الرئيسية / تقارير صحفية وسياسية / حوار مع الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بمناسبة انتهاء أعمال المؤتمر الوطني العاشر

حوار مع الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بمناسبة انتهاء أعمال المؤتمر الوطني العاشر

السيمر / الاثنين 13 . 02 . 2017 — (الثقافة الجديدة) تحاور سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، الرفيق رائد فهمي (أبو رواء)، بمناسبة انتهاء اعمال المؤتمر الوطني العاشر للحزب، الذي انعقد خلال الفترة 1 – 3 /12 /2016.
نرحب بكم، رفيقنا العزيز (أبو رواء)، باسم هيئة تحرير مجلة (الثقافة الجديدة)، ونشكركم على تفضلكم بإتاحة الفرصة للقاء والتحاور حول المؤتمر الوطني العاشر.
وبمناسبة الاحتفال بهذا الحدث الهام، ثمة أسئلة كثيرة يمكن ان تطرح من زوايا مختلفة، ولكن المؤكد، هو ضرورة إعادة السؤال الجوهري الى المواجهة؛ لماذا انعقاد المؤتمر وما هي ضروراته؟ وما هي دروسه وخلاصاته الكبرى؟

للإجابة على هذا السؤال المركب وتعميقا له، توجهنا للرفيق (أبو رواء) وأجرينا معه الحوار الآتي:

1. الثقافة الجديدة:
كما هو معروف، كان المؤتمر الوطني العاشر الذي تم خلال الفترة 1-3/12/2016 ليس ابن ظروفه الصعبة والمعقدة ولحظته الراهنة بل تتويجا للسياسة التي انتهجها الحزب بعد المؤتمر الوطني التاسع والآليات التي اعتمدها لوضع تلك السياسة موضع التطبيق. وسؤالنا المنطلقي هنا هو: هل بالإمكان ان نبدأ حوارنا بأوضاع الحزب والمجتمع قبل انعقاد المؤتمر وانعكاساتها على التحضير إليه؟ ثم ما هي خلفيات القرار بعقد المؤتمر برغم ما كانت تشهده البلاد (ولا تزال) من اضطراب سياسي، وانشغال البلاد بحرب ضروس مع قوى الارهاب، وفي مقدمتها الدولة الإسلامية (داعش)، والضرورات السياسية والفكرية والتنظيمية لهذا القرار؛ كي يمكن فهم المغزى العميق لعقد المؤتمر في هذه اللحظة المتوترة من تطور البلاد؟
والآن وقد انهى المؤتمر اعماله، فانه يمكن تقييمه برأس بارد، لذا يهمنا هنا طرح السؤال الآتي الذي يشكل امتدادا للسؤال السابق: هل كان المؤتمر حقا محطة نوعية اخرى جديدة أم مجرد رقم في عداد أرقام المؤتمرات الحزبية الدورية، كما ينافح الخصوم وعشاق المناكدات؟

رائد فهمي (أبو رواء):

إن عقد المؤتمر هو استحقاق تنظيمي، ينص عليه النظام الداخلي للحزب. وقد حرص الحزب اشد الحرص منذ المؤتمر الوطني الخامس، وفي اطار نهج الديمقراطية والتجديد، الذي انطلق حينئذ وتكرس كوجهة وممارسة متواصلة ومتجددة، على الالتزام بتنفيذه. كما ان مؤتمر الحزب يعتبر المحطة او الحلقة الأرأس التي تتجسد فيها الديمقراطية الداخلية، ويتحقق من خلالها تحكيم العقل الجماعي في فحص وتقييم مسيرة الحزب، واستخلاص الدروس من نجاحاتها وإخفاقاتها، ورسم السياسة العامة للحزب في ضوء الدروس المستخلصة، والتحليل الدقيق لأوضاع البلاد وتطوراتها المستجدة على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية – اقتصادية، وانتخاب هيئته القيادية – اللجنة المركزية، ولجنة الرقابة المركزية.
ولم يأت قرار المضي في عقد المؤتمر من دون دراسة وتقييم للظروف الصعبة التي يمر بها البلد، خصوصاً الحرب الضروس التي تخوضها قواتنا المسلحة والقوى الشعبية المساندة لها ضد قوى الارهاب وتنظيم داعش الاجرامي، والتحديات الكبيرة الناشئة عنها أو المرتبطة بها، لا سيما على الصعد الأمنية والسياسية.
لقد حقق المؤتمر الوطني العاشر نجاحا متميزا في انجاز أعماله وإقرار الوثائق المقدمة له، وانتخاب لجنة مركزية جديدة، تحققت فيها نسبة عالية من التجديد قاربت 42 بالمائة، وضمت دماء وطاقات شابة زادت على ثلث قوامها. كما تعززت المشاركة النسوية فيها بانتخاب رفيقة إلى عضوية المكتب السياسي للحزب لأول مرة منذ تأسيسه. ولا شك ان قرار سكرتير اللجنة المركزية، الرفيق حميد مجيد موسى (ابو داود)، بعدم إعادة ترشيح نفسه، جاء مؤكدا للبعدين الديمقراطي والتجديدي لهذا المؤتمر، ومؤشرا في الوقت نفسه تعافي الحزب وسلامة حياته الداخلية وصلابة وحدته. وكان لمساهمة الرفيق ابو داود وقيادته الحزب خلال فترة عاصفة بالنسبة للعراق وللحزب، دور اساسي في انضاج شروط هذا النجاح، وتهيئة الأجواء الصحية التي مكنت الحزب من تحقيق نقلة جديدة في اطار عملية الديمقراطية والتجديد.
وواضح ان هذه التغييرات في تركيبة الهيئة القيادية للحزب، على أهميتها، ما كانت كافية لتجعل من المؤتمر الوطني العاشر محطة نوعية، لولا أنها اقترنت بعناصر نجاح أخرى تؤسس بمجموعها لاعتباره كذلك، ومنها الحضور والمشاركة النوعيان المتميزان على المستويين الشعبي والرسمي في حفل افتتاح المؤتمر، والتغطية الاعلامية الواسعة له من طرف عدة فضائيات وقنوات إعلامية أخرى، بما فيها التابعة للدولة. إلا أن أهمها يتمثل في الأصداء الايجابية الواسعة للمؤتمر في اوساط واسعة في المجتمع وقواه السياسية وتنظيماته الشعبية والمدنية ونخبه المهنية والثقافية. وقد قوبل شعار المؤتمر “التغيير.. دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعدالة اجتماعية”، بارتياح وترحيب واسعين. ووجد الكثيرون من الوطنيين غير الشيوعيين، الطامحين للإصلاح والتغيير، في أعمال المؤتمر ووثائقه والمناقشات العلنية التي دارت حولها، وفي النتائج التي خرج بها والتجديد في قيادته لصالح مشاركة أكبر للشباب والنساء، ومضات أمل وثقة في امكانية استنهاض وتجميع القوى المدنية الديمقراطية، وتوحيد عملها بما يعزز مكانتها وتأثيرها السياسيين. وتلقى الحزب اشارات ودعوات لتوسيع وتكثيف نطاق عمله ونشاطه، وفيها تعويل على دوره السياسي والفكري والجماهيري، وهذه موضع اعتزاز كبير وهي تضع الحزب أمام مسؤولية أكبر في الارتقاء بعمله وأدائه وانفتاحه على الجماهير. وسيكون ذلك هاجسا دائما لعمله القادم في جميع الميادين.

2. الثقافة الجديدة:

كيف تصفون، أيها الرفيق العزيز (أبو رواء)، ابرز النتائج التي انتهى إليها المؤتمر الوطني العاشر للحزب، وما هي اهم المجالات التي شهدت التغييرات الضرورية سواء من الناحية التنظيمية ام السياسية ام الفكرية؟

رائد فهمي:

لقد اشرت في اجابتي على السؤال السابق إلى التغييرات التنظيمية المهمة في الهيئة القيادية للحزب، التي خرج بها المؤتمر، اضافة إلى عدد من التدقيقات والتعديلات في النظام الداخلي باتجاه تعميق الديمقراطية، ابرزها تحديد انتخاب سكرتير اللجنة المركزية لدورتين متتاليتين فقط.
وعلى الصعيد الفكري والسياسي، تم تقديم تحليل معمق لمختلف اسباب وأبعاد ومظاهر الأزمة العامة في البلاد، التي تشمل منظومة الحكم وبناء الدولة والطابع الريعي للاقتصاد الوطني، كما تتجلى تداعياتها، تأثيراً وتأثراً، في الثقافة والوعي والمنظومة الأخلاقية والسلوكية الاجتماعية. وفي ضوئه خلص المؤتمر إلى الاستنتاج، أن استمرار نهج المحاصصة الطائفية والإثنية سوف يعمق الأزمة. فهو يعجز عن تقديم حلول جدية لمشاكل البلاد، مما يزيد من تدهور الأوضاع المعيشية لفئات وشرائح واسعة من السكان، من العاطلين عن العمل والمهمشين والكادحين وذوي الدخول الواطئة، ومن النازحين والمهجرين والشرائح الاجتماعية الهشة كالأرامل واليتامى وغيرهما. وستمتد آثار الأزمة لتصيب مختلف فئات الفلاحين في الريف، وما يوصف “بالفئات الوسطى” في المدن. وسيترك كل ذلك انعكاسه على الحالة الأمنية، وعلى تماسك المجتمع والثقة والتعايش بين أطيافه، فضلا عن تمادي التدخلات الخارجية في شؤونه. كما ان من شأن نهج المحاصصة تحجيم الانتصارات العسكرية الباهرة، التي حققها المقاتلون البواسل في القوات المسلحة والقوات المساندة لها على اختلاف مسمياتها، والحيلولة دون تحولها إلى انتصار سياسي حاسم ضد الارهاب ومنابعه، يضع العراق على سكة التعافي وإعادة الأمن والاستقرار في ربوعه.
وقد وجدت محصلة التغييرات الفكرية والسياسية التي جاء بها المؤتمر الوطني العاشر، تعبيرها المكثف في تصدر “التغيير” شعار المؤتمر، لأن الانتقال من دولة المكونات المتشظية القائمة على تقاسم السلطة ومنافعها ومغانمها بين من يحتكرون تمثيل هذه المكونات، إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية الاتحادية، بات ضرورة ملحة للخلاص من حكم الطائفية السياسية، المسؤول عن توالي الفشل واستشراء الفساد. وقد وجد هدف “التغيير” في تواصل الحراك الجماهيري على مدى سنة ونصف السنة رافعة له، فيما حفز قوى مجتمعية متزايدة الاتساع على تقبل مفاهيم الاصلاح والتغيير والشعارات والحلول المدنية، وابداء الاستعداد للمشاركة في الفعل الاجتماعي والسياسي؛ فالتغيير لم يعد مجرد هدف عائم نرنو إليه، وإنما غدا إمكانية قائمة، عمد المؤتمر إلى تحديد سبل تحقيقها بالفعل عن طريق توحيد عمل الطيف الواسع وغير المنظم من القوى والمنظمات والشخصيات المدنية الديمقراطية.
وتوقف المؤتمر عند الواقع الاجتماعي والاقتصادي، واشر عملية الفرز والتمايز في المصالح والتبلور المتزايد وضوحا لمعالم الانقسام الطبقي داخل المجتمع، والتي لم يكتمل تشكلها بعد بسبب طبيعته الانتقالية. إلا أن الفرز والاستقطاب في الدخل والثروة يزدادان وضوحا وتعمقا، حيث تتراكم الثروات الفاحشة لدى مجموعة صغيرة من الفئات البرجوازية البيروقراطية والطفيلية ولدى كبار التجار، مقابل انتشار الفقر والعوز على نطاق واسع. كما يؤشر ذلك ارتفاع نسبة من لا تصل مواردهم الى مستوى خط الفقر لتبلغ حوالي 30 بالمائة، فيما يناهز عدد ساكني العشوائيات ستة ملايين مواطن أو أكثر، ويزيد عدد النازحين على ثلاثة ملايين، وهذا ما حدا بالمؤتمر إلى تثبيت “العدالة الاجتماعية” ضمن شعاره المركزي.

3. الثقافة الجديدة:

“وثيقة التغيير” التي اقرها المؤتمر الوطني العاشر، على كثافتها، تعتبر وثيقة مهمة تبلورت موضوعاتها، وأطروحاتها الكبرى، ومفاهيمها الجديدة، بعد مناقشات واسعة شهدها الحزب خلال الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر. وسؤالنا هنا هو: ما هي الموضوعات والأطروحات والمفاهيم التي يمكن اعتبارها جديدة في هذه الوثيقة، والتي تتيح القول ان الحزب قدم مقاربة جديدة للتغيير المطلوب ومضامينه الكبرى ضمن خطاب يريد تأسيس تمايزه واستقلاليته وخصوصيته، ويؤكد جديّة الخطوات التي قام بها الحزب كي ترتقي الى القول بأنه يقدم مقاربة جديرة بالانتباه والسجال معها؟

رائد فهمي :

يطرح الحزب في هذه الوثيقة رؤيته للتغيير، باعتباره ضرورة. فالبلد لم يعد يتحمل مواصلة السير على ذات النهج في الحكم، ونفس نمط التفكير الذي قاد العراق إلى وضعه الحالي، محاصرا بالأزمات. والوثيقة توضح ملامح المشروع البديل لمشروع قوى الطائفية السياسية، الماسكة بزمام الأمور طوال السنوات الماضية وحتى وقتنا الراهن، الذي عمل على اقامة دولة المكونات واعتماد نهج المحاصصة الطائفية والاثنية. وهذا البديل هو مشروع الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، القائم على مبدأ المواطنة وتحقيق اعلى وأفضل مستوى ممكن من العدالة الأجتماعية. كما تحدد الوثيقة شروط تحقيق التغيير، وتبين المسارات والوسائل والآليات السياسية اللازم اعتمادها والأهداف الواجب بلوغها، لتأمين شروط التغيير.
فالورقة تقدم تشخيصا وتوصيفا دقيقين لحالة البلاد ولمشاكلها المتفاقمة والمستعصية. حيث تؤكد تجربة السنوات العشر الماضية عجز منظومة الحكم القائمة ونهجها عن تقديم الحلول الناجعة للمشاكل والاستعصاءات، بل وتجد صعوبة متزايدة في إدارتها. لذا دخلت البلاد في ازمة شاملة ذات ابعاد بنيوية وسياسية. وتجذرت هذه الازمة بسبب الاستعصاءات لتصبح ازمة نظام حكم وسلطة سياسية، وازمة علاقات وغياب للثقة المتبادلة بين القوى والكتل المتنفذة، وتفاقمت آثارها بفعل المواجهة مع قوى الارهاب والحرب ضد داعش، وبفعل استشراء الفساد بتجلياته المختلفة، وأهمها التصاهر بين السلطة والمال، حتى اصبح يشكل تهديدا خطيرا للبلاد ولاستقرارها السياسي والاجتماعي.
ولم تنحصر موضوعات وتحليلات وثيقة التغيير ومعالجاتها في البنية الفوقية السياسية للمجتمع، وإنما تناولت بشكل مكثف ورصين التغيرات العميقة في اللوحة الاقتصادية – الاجتماعية، وتحديد ملامحها وهي في حالة سيرورة ولم تكتمل صورتها النهائية بعد. حيث اشرت الوثيقة عملية الفرز الاجتماعي والطبقي المشوه الجارية، والتي تترافق مع تنامي فئات وشرائح طفيلية وبيروقراطية وكومبرادورية، معرقلة لاستكمال بناء الدولة ولأي اصلاح جدي في بنائها السياسي والمؤسسي.
وأولت اعمال المؤتمر ووثائقه اهتماماً مكثفا للحراك الشعبي، الذي يتواصل من دون توقف منذ تموز 2015، وتوقفت عند اسبابه وتمظهراته المختلفة وسماته وآليات عمله وتطورها، وطبيعة القوى متنوعة المشارب المشاركة فيه والمؤيدة والمتماهية مع مطالبه وشعاراته، الداعية إلى الاصلاح والتغيير والى المكافحة الجادة للفساد والفاسدين والمفسدين، والذي هو وهم أكثر اتساعا وعمقا في المجتمع. ورغم التذبذب في أعداد المشاركين في فعاليات الحراك الأسبوعية المنتظمة، فإننا نرى انه باشكاله المتعددة يزداد اتساعاً؛ حيث لا يكاد يمر اسبوع إلا وتشهد كل محافظة ومنطقة في العراق شكلا أو أكثر من أشكال الاحتجاج الجماعي، في سبيل أهداف مطلبية أو دفاعاً عن الحريات أو اسناداً لقضية عادلة. كما أن عوامل انطلاق الحراك لا تزال قائمة، إن لم تكن قد تكاثرت مع اشتداد الأزمة المعيشية لفئات وشرائح السكان، ومع استمرار الخروق الأمنية والنزاعات في المدن والأرياف، بسبب الوجود الواسع للسلاح خارج الدولة وبعيدا عن سيطرتها، ونشاط جماعات مسلحة بعضها خارج عن القانون وبعض آخر ذو صلات وتواطؤات خفية، تسمح له بحرية حركة لافتة. فالحراك اذن، بدوافعه الحاضرة والمتجددة والمستجدة، والاحتمالات الموضوعية لاتساع قاعدته، تجعله مركزا معولاً عليه في عملية توحيد عمل القوى ذات المصلحة في الاصلاح والتغيير والطامحة اليهما، بعيدا عن الطائفية السياسية ولتحقيق البناء المدني الديمقراطي للدولة وتعزيز مرتكزاتها المجتمعية، ولوضع العراق على طريق التنمية المستدامة.

4. الثقافة الجديدة:

كما معروف، شكل انعقاد المؤتمر والاحتفال العلني بافتتاحه وبحضور مجتمعي وسياسي واسع وملفت للنظر.. شكل حدثا نوعيا كبيرا وحظي باهتمام وتقدير اوساط سياسية واجتماعية وثقافية واسعة، وخلق ديناميكية جديدة في المشهد السياسي العراقي.
سؤلنا المحدد هنا هو: ما هي خطواتكم العملية لتوظيف هذا الزخم الكبير والرصيد الثري من أجل تعزيز مواقع الحزب وزيادة تأثيره في اوساط المجتمع وخصوصا ان الانتخابات العامة مواعيدها على الابواب؟

رائد فهمي:

هناك كما ألمحتم في سؤالكم اشارات متوالية ومتزايدة، تنطلق من اوساط ودوائر متنوعة تمتد على مساحة واسعة من المجتمع، وتعبر عن نظرة احترام وموقف ايجابي إزاء الحزب وسياسته ومواقفه ورموزه من جهة، ومن جهة أخرى إزاء القيم والأهداف والحلول التي يطرحها المشروع المدني الديمقراطي بمفرداته وعناوينه المختلفة. وليس من باب المبالغة والرغبوية أن نرصد في هذه الرسائل المنبعثة من المجتمع، مؤشرات امكانيات أكبر للقوى المدنية الديمقراطية، لأن تحصل على نتائج أفضل في الاستحقاقات الانتخابية القادمة لمجالس المحافظات ولمجلس النواب.
ويبدو أن هذا التشخيص لم يغب عن القوى المتنفذة حاليا، والتي راح بعضها يسارع لتحصين مواقعه بالتحرك في اتجاهات مختلفة، لا سيما عبر محاولات تمرير قانون انتخابات غير عادل يضمن استمرار هيمنته، ويزيد من معوقات دخول قوى جديدة إلى المجالس المنتخبة؛ تحمل مشروعا مدنيا بديلا عن الطائفية السياسية، وتدعو إلى نهج المواطنة، بدلا من نهج المحاصصة الطائفية والإثنية.
في ضوء هذا بات واجبا على القوى والأحزاب والقوى والشخصيات المدنية الديمقراطية، أن توحد عملها وتكثف جهودها المشتركة، كخطوة أولى نحو تعديل المنظومة الانتخابية وجعلها أكثر عدلا وإنصافا وشفافية. ونقصد بذلك العمل من أجل افشال محاولات تمرير تعديلات على قانون الانتخابات والنظام الانتخابي لمجالس المحافظات، تضيّق من قاعدتها التمثيلية وتقصي القوى والشخصيات غير المنضوية تحت ائتلافات الكتل الكبيرة، القائمة بالأساس وفي الجوهر على الانتماء الطائفي والاثني. وهذا ما يرشح من معلومات عن السعي الى رفع قيمة معامل القسمة في نظام سانت ليغو لانتخابات مجالس المحافظات من واحد إلى 1,7 وتقليص عدد اعضاء مجالس المحافظات إلى النصف، بحجة التخلص من الترهل في قوامها، والذي تتحمل مسؤوليته القوى المتنفذة ذاتها عندما وجدت فيه مصلحة لها.
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه الطيف الواسع للقوى والشخصيات المدنية الديمقراطية، هو تجاوز حالة التبعثر والتشتت في صفوفها، وخلق ديناميات تدفعها الى مزيد من التعاون والتنسيق والاتحاد في خطابها وحركتها وعملها، والى بلورة الاولويات في مطالبها وأهدافها كي يتم تركيز وتكثيف الجهود لتحقيقها.
ونحن نعتقد استنادا الى التجربة التاريخية للحركة الوطنية والديمقراطية، ان في تعافي الحزب الشيوعي وتعزز حضوره واتساع تأثيره ونفوذه، قوة لعمل القوى والأحزاب والشخصيات المدنية الديمقراطية، وزخما اضافيا لحركتها ونشاطها، ورافعة لحضورها وتأثيرها السياسيين في المجتمع.
وانسجاماً مع هذه الرؤية، اطلق الحزب نداءاته الثلاثة، الموجهة الى الرفاق المنقطعين عن الحزب لإعادة الصلة بهم، وللقوى والشخصيات المدنية الديمقراطية للقاء والتحاور من اجل تذليل معوقات التعاون وللتنسيق وتوحيد الجهود. ويبدي الحزب استعداده للانفتاح والتفاعل الايجابي مع اي مسعى أو مبادرة تصب في هذا الاتجاه، كما أنه عازم على المبادرة من جانبه الى الترجمة العملية لما ورد في النداءات. ويأتي في السياق نفسه النداء الثالث للمؤتمر الوطني العاشر، الموجه إلى المثقفين حاملي مشعل الفكر والثقافة التنويرية، دعما وإسنادا لدورهم في نشر الثقافة والأفكار والمفاهيم والقيم، التي تؤسس للمشروع السياسي والاجتماعي – الاقتصادي للقوى المدنية الديمقراطية.
وقد تبنى المؤتمر ايضاً وثيقة “مشروع التغيير نحو دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعدالة اجتماعية”، وسيقوم الحزب بتوزيعه على نطاق واسع ويطلق حوله نقاشات وحوارات مع القوى والأحزاب والمنظمات والشخصيات ضمن التيار المدني الديمقراطي. كما سيكون المشروع مطروحا للنقاش العام خارج التيار، في ندوات عامة او في لقاءات على نطاق أضيق.
وبموازاة هذا التحرك، سيكون الحزب مبادرا ومساندا ومشجعا لكل حراك وحملة وفعالية ذات طابع جماهيري عام، أو لمصلحة مطالب فئوية مشروعة وعادلة. ويندرج ضمن إطار مكافحة آفتي الإرهاب والفساد، ويهدف إلى تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية الجذرية، المنسجمة مع المشروع المدني الديمقراطي. إذ يسهم ذلك ليس فقط في زيادة الضغط لتحقيق المطالب المشروعة، وإنما يساعد أيضاً في إيجاد أشكال ملموسة من التعاون والتنسيق الميدانيين بين القوى المدنية الديمقراطية وأنصارها ومؤيديها، مما يعزز المساعي لتوحيد عملها وخلق ظروف انسب لإقامة الائتلافات الانتخابية.
وستتجلى الوجهة العامة لعمل الحزب ومنظماته وأصدقائه، في تكثيف الجهود وتطوير أساليب العمل في اتجاه مزيد من الانفتاح والتواصل والحضور الجماهيري، والمشاركة في الحراك الشعبي بأشكاله المتنوعة وعلى مختلف الصعد، والاقتراب أكثر من الناس، خصوصاً في أوساط الشغيلة والكادحين وذوي الدخل المحدود في المناطق الشعبية في المدن والريف.
سيكون عملنا مركزا على ترجمة هذه التوجهات إلى مبادرات وفعاليات ونشاطات ملموسة، وفقا لظروف كل محافظة وكل منطقة.

5. الثقافة الجديدة:

تضمن برنامج الحزب الجديد الذي صادق عليه المؤتمر الوطني العاشر وكذلك التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر، تحليلا معمقا لطبيعة التطور الاقتصادي للبلاد وملامحه الأساسية، راهنا ومستقبلا، ومن بينها الطابع الرأسمالي للاقتصاد حيث “التوازنات الداخلية والدولية الدافعة بقوة لصالح التطور الرأسمالي بصورته الليبرالية الجديدة الأكثر غلوا”. كما أشار البرنامج، وطرح سبل مواجهة ذلك عبر توليفة من الإجراءات من بينها ضرورة اعتماد تنمية متوازنة ومستدامة.. الخ من الأطروحات التي تستحق وقفة. ثمة سؤال من شقين يطرح نفسه هنا:
– هل يمكن الحديث عن “تنمية مستقلة” ذات مضمون رأسمالي في ضوء ظروف بلادنا التي تحتل موقعا تابعا ضمن الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وتندمج بشكل متعاظم في التقسيم الدولي الرأسمالي المعاصر للعمل؟ وكيف يمكن “تجنيب شعبنا مصائب رأسمالية وحشية وانجاز الأهداف ذات الطابع الوطني والديمقراطي”؟
– ومن جانب آخر ثمة إشكالية تتعلق بـ “الأفق الاشتراكي” المطروح في الوثيقة البرنامجية وهو: كيف يمكن حل التناقض، على الصعيد النظري والسياسي العملي، بين الإمكانية النظرية للانتقال المستقبلي نحو الاشتراكية، بصيغة جديدة طبعا، وبين الضرورة الملحة الراهنة للمرور القسري بالرأسمالية بهدف الاستفادة من الإمكانيات التي تمتلكها لتطوير القوى المنتجة؟

رائد فهمي:

لا يمكن الحديث عن تنمية مستقلة في ظل الاقتصاد الرأسمالي المعولم الراهن. مثل هذه التنمية كان ممكنا عندما كانت توجد بلدان المنظومة الاشتراكية في القرن الماضي، حيث كانت تتوفر إمكانية إقامة علاقات اقتصادية خارجية ومبادلات تجارية مع الدول الاشتراكية، بصورة مستقلة نسبيا عن السوق الرأسمالية الدولية. ولم تعد مثل هذه الإمكانية متاحة في الوقت الذي قامت فيه العولمة الرأسمالية بدمج اقتصادات الدول، التي كانت تصنف ضمن الدول النامية، بالاقتصاد الرأسمالي العالمي في ظل تقسيم عمل دولي جديد، تحتكر فيه الدول الرأسمالية المتقدمة الصناعات ذات المحتوى العلمي والتكنولوجي العالي، وترحل الصناعات كثيفة العمالة إلى هذه البلدان مع توجيه السلع التي تنتجها لتغطية الطلب في اسواق البلدان الرأسمالية المتقدمة.
وفي العراق الذي يمر بمرحلة انتقالية من ابرز سماتها تفكك قطاع الدولة الذي كان مهيمنا في ظل النظام المباد، نتيجة الحروب المدمرة وأعمال التخريب والنهب التي طالت مؤسساته الإنتاجية، إلى جانب التوجه العام نحو خيارات السياسة الاقتصادية للدولة بعد التغيير، والتي رسمت معالمها سلطة الاحتلال التي كانت ترمي إلى تطبيق وصفة الانتقال إلى اقتصاد السوق بالصدمة، عبر إجراءات سريعة وقاسية بتصفية الشركات المملوكة للدولة أو خصخصتها، وإزالة كافة القيود والضوابط التي تنظم التجارة الخارجية، وفتح الحدود أمام حرية انتقال السلع والخدمات، ما أدى عمليا إلى الإسراع في انهيار الصناعات الوطنية، وانحسار الإنتاج الزراعي بسبب عدم قدرته على المنافسة، وغزو المنتجات المستوردة للأسواق العراقية. وفي أثناء ذلك اتبعت دول الجوار ودول مصدرة أخرى سياسة إغراق السوق العراقية بسلع واطئة النوعيات، وبعضها غير مطابق للمواصفات ونافد الصلاحية.
من جانب آخر أدى الانهيار في مؤسسات الدولة الذي أعقب الاحتلال وسقوط النظام الدكتاتوري، إلى تعطل تنفيذ قانون العمل وتعليماته، كما تهاوت أجهزة الرقابة على السوق، فيما توقف معظم المؤسسات الإنتاجية المملوكة للدولة أو تقلص إنتاجه إلى حد كبير، بسبب تقادم ماكنته الإنتاجية وضعف الصيانة فيه وعدم القدرة على تسويق منتجاته. فارتفعت معدلات البطالة من جهة، وأطلقت يد رب العمل في استغلال العمال والعاملين لديه، نظرا لضعف أو شبه غياب الحماية، التي توفرها تشريعات العمل والضمان الاجتماعي.
ورغم أن الوصفة الليبرالية المتطرفة التي كانت إدارة بريمر تنوي تطبيقها، لم تتحقق بفعل المقاومة التي واجهتها وبسبب ضعف القطاع الخاص العراقي وعزوف الرأسمال الأجنبي عن دخول السوق العراقية بقوة، نظرا لارتفاع مخاطرها الناجمة عن الوضع الأمني وبيروقراطية الإدارة الخانقة والفساد، إلا أنها أنتجت في النهاية اقتصاداً هجيناً ومشوهاً وذا طابع ريعي مفرط، جمع مساوئ اقتصاد مركزي بيروقراطي دولتي، واقتصاد سوق غير منظم ذي سمات مافيوية.
وفي ظل موازين القوى غير المؤاتية السائدة، وتعطل وشلل الأنشطة الإنتاجية وما ترتب عليهما من ضعف الحركة العمالية والتنظيمات النقابية، ونظرا لكون الحزب والقوى الديمقراطية والتقدمية ما تزال منهمكة في إعادة بناء صفوفها بعد عقود من المنع والقمع والملاحقة، فقد كان توجه الحزب يركز على تجنيب شعبنا وشغيلته الآثار المدمرة لفرض سوق رأسمالية منفلتة، تسودها شريعة الأقوى والممارسات المافيوية.
لهذا وضع الحزب في مقدمة أولوياته الدفاع عن الشركات المملوكة للدولة وحقوق العاملين فيها، وإعادة تأهيلها ومقاومة خطط خصخصتها. وبصورة اعم عمد إلى المطالبة بتنظيم السوق وتوفير الدعم والحماية للصناعة المحلية والمنتج الوطني، عبر تشريع حزمة من القوانين وتطبيقها الفعلي، مع التشديد على سن منظومة تشريعات ضمان اجتماعي، تشمل العاملين في الدولة والقطاع الخاص وتشمل التأمين ضد المخاطر التي ترتبط بالبطالة والمرض والشيخوخة. كما قدم ويقدم كل الدعم والإسناد الممكنين للحركة النقابية والاتحادات العمالية، وللتطبيق الفعلي لقانون العمل، وإلغاء تشريعات النظام الدكتاتوري التي تمنع التنظيم النقابي في معامل قطاع الدولة.
وعلى صعيد السياسة الاقتصادية العامة للدولة يعمل الحزب من أجل الحفاظ على قطاع الدولة وتحديثه وتطوير إدارته ورفع إنتاجيته، وتشجيع الشراكات بين قطاع الدولة والقطاع الخاص المحلي والأجنبي على أسس سليمة، ويقف ضد خصخصة قطاع الخدمات العامة، وفي مقدمتها الصحة والتعليم وإنتاج الكهرباء، ويطالب بمنح هذا القطاع الأولوية في التخصيصات المالية، نظرا لأهميته في تأمين العيش الكريم والحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.
ولأجل تأمين مقومات التنمية المستدامة وتوفير فرص العمل، وتقليص الاعتماد على الاستيراد من الخارج وتحقيق قدر من الاستقلال في توفير الاحتياجات الأساسية للاقتصاد الوطني والأمن الغذائي، يدعو حزبنا إلى تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني وتقليص الاعتماد على النفط، وتنمية قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات المساندة للعملية الإنتاجية. وعلى صعيد القطاع النفطي ندعو إلى تصنيع النفط والحد من تصديره كنفط خام، وتطوير إنتاج المشتقات النفطية وإنشاء المصافي والصناعات البتروكيمياوية. وفي هذا السياق، نؤكد ضرورة مراجعة عقود الخدمة لجولات التراخيص، لتخليصها من الثغرات التي سمحت بالمبالغة في النفقات وفي رفع تكاليف الإنتاج. كما ينبغي الاستفادة منها لتطوير قدرات الكوادر النفطية العراقية في مختلف المجالات، ما يتيح للعراق المضي في تنفيذ إستراتيجية الاستثمار الوطني المباشر.
وان من ابرز مظاهر السوق المنفلت وضعف أجهزة الدولة التنظيمية والرقابية، وثمارهما المرة، استشراء الفساد ونهب المال العام، وشيوع الممارسات والنشاطات الاقتصادية والمالية غير المشروعة، كالتهريب وتبييض الأموال وغيرهما من الأنشطة والممارسات التي سمحت بتكوين إمبراطوريات مالية وظهور حيتان المال والفساد، وتعمق الاستقطاب بين من يملكون الثروات الطائلة، وملايين المعدمين والمهمشين. لذا يولي الحزب اهتماما مكثفا لمحاربة الفساد، وللبناء السليم للدولة على أساس المواطنة والعدالة بعيدا عن نهج المحاصصة. وهو يشارك بصورة فاعلة في الاحتجاجات الشعبية والنضالات الجماهيرية لتحقيق هذه الأهداف والمطالب.
ان حزمة السياسات هذه لا تؤدي إلى تغيير طبيعة النظام ذي التوجه الرأسمالي، وإنما توفر قدرا من الحماية وضمانات العيش الكريم لجماهير الشغيلة ولأوسع القطاعات الشعبية الضعيفة الدخل والمهمشة، ولشرائح واسعة من الفئات الوسطى التي تصنف طبقيا ضمن البرجوازية الصغيرة.
أما بشأن الأفق الاشتراكي في برنامج الحزب، فيتطلب الأمر التوقف بعمق عند شروط وممهدات الانتقال إلى الاشتراكية، وعند خصائص وطبيعة النظام الاشتراكي الذي ننشده. وقد أولى الحزب اهتماما كبيرا لدراسة أسباب انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وفي بلدان أوروبا الشرقية، كما انه يتابع التجربة الاشتراكية في الصين ونجاحاتها المتحققة بفضل تطبيق مفهوم ونظرية السوق الاشتراكي دون إغفال التعقيدات الناجمة عن الآثار السلبية لفعل آليات السوق والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية كظهور التمايزات الحادة في الدخل والثروة والتفاوت في مستويات ومعدلات النمو والتنمية مناطقيا وقطاعيا وبروز الظواهر والسلوكيات الضارة وفي مقدمتها الفساد. فإلى جانب النجاحات التي يحرزها هذا الطريق في بناء وإدارة الاقتصاد الاشتراكي، يطرح عدداً من الإشكاليات على صعيد تحقيق الانسجام والتوافق المطلوب بين بناء النظام السياسي والدولة التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني، وبين التعددية في النظام الاقتصادي وما تفرزه من تمايزات وتناقضات على صعيد المجتمع والفكر والثقافة.
وان أهم الاستنتاجات التي استخلصها الحزب من دراسة هذه التجارب، هو أن الاشتراكية لا تحقق كل أفضلياتها من دون أن يوفر النظام الاشتراكي في ظلها ديمقراطية، تتجاوز الديمقراطية البرجوازية، بأشكالها السائدة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وذلك باعتماد آليات ومنظومات فكرية وقيمية تتميز عن الديمقراطية البرجوازية بمضامينها الطبقية الصريحة، والمتجسدة في مؤسسات تشريعية وتنفيذية على مختلف المستويات، تضمن المشاركة الفعلية للشغيلة ومنتجي الثروات المادية والثقافة والفكر والعلم في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
والدرس الآخر هو عدم تزكية التجارب الماضية لأطروحة حرق مراحل التطور التاريخي، وضرورة توفير الممهدات المادية للانتقال إلى مرحلة أرقى، أي المستوى المتقدم من تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج والوعي الاجتماعي والثقافة، لا سيما في ظروف غياب القطب الاشتراكي الذي يتيح مثل هذه الإمكانية بالمساعدة والدعم اللذين يقدمهما. وقد وضعت تجارب البناء الاشتراكي التي فشلت موضع تساؤل إمكانية بناء الاشتراكية من فوق، عبر الإمساك بالسلطة السياسية، لذا لا يبدو الانتقال إلى الاشتراكية ممكنا ما لم تتوافر الشروط سالفة الذكر بالاقتران مع امتلاك السلطة السياسية.
ومن الواضح أن في ظروف العراق لا يتوفر أي من الشروط أعلاه في الوقت الراهن، وصعوبة توفره في الأفق القريب. ولا شك ان النجاح في تطبيق المشروع الوطني والمدني الديمقراطي، بمضامينه السياسية والاجتماعية – الاقتصادية والثقافية، سيساهم في تقريب هذا الأفق.

6. الثقافة الجديدة:

لنتوقف أيضا أمام بعض الصياغات الجديدة التي تضمنها النظام الداخلي، والتي ارتبطت بمجموعة من المقولات والمفاهيم، التي تعرضت الى تغيرات أو تعديلات. فإذا كانت المفاهيم تصاغ لتعبر عن حالات من الوجود التاريخي الملموس، فان صياغة أي مفهوم أو إعادة النظر فيه أو في حقل دلالته على وجه الدقة، تقتضي الإحاطة بموضوع المفهوم وبالمرحلة التاريخية، التي يتجه المفهوم الى التعبير عنها والإمساك النظري بها.
وهنا نطرح السؤال الآتي: هل بالإمكان اطلاع القرّاء على مضمون النقاشات التي دارت حول النظام الداخلي وابرز التدقيقات في هذا المجال؟

رائد فهمي:

إن أشكال وأساليب وآليات التنظيم لا بد ان تكون مواكبة للتطورات المستجدة في الظروف وفي الأحوال السياسية والإدارية للدولة، ومتفاعلة مع التغييرات في الواقع الاجتماعي – الثقافي، ولا بد أن تحسن الاستفادة من التقدم المتسارع في أدوات ووسائل الاتصال والتواصل في كلا الفضاءين الحقيقي والافتراضي، بفضل تقنيات الاتصال والمعلومات الحديثة. وان حزبنا يعمل بصورة متواصلة على فحص وتقييم نظامه الداخلي وآليات عمله التنظيمي وإعادة النظر فيها، بهدف الارتقاء بفاعليتها وتعزيز الديمقراطية داخل الحزب وتيسير وتنشيط عملية التجدد والتجديد في هيئاته القيادية على جميع المستويات، مع ضمان المواءمة والتواصل والمراكمة بين رصيد الخبرة والتجربة وتدفق الدماء الشابة في عروق وقنوات التنظيم الحزبي، لتزيده حيوية وتوثبا في نضاله اليومي متعدد الأشكال وفي توسيع وتعميق صلته بالجماهير، وبما يجسد بصورة ملموسة هوية الحزب الطبقية والوطنية.
وان المناقشات حول مسودة مشروع النظام الداخلي داخل الحزب ومن خارجه، والتي نشرت في منابر الحزب العلنية أيضا، تناولت محاور وموضوعات عديدة يمكن تلخيصها في أبرزها المتمثلة بالعناوين الآتية: تطوير آليات الدمقرطة والمشاركة والتجديد في الحياة الداخلية؛ الأخذ بعين الاعتبار التطورات في الواقع الإداري – السياسي للدولة العراقية؛ تحقيق التطوير والتحديث في أساليب وأشكال عمل الحزب داخليا وفي النشاط والتواصل مع الجماهير، بما يرفع من قدرات تنظيمات الحزب وأدائها في مجال النشاط الانتخابي من جهة، وكتنظيم سياسي ذي هوية طبقية واجتماعية متميزة، يحمل مشروعاً لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي – الاقتصادي نحو دولة مدنية ديمقراطية اتحادية، والتصدي لمختلف أشكال الاستغلال وللسياسات والمصالح التي تدفع باتجاه نشاط منفلت لقوى السوق، من شأنه تشديد قبضة الفئات والشرائح البرجوازية الطفيلية والكومبرادورية والبيروقراطية على الاقتصاد العراقي، وتعميق الاستقطاب بين فئة قليلة فاحشة الثراء وأكثرية تعاني من الفقر والعوز وضنك العيش.
وقد خلصت مناقشات المؤتمر العاشر إلى إقرار تعديلات بعضها ذو طابع جوهري؛ كالذي شمل آلية العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني، بما لا يتعارض مع أحكام قانون الأحزاب السياسية الساري المفعول اليوم، وانسجاما مع التطورات في الجوانب الإدارية – السياسية للدولة العراقية. وقد أوكل المؤتمر إلى اللجنتين المركزيتين للحزبين مهمة تنظيم آلية للعلاقة تنسجم مع هذه التطورات، وعلى أساس المشتركات المتمثلة في المصالح الطبقية والوطنية والهوية الفكرية والروح الأممية والتاريخ النضالي المشترك.
كما اقر المؤتمر مبدأ عدم تجديد انتخاب سكرتير اللجنة المركزية لأكثر من دورتين متتاليتين وتثبيت بعض آليات العمل القيادي التي تحقق مزيداً من المشاركة الجماعية في قيادة مفاصل عمل الحزب المختلفة، إلى جانب تعزيز دور لجنة الرقابة المركزية. كما تم إجراء تدقيقات في صياغات بعض مواد النظام الداخلي وتعديلات في ترتيب مواده.

7. الثقافة الجديدة:

وارتباطا بالسؤال السابق فإن من بين القضايا الجديدة التي طرحها المؤتمر وتبناها وثبتها في النظام الداخلي الجديد هو طبيعة العلاقة بين الحزبين: الشيوعي العراقي والشيوعي الكردستاني عبر تحريك آلية العلاقة التي كانت تربطهما منذ أكثر من عقدين، لتأخذ بالاعتبار التطورات الإدارية التي تشهدها البلاد وكذلك الضوابط المثبتة في قانون الأحزاب الجديد الذي صادق عليه البرلمان العراقي قبل فترة. هل يمكنكم أن توضحوا للقراء الخلفيات وراء هذا التحول في موقف الحزب من هذه القضية، وما هي دلالاته النظرية والسياسية العملية؟ وهل بالإمكان توسيع النقاش لتوضيح الموقف بشأن الصيغة الجديدة بما يتيح تجاوز الجدل المحكوم بفكرة الخنادق المتقابلة والانتقال الى التوصل لفهم المغزى الفعلي لهذا التحول؟

رائد فهمي:

ينص قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية رقم 36 لعام 2015 في المادة (4) ثالثاً على انه “لا يجوز أن ينتمي أي مواطن لأكثر من حزب أو تنظيم سياسي في آن واحد”. ونظراً لقيام كل من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني بتقديم طلب إجازة إلى دائرة الأحزاب السياسية في مفوضية الانتخابات المستقلة، فقد اقتضى تكييف النظام الداخلي للحزب مع متطلبات وشروط القانون. ولهذا السبب تم ادخال التدقيقات والتعديلات الضرورية على النظام الداخلي، علماً أن المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات ومجلس النواب على المستوى الاتحادي وعلى صعيد إقليم كردستان تشترط أن يكون الحزب مجازاً.
إن التعديل في آلية العلاقة بين الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني، كان مبعثه الأساسي تحقيق الانسجام مع ضوابط القانون. كما أخذ التعديل بعين الاعتبار التطورات الجارية والمحتملة مستقبلا في البناء الإداري – السياسي للدولة العراقية، وأعطى مزيداً من المرونة للحزبين في تحديد شكل آلية العلاقة ومفرداتها، بناءً على الأسس والمبادئ السياسية والفكرية المشتركة المحددة لهوية الحزبين، وامتداداً لمسيرة النضال الطبقي والوطني المشترك. وان دوافع التغيير هذه لا تمثل تحولا سياسيا وفكريا في مواقف الحزبين، وإنما تمثل تغييرا في الصيغ التنظيمية المعبرة عن مضمون العلاقة التي تربط بينهما، مثلما تم تثبيتها في المادة الخاصة بآلية العلاقة بين الحزبين في النظام الداخلي. وقد تم التوقف خلال المناقشات عند نقاط القوة والضعف في الآلية التي كانت معتمدة خلال السنوات الماضية، للاستفادة من الدروس والاستنتاجات المستخلصة عند قيام اللجنتين المركزيتين بوضع آلية جديدة لتنظيم العلاقة، حسب ما نص عليه النظام الداخلي. وقد تم الشروع بذلك فعلا، وتقوم اللجنتان المركزيتان حاليا بمناقشة مقترحات متكاملة بهذا الخصوص.

8. الثقافة الجديدة :

قامت هيئات الحزب العليا في المؤتمرات الوطنية، والمجالس الحزبية المركزية التي تلت انعقاد المؤتمر الوطني الخامس بإجراء تقييم لمسيرة الحزب، ومدى تطبيقه لعملية الديمقراطية والتجديد، وتشخيص المشاكل والعقبات التي تواجهها، والسبل المفضية إلى معالجتها وتجاوزها. وأشارت العديد من الوثائق الحزبية الصادرة عن الفعاليات المركزية إلى أن حصيلة التجربة خلال الفترة، التي تلت انعقاد المؤتمر الخامس ولحد الآن بيّنت أن عملية التجديد وترسيخ الديمقراطية هي عملية عسيرة ومعقدة، بسبب بعض المفاهيم النظرية المشوهة، وقوة العادة وما تركته التقاليد والممارسات السابقة من آثار يصعب تجاوزها بسهولة وبفترة زمنية قصيرة. هذا إلى جانب التأثير السلبي للظروف الموضوعية في بلادنا، وعموم الأجواء المحيطة بعمل الحزب، ومستوى التطور الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد ومستوى الوعي الاجتماعي المتدني عموما.
إن ما تحقق، على أهميته، ليس إلا خطوات أولى على طريق طويل، ومسيرة متجددة ذات متطلبات متنوعة.
و في ضوء ذلك، فان الحاجة ملحة إلى مواصلة عملية الديمقراطية والتجديد وتنشيطها وتعميقها، بالشكل الذي يرسخها ويجعلها ظاهرة ثابتة في حياة الحزب ومسيرته. وفي المقابل فان مواصلة عملية الديمقراطية والتجديد لا تنسجم مع الفوضى والعفوية، وكل ما يشيع الإرباك والجدل العقيم الذي لا يستند إلى الواقع الموضوعي وملموسياته وحاجاته الفعلية. فهذه العملية ليست تهويمات وقفزاً في المجهول، ولا سعيا الى صراعات لا أساس لها في الواقع.
يهمنا، رفيقنا العزيز (أبو رواء)، ان نسمع تعليقكم على هذه الخلاصات بمزيد من التفصيل.

رائد فهمي:

كان المؤتمر الوطني الخامس للحزب المنعقد عام 1993 قد أطلق عملية ديمقراطية وتجديد، شملت الفكر والتنظيم والممارسة، ووجدت تعبيرها في تغييرات وتعديلات أدخلت على برنامح الحزب ونظامه الداخلي، كما انعكست في خطابه السياسي وممارسته العملية.
وجاء اختيار نهج الديمقراطية والتجديد من قبل الحزب في ظرف زمني وتاريخي مفصلي بالنسبة للحركة الشيوعية والعمالية العالمية، اثر انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وفي بلدان اوروبا الشرقية، وانعكاسات وتداعيات ذلك الحدث الجسيم على الأحزاب الشيوعية التي استوحت من تجارب الاشتراكية الفعلية أو القائمة، كما كان يطلق عليها، فكرها وبرامجها وأشكال تنظيمها ومشروعها لبناء الاشتراكية في بلدانها. وقد دفعت هذه التطورات الأحزاب، إلى جانب عوامل أخرى خاصة بظروف عمل كل حزب في بلده وبأوضاعه الداخلية، إلى إجراء عملية تقييم ومراجعة شاملة لفكرها وبرامجها وبنائها التنظيمي، في ضوء الدروس التي استخلصتها من فشل التجربة الاشتراكية في هذه البلدان ومن تقييم أوضاعها الخاصة، وبالارتباط مع الآثار المترتبة على التغيير في موازين القوى العالمية، الناجم عن انهيار القطب الاشتراكي والذي كان السند والرافعة الرئيسية في النضال ضد الامبريالية والرأسمالية وأنظمتها السياسية.
وفي هذا السياق التاريخي، اختار البعض من الأحزاب الشيوعية التخلي عن هويتها الشيوعية، فغيرت أسماءها وبرامجها وأنظمتها الداخلية ومرجعياتها الفكرية وانتقلت إلى مواقع الاشتراكية الديمقراطية، وذهب بعضها إلى الارتداد عن الأفق الاشتراكي كليا، وتبنى البعض الآخر موقفا محافظاً وقرر الإبقاء على وضعه، معتبرا ما حدث في الإتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية مؤامرة دبرتها الدول الامبريالية وأجهزة مخابراتها، وتواطؤ أو خيانة بعض قيادات الأحزاب والدولة في الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الأخرى. وبالتالي ليس ثمة ما يدعو إلى إجراء تعديلات أو تغييرات في برامجها وأنظمتها الداخلية، أو أي تجديد في المجال النظري والفكري. أما الخيار الثالث الذي تبناه عدد من الأحزاب الشيوعية، ومنها حزبنا – في مؤتمره الوطني الخامس سابق الذكر، فهو الحفاظ على هوية الحزب الفكرية والسياسية الشيوعية مع تجديدها، بالاقتران مع إطلاق عملية توسيع وتعميق الديمقراطية في بنائه التنظيمي.
ولم يكن هذا الخيار بسيطاً ولم يأت من دون مناقشات طويلة وواسعة انعكست في منابر الحزب الإعلامية المختلفة، وطرحت خلالها جميع الأفكار والبدائل بحرية، ومن بينها تغيير اسم الحزب ومرجعيته الفكرية وبرنامجه ونظامه الداخلي، وأخذا بالاعتبار كذلك الظروف بالغة الصعوبة التي كان يمر بها الحزب، نتيجة اضطرار معظم كوادره في حركة الأنصار إلى مغادرة كردستان والتوزع على المنافي في مختلف أرجاء العالم، إلى جانب البلبلة الفكرية والإحباطات المتولدة عن التراجعات والانكسارات وتضبب رؤية اتجاهات التطور مستقبلا، اثر الانهيارات التي شهدها المعسكر الاشتراكي والضربات القاسية التي تلقاها الحزب.
لقد شمل التجديد المجال الفكري؛ ففيما أكد الحزب اعتماده الفكر الماركسي مرشدا في كفاحه وفي مجمل سياسته وتنظيمه ونشاطه، فانه حرص على أن يكون التعامل مع هذا الفكر منسجما مع جوهره الثوري والعلمي، الذي يواكب المستجدات في حركة التطور والتغيير في المجتمعات وفي مختلف مجالات الفكر والعلم والفلسفة والتكنولوجيا، إلى جانب التطورات البيئية، بعيداً عن القوالب الجامدة والدوغمائية. لذا أدرج ضمن مرجعيته الفكرية الأساسية التراث الاشتراكي عامة، وكل ما هو تقدمي في إرث وادي الرافدين والحضارة العربية الإسلامية. وفي المؤتمر الوطني العاشر أضاف الى ذلك دروس التجارب الاشتراكية. ولا شك أن الدوغمائية والتكلس النظري كانا من العوامل المهمة المسببة لفشل التجربة الاشتراكية السوفييتية، والتراجع في دور وتأثير الأحزاب الشيوعية في العقود الأخيرة الماضية. ومن المفيد هنا توضيح أن المقصود بالفكر الماركسي، هو منهجه المادي الجدلي، وجانبه النظري في الفلسفة، ونقد النظام الرأسمالي، وقوانين تطور المجتمعات والاقتصاد السياسي.
وعلى الصعيد السياسي واستنادا إلى الدروس المستخلصة، شدد الحزب على البعد الديمقراطي، سياسياً واجتماعيا، بمنظومة آلياته الانتخابية وبناء الدولة ومؤسساتها، والقيم المتعلقة بحرية التعبير والتنظيم وعدم التمييز، وحقوق المواطنة واحترام حقوق الإنسان والتنوع والتعددية وتداول السلطة، ونبذ فكر ونهج الحزب الواحد الشمولي في الدولة والمجتمع، إلى جانب تأكيد البعد الاجتماعي للديمقراطي المتمثل في توفير ضمانات العيش الكريم، وكما أسلفنا يشكل البعد الديمقراطي سمة رئيسة في الأفق الاشتراكي الذي يعمل الحزب من أجله.
وعلى صعيد التنظيم، تبنى الحزب في مؤتمراته المتتالية مجموعة تعديلات على نظامه الداخلي، عززت الأسس والآليات الديمقراطية في حياته الداخلية، حيث ألغى بعض المستويات والحلقات التنظيمية الوسطية بما يقرب المسافة بين الهيئات القيادية والهيئات القاعدية، واعتمد مبدأ انتخاب جميع الهيئات القيادية بالانتخاب السري وبالأغلبية المطلقة، وفسح مجالات أرحب للنقاش وحرية الآراء وتنوع الاجتهادات، مع احترام وحدة الحزب السياسية والتنظيمية وفي إطار وحدة المنطلقات الفكرية. وفي ضوء ما شاب بعض تطبيقات مبدأ المركزية الديمقراطية من إخلال بشقه الديمقراطي وتغليب للجانب المركزي، شددت التعديلات على ضمان النقاش الحر لكل الرفاق والرفيقات عند اتخاذ القرارات، وعلى حق الأقلية في الاحتفاظ برأيها والتعبير عنه في منابر الحزب الإعلامية، مع التزامها بتنفيذ القرارات التي تحظى بالأغلبية بما يضمن وحدة الإرادة والعمل.
ولم تتبنّ مؤتمرات الحزب الاطروحات الداعية إلى تعدد المنابر الفكرية داخله، لأنها لا تضمن وحدة العمل وبالتالي تنعكس سلبا على فاعليته النضالية، فضلا عن تأثيرات أخرى من شأنها تغيير طبيعة الحزب.
وكان موضوع تجدد وتجديد القيادات الحزبية على جميع المستويات يحظى بقسط وافر من المناقشة في جميع المؤتمرات الوطنية للحزب منذ المؤتمر الوطني الخامس. وتوزعت المواقف ما بين اتجاه يميل إلى المحافظة، اتخذ موقفا معارضا أو متحفظا عند طرح مبدأ تخصيص كوتا للشباب والنساء في الهيئات القيادية، وتقديم الشباب إلى مواقع المسؤولية القيادية، وبين موقف يدعو إلى اتخاذ خطوات اكبر بمضاعفة نسبة الكوتا للنساء والشباب، والإسراع في تقديم الشباب إلى مواقع القيادة وتحديد عدد دورات انتخاب سكرتير الحزب واللجنة المركزية والمكتب السياسي. ورأي ثالث مساند لمبدأ الكوتا ولزيادة نسبتها بصورة متدرجة تتناسب مع الطاقات والقدرات الشبابية المؤهلة المتاحة لإشغالها، وله موقف متحفظ تجاه تبني مبدأ تحديد عدد الدورات، لأنه يفترض توفر كوادر مؤهلة بأعداد كبيرة نسبيا وفي مختلف مفاصل التنظيم الحزبي، وذلك ما يجري العمل بشكل حثيث لتوفيره من خلال الدورات الحزبية المتعددة، والتوسع في زج الرفاق في مختلف حلقات النشاط القيادي، وتطوير وتوسيع عملية المشاركة في صنع القرارات ورسم السياسة، وغيرها من الخطوات والإجراءات الهادفة إلى تمكين أعداد متزايدة من الكوادر الشابة للنهوض بأعباء العمل القيادي.
وفي المؤتمر الوطني العاشر تحققت نقلة مهمة على صعيد التجديد في القيادة، وتم ذلك بفضل الجهود التي بذلت طوال السنوات الماضية لتمكين الكوادر الشابة فكريا وسياسيا وعلى صعيد الخبرة والتجربة النضالية. واقر المؤتمر مبدأ عدم انتخاب سكرتير الحزب لأكثر من دورتين متتاليتين.
الغرض من هذا الاستعراض هو تأشير الخطوات المهمة التي اتخذها الحزب على صعيد التجديد فكريا وتنظيميا، وتعميق الديمقراطية الداخلية.
ورغم أهمية ما تحقق والشوط الكبير الذي تم قطعه على هذا الطريق، بحيث يمكن أن نقول اليوم بثقة أن الحزب الشيوعي العراقي هو أكثر الأحزاب في بلادنا ديمقراطية وشفافية في آليات عمله الداخلية وفي تشكيل واختيار هيئاته القيادية، فان الديمقراطية والتجديد لا يزالان في الوقت نفسه يواجهان معوقات، بفعل قوة العادة وتقاليد العمل التي لم تعد مناسبة، وبسبب مواقف فكرية واجتماعية غير صائبة. كما أن انتقال الحزب إلى العمل العلني بعد عقود من العمل السري ومن القمع والملاحقة في ظل الدكتاتورية، وضع نسبة مهمة من الرفاق والرفيقات أمام ظروف عمل جديدة، تتطلب اعتماد أساليب وطرق عمل مختلفة عن تلك التي خبروها في الماضي، ما يحول دون الاستفادة الكاملة للحزب من الفرص التي يتيحها العمل العلني، وبشكل خاص حين يتعلق الأمر بالانفتاح في مجال العمل الجماهيري والصلة بالناس. ولا يزال عدد غير قليل من مفاصل عمله وهيئاته يواجه ترددا في التعامل مع الشباب ومع النساء، وفي إيكال مهمات ومسؤوليات ذات طبيعة قيادية إليهم.
ومن التحديات المهمة التي تواجه الحزب، الارتقاء بعمل وأداء هيئاته وكوادره الوسطية، لأنها تلعب دورا مهماً في نقل ونشر سياسة الحزب، وفي تطوير عمل الخلايا وتنظيمات الحزب الأساسية ذات الصلة المباشرة بالجماهير، وعليها يتوقف إلى حد كبير انتقال عملية التجديد والممارسة الديمقراطية وأساليب القيادة الجماعية ومشاركة الرفاق في إدارة شؤون الحزب، إلى كل الحلقات والمفاصل التنظيمية، وتحولها إلى ممارسة يومية تسهم في إطلاق طاقات أعضاء الحزب، وفي الترجمة العملية لسياسة الحزب من خلال الصلة بالناس.
إن سير عملية الديمقراطية والتجديد خلال السنوات الماضية لم يجر بوتيرة واحدة. فقد صادفتها فترات توقف أو نكوص ارتباطا بالظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وفترات أخرى من التقدم والتسارع. لكنها لم تتوقف، وثمة إرادة ثابتة في أن تتواصل كعملية مستمرة وضرورية، طالما الواقع ذاته في تغير مستمر، والظروف المحيطة بالحزب وعمله متبدلة، وارتباطا بما تفرضه التغيرات السريعة في التطورات العلمية الحديثة وفي وسائل الاتصال الجماهيري وما تتيحه من إمكانيات لنسج صلات وعلاقات مع جمهور أوسع والتواصل معه مباشرة. لذا يجري العمل بصورة مكثفة لتذليل كل المعوقات والكوابح أمام عملية الديمقراطية والتجديد على مختلف المستويات.

9. الثقافة الجديدة:

بلغت نسبة التجديد في قيادة الحزب ما يقارب الـ 42%، اضافة الى صعود مجموعة من الشباب ممن لا تتجاوز اعمارهم سن الثلاثين، وسؤالنا المحدد هنا ما هي قيمة هذا التجديد وكيف سيقوم الحزب في توظيف هذا الرأسمال البشري المتدفق حماسا والحامل للأفكار الجديدة؟ وهل لديكم خطة محددة في هذا المجال؟

رائد فهمي:

إن التجديد الذي تم في قيادة الحزب، ببعديه الكمي والنوعي، يمثل بكل المقاييس نقلة مهمة في التركيبة القيادية، وليس من الناحية العمرية حصراً. فالرفاق الشبان والشابات الذين تم انتخابهم إلى اللجنة المركزية، يمثلون أيضاً إضافات نوعية سيكون لها دور مؤثر وبصمة في تطور وتوسع عمل الحزب اللاحق. ذلك ان لهم جميعا سجلات نجاح في ميادين النشاط الجماهيري، وفي مجالات العمل الحزبي التنظيمية والفكرية والإعلامية والتخصصية. كما ان معظمهم ينشطون في اطر اتحادات ومنظمات ديمقراطية، ومنظمات مجتمع مدني. وإلى جانب الخبرات آنفة الذكر، فان لهؤلاء الرفيقات والرفاق الشباب تكوينا فكريا وسياسيا متينا، عززته الدورات الحزبية المتعددة التي شاركوا فيها وتخرجوا منها بتفوق. والعديد منهم يلعبون دورا أساسيا في المختصة المسؤولة عن العمل الفكري في الحزب. فالجواب على الشق الأول من السؤال هو: نعم، هؤلاء الرفيقات والرفاق يمثلون قيمة مضافة مهمة للعمل القيادي للحزب.
طبيعي إن إحراز أي نجاح أو تقدم ذي شأن على طريق التغيير الذي ينص عليه شعار المؤتمر الوطني العاشر، والذي كان الخيط الناظم لجميع أعمال المؤتمر ولمضامين الوثائق السياسية الصادرة عنه، يشترط التعبئة الأشمل لجميع الطاقات النضالية والسياسية والفكرية في الحزب والتي يمتلكها رفاقه وأصدقاؤه، وبصورة أخص كوادره القيادية على جميع المستويات. ويجد هذا ترجمته، على صعيد اللجنة المركزية، في الارتقاء بعملها وأدائها وانجازها عبر التطبيق الحيوي لمبدأ القيادة الجماعية، وتولي جميع أعضائها مهمات قيادية محددة في مجال أو أكثر من مجالات العمل الحزبي، وبصورة مبكرة، مع تقديم الدعم والإسناد والتمكين الضروري للرفاق الجدد، لينهضوا بهذه المهمات على أكمل وجه.
وبفضل الخبرات والمؤهلات والمهارات الإضافية التي ضُمت إلى قيادة الحزب في المؤتمر الوطني العاشر، بات الحزب قادراً على أن يرتقي بنشاطه وأدائه في عدد من المجالات المهمة، في مقدمتها العمل الجماهيري والحراك الشعبي والنشاط الإعلامي بمفاصله وأشكاله المتعددة، ولا سيما في فضاء شبكات التواصل الاجتماعي. وسيكون للرفاق القياديين الشباب دور معول عليه في تطوير وتوسيع عمل الحزب بين الشباب، كما سيكون للرفيقات القياديات دور محوري في منح زخم أكبر لعمل الحزب ونشر الوعي السياسي والثقافي في صفوف النساء، وتحفيزهن على المطالبة بحقوقهن وإزالة كل مظاهر التمييز والقهر الذي يتعرضن له وزيادة مشاركتهن في الحياة العامة وفي تولي المسؤوليات العليا في الدولة.

10. الثقافة الجديدة:

يمكن القول أن البلاد تواجه في هذه المرحلة الصاخبة مشاريع طموحة ومتنوعة ومتضاربة لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وتكييفه مع ما يعنيه ذلك من حراك اجتماعي، ومن تحوّلات طبقية ومن صعود فئات على حساب أخرى، تكون أساسا لنشوء رأسمالية وحشية ونهابة. هذا إضافة إلى أن الديناميكيات الجديدة التي نشأت بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 9/4/2003 قد أحدثت هزة قوية في التناسبات المجتمعية، وبرزت تناقضات جديدة حول السلطة والثروة وبشأن الدولة والصراع حول شكلها ومضمونها، بين بنائها على أساس فيدرالي، وبين النزعة المركزية المفرطة، والدعوات للتفكيك وإعادة صياغتها على أسس طائفية – اثنية – قومية – مناطقية. وبالمقابل يمكن القول إن مستقبل التغيير في بلادنا سيتوقف على النجاح في بلورة وعي جديد مختلف في تصوره للغايات الاجتماعية والقيم الأساسية والأولويات التاريخية. كما أن مستقبل الانتقال الديمقراطي لمجتمعنا يقترن بنشاط القوى المدنية والديمقراطية القادرة على إنتاج وترسيخ وعي جديد، وثقافة سياسية ديمقراطية بما يمكن من تجاوز الثقافة الشمولية والممارسات الشمولية. هل لكم رفيقنا العزيز (أبو رواء) من تعليق على هذه الموضوعات؟

رائد فهمي:

لا شك أن الوعي الاجتماعي يشكل ميدان منافسة وصراع شديدين بين الثقافة والفكر التنويري والحداثي المدني الديمقراطي، المنفتح على الثقافات الأخرى والمتطلع إلى المستقبل وإلى مواكبة التقدم المتسارع في الفكر والعلم والتكنولوجيا، والساعي إلى إشاعة ثقافة احترام التنوع الثقافي، وإلى النأي عن تسييس الهوية الثقافية وفصل المقدس عن السياسة وإعلاء شأن المواطنة والهوية الوطنية الجامعة، ونشر الديمقراطية كمنظومة سياسية فكرية ثقافية وقواعد بناء دولة وإدارتها، وإلى النظر للماضي والتراث بعين الحاضر وليس النظر إلى الحاضر بعين الماضي.. بين ذلك وبين ثقافة مهيمنة مشدودة إلى الماضي، تكرس الانغلاق على الهويات الأساسية وتغيب العقل وتختزل الدين إلى ممارسات طقوسية، وتقزم الديمقراطية إلى آليات تسمح للأكثرية ببسط سلطتها وتهميش الأقلية في ظل نظام الطائفية السياسية. ولإدامة هذه الهيمنة الثقافية توظف عشرات الفضائيات والقنوات والشبكات الإعلامية، إلى جانب دور آلاف بيوت العبادة والمنتديات، ودور المناهج الدراسية بمختلف مراحلها.
فالقوى المدنية الديمقراطية تخوض صراعاً غير متكافئ من حيث الموارد والوسائل، لكسب العقول لمشروعها السياسي والثقافي. ولكن رغم الإمكانيات الشحيحة والظروف الضاغطة، يزداد الإنتاج الثقافي والإبداعي ذو المضامين المدنية من قصة وشعر ومسرح ومعارض فنية ومهرجانات للقراءة يقيمها الشباب، فيما تتكاثر المبادرات والحملات دفاعا عن حرية التعبير وحقوق المرأة ومن اجل المواطنة والسلم الأهلي وضد الطائفية والتمييز وضد انتهاكات حقوق الإنسان.
ومع انطلاق الحراك الشعبي منذ سنة ونصف السنة ورفعه شعارات تدعو إلى الدولة المدنية الديمقراطية، تشهد بلادنا قبولا متزايد الاتساع للدولة المدنية، وللخطاب المدني ولرموزه السياسية والاجتماعية والثقافية. ولم يتحقق ذلك بفضل نشاط القوى المدنية فقط، بل ايضا بفضل فشل حكم قوى الطائفية السياسية في مختلف المجالات، وخذلانها جمهورها والمكونات التي تدعي تمثيلها، وتورطها في الفساد ومراكمتها ثروات طائلة مقابل انزلاق شرائح متزايدة إلى حافة الفقر وما دونها.
وفي هذه اللوحة المعقدة لواقعنا السياسي والاجتماعي – الثقافي، نجد حراكا سياسيا واجتماعيا يعضد الاستنتاج بان المشروع المدني الديمقراطي يمتلك أفقا واعداً.

السيرة الذاتية لسكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الرفيق رائد جاهد فهمي (ابو رواء(

– ولادة بغداد عام 1950

اترك تعليقاً