاني والدلالات وإن اتسمت بعض قصائد الجواهري سيما الطويلات منها بالتدبيج بغريب وفخم المفردة، ومَثَلُ شوقي والجواهري بين الشعراء كمثل جرير والفرزدق هذا ينحت في صخر وهذا يغرف من بحر وكلاهما شاعر فحل..ولعل قائلا يقول إن شوقي بالغ في المديح حد الإسفاف مما جعل الكثير من شعره غير شائع بين القراء سيما مدائحة للبيت السلطاني وأمرائه ودواوينه وهذا واقع في شعر شوقي، وكذلك الجواهري فقد نال المديح شيئا من شعره وهكذا دأب الشعراء جميعاً، وأي شاعر لم يتكسب المال والجاه بشعره؟”.
* ثم يختم حسان الحديثي ما وثقه، وأسس عليه، في بحث أكثر منه مقالة، فقال عن الشاعرين الكبيرين أنهما قدما لنا في الجانب الآخر نصوصاً رائعة:
” ..شوقي بديوان الأطفال إذ لم يسبقه بهذا الابداع أو يلحقه أحد، كما قدم للمكتبة العربية تسع مسرحيات شعرية أصبحت نقطة وعلامة فارقة في تاريخ الأدب العربي المعاصر .. والجواهري بديوانه العريض الذي جمع به شعر ما يزيد على ثمانية عقود حافظ فيه على الخزين اللغوي للعربية وجدد نهج أسلافه من عظماء وكبراء شعراء العربية. فمن دخل هذا المدخل متنكّباً عناء هذا الطريق خائضاً لجة هذا البحر فأمامه سبيلان: إما أن يعطي هذين الشاعرين حقَهما غير منقوصِ والا انطبق عليه قول الجواهري :

وطول مسيرة من دون غاي مطمح خجلُ “.

++ الصورة للاستاذ الحديثي عند زيارته لمركز “الجواهري” في براغ عام 2014
—– مع تحيات مركز ” الجواهري” للثقافة والتوثيق: babyloncz@yahoo.com

اترك تعليقاً