الرئيسية / ثقافة وادب / “أنــا” العِـراقُ، لسانـي قلبــهُ، ودمي فراتُـــهُ، وكياني منهُ، أشطــارُ / لمحات من الـ “أنــا” الجواهرية … وحولها

“أنــا” العِـراقُ، لسانـي قلبــهُ، ودمي فراتُـــهُ، وكياني منهُ، أشطــارُ / لمحات من الـ “أنــا” الجواهرية … وحولها

السيمر / الثلاثاء 14 . 03 . 2017

رواء الجصاني

.. وتتمثل الـ”أنــا” الجواهرية في وجوه ومواقع عديدة، أذ استعارها الشاعر الخالد في مناسبات كانت لها ضروريات حيناً، أو دلالات رمزية احايين اخرى، وهي بعيدة عن تلك الـ”أنـا” النرجسية السافرة، في التعالي وحب النفس، والغرور .
وحديثنا في هذه الوقفات، يركزعلى تلكم الـ”أنــا” الجواهرية المباشرة، القصدية، تحديداً بمعنى عدم المرور، أو التوقف عند شبيهات تلك الكلمة في المعاني والاستخدامات العربية المتنوعة، مثل “ياء” التملك على سبيل المثال لا الحصر:
“عندي” وداعُ حمامةٍ، فأذا أستثرت، فجوع نمرِ(1)
أو مثــل “ألف” و “تاء” المتكلم في افعال الماضي والحاضر، كما في البيت التالي:
أقول مللتها، وأعودُ شوقاً، كأني ما عشقتُ ولا مللتُ (2)
وغيرذلك من المشابهات ذوات المعنى نفسه في اللغة العربية العامرة، التي كانت طوع فم وقلم الجواهري في منجزه الثري. ومن دون ذلك التركيز والتخصيص، سيعني اننا سنؤلف كتاباً، شاملا جامعاً عما احتواه ديوان الشاعر الخالد، الذي يزيد عن الخمسة والعشرين الف بيتا، وليس ذلك بيّت قصيدنا في ما نحن عاكفون عليه بهذه الخلاصات والمؤشرات .
لقد بانت “أنــا” الجواهرية المباشرة، الطليقة، التي نعنيها في عشرات الأبيات، والقصائد، مرة أو مرات، وقد نتابع اجمالي ذلك في قراءات وتفصيلات في فترة قادمة.. ولكن سنتوقف في هذا المبحث عند اختيارات وحسب، كما سبق القول، وعند صيغ، ودلالات واستخدامات محددة الزمان والمكان والمعنى والمغزى، مستدلين منها مواقف من جهة، وخوضاً في بعض النباهة، والأنتباهات الجواهرية، ورؤاه ومقاصده من جهة اخرى ..
ونبدأ في “أنـا” وجدانيةً- وصفية، طفحت في قصيدة “بريد الغربة” الجواهرية عام 1956 في رسالة الى بعض اهل بيته، وأخدانه، في العراق، فيقول:
لقد اسرى بي الأجلُ، وطول مسيرةٍ، مللُ…
سلاما ايها الاحبابُ، “أني” شارب ثمــــلُ
كما نشير في السياق، علّنا نضيف دلائل أخرى، الى واحد من ابياته، في مطولته الوجدانية، الفريدة، ونعني بها ” يا نديمي” مطالع الستينات الماضية:
“أنــا” بين الطّغاةِ والطّغَمِ، شـامخٌ فوق قِمّـةِ الهـرَمِ
فإذا حانَ موعـدُ الأزَم، وارتطـامِ الجمـوعِ بالنظُمِ
خلتُني عند سَـيلها العرِم، قطرةً لا مستْ شفاهَ ظَمي
أما في الوطنيات، فلعل الابرز من استخدامات “أنـا” الجواهرية، ما يحمله عنوان هذا الموضوع، ونعيده، لمزيد من لفت الأنتباه :
“أنــا” العِـراقُ، لسانـي قلبــهُ، ودمي فراتُـــهُ، وكياني منهُ، أشطــارُ
وهو من قصيدته الدمشقية عام 1957 “في احياء الذكرى الثالثة لمصرع الشهيد العقيد عدنان المالكي”.. ولا نظن ثمة حاجة كبيرة لدلالات ذلك الوصف، وإيحاءاته، وموقع الـ”أنـا” فيه … وفي الوطنيات ايضا، وفي احدى مواجهات الجواهري، وتحدياته المديدة – وما أكثرها- طوال عقود، نتوقف لنتذكر معا ذلكم البيت الشهير:
“أنـا” حتفهم الجُ البيوتَ عليهمُ، أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
وهو – اي البيت اعلاه- من قصيدة هاشم الوتري عام 1949 وقد أشاع فيه – مع سبق الاصرار: استعداده لخوض المعركة – وقل المعارك ولا تخف- في التصدي لاقطاب الطغمة، بل والطغم، الحاكمة. وقد استبقه بمقدمات تفصيلية، وأوصاف، وتقييم حال، كما تبعه بخلاصات وتوجهات ..
وأذا ما شئنا – مثلاً- الاشارة الى “أنـا” التفاخر الجواهرية، وما أكثرها ايضا، فلنقف برويةٍ وإن عابرة عند بيته في قصيدة ” جناية الاماني” عام 1921 وهو لم يزل في يافع عطائه، ونبوغه، فضلاً عن عمره :
كلما حُدثتُ عن نجمٍ بدا، حدثتني النفسُ ان ذاك “أنــا”
ثم هاكم مثال آخر عما نحن بصدده، ونقصد بيته في قصيدة “خلفت غاشية الخنوع ” الدمشقية عام 1956 منوهاً ليس آلا، لبعض صفات وسمات شخصية، وببهاء وشموخ – ولربما كي يفوت الفرصة على من يظنه غير عالم، أو عارف بالتاريخ، أو يتناسى ذلك بقصدية لئيمة أو حقود:
هذا “انـا” عظمُ الضحية ريشتي، أبداً، ولَفحُ دمائها أضوائي”
وفي محور آخر نتوقف عند استخدام الجواهري لـ”أنـاه” في صورة المقايسة، ووصف الذات، تمهيدا لفكرة ومرامٍ تالية، كما هي الحال في احد مقاطع ميميته ” قلبي لكردستان” عام 1963 .. حين راح يهدر لكي ينطلقُ ويجول في رحاب الحديث عن اوضاع سياسية، والتوثيق لها:
” أنـا” صورةُ الالمِ الذبيح أصوغه، كلماً عن القلبِ الجريح يُترجمُ ”
وكذلك تأتي الحال متطابقة، أو متشابهة، حين يقول في احد ابيات داليته البيروتية، خلال مناسبة تكريم بشارة الخورى عام 1961 مخاطبا المحتفى به، ليلي ذلك ما ابتغاه – الجواهري- من أبيات قصيد خالها، أو أرادها في قصيدته المعنية :
هل صكّ سمعك “أنني” من رافديّ، بلا نصيبِ
“أنـا” “عروة الورديّ” رمزُ مرؤةِ العرب العريبِ
في كربةٍ و”أنـا” الفتى الممراحُ، فرّاجَ الكروبِ …
ولربما، وبهدف الاستدلال الأزيد، ينفع ان نشير في هذا المحور الى بيته في قصيدة “هلموا وانظروا” المنظومة عام 1927:
“أنـا” الصبُ الذي ملكَ القوافي، ومثلي تحبسونَ عن البيانِ
وقبل أن نسترسل فنزيد، لا بد من التنويه الواجب على ما ندعي، الى ان هناك اكثر من تداخل وتشابك لا يمكن الفصل بينهما بسهولة في استخدامات الجواهري واستعاراته للتعابير والكلمات والموحيات التي يريد، إذ قد تبدو تلك الـ” أنـا” التي نتابعها في قصائد الشاعر الخالد، معبّرةً عن ذاتوية في مكان، ولكنها تأتي في سياقات مترابطة، مداخل لوطنيات أو مواجهات، أو افتخار وتباهٍ، بل وحتى كلها في آن واحد، احياناً.. وفي أنموذج على ذلك، نشير الى بيته التالي، الذي استهل به مسارات قصيدته، ليقتحم به وصف احداث، وايقاظ مشاعر، وإلهاب احاسيس، وتثوير:
” أنــا” في عزٍ هنا، غير في قلبي ينـزّ جرح الشريدِ (4)
وفي اعلان بعض فلسفته، ذلكم هو الجواهري يستدعي “أناه” ذات الصلة مشاعة في قوله، ضمن ابيات قصيدته ” خلفت غاشية الخنوع” سابقة الذكر:
” أنـا” لا ارى العصماء غير عقيدةٍ، منسابةٍ في فكرة عصماءِ
أو مثل قوله، وهو في عــزّ شبابه – ولنقل فتوته حتى – في قصيدته “شكوى وآمال” عام 1921 حين راح يقول بكل ثقـة بالنفس:
و”أني” وأن كنتُ القليلَ حماته، فلي مبدأ عنه احامي، وأدفعُ
ولو “انني” أعجلتُ، خيفتْ بوادري، ولكن صبرَ الحرّ، للحرّ انفعُ
اما عن غزلياته فهناك العديد من الـ”أنـا” الجواهرية المباشرة، تتوالى، ومنها، حين لاحق واحدة من جميلات التشيك – وما أكثرهن!- فكتب لها، وعنها عام 1961:
حسناء رجلك في الركابَ، ويداكِ تعبثُ بالكتابِ
و”أنـا” الظمئُ الى شرابك، كان من ريقي شرابي
وكذلك بيته في قصيدة “عريانة” عام 1932 التي طفحت الجرأة فيها بالغةً، ليس عهداك وحسب، بل ولربما حتى في مقاييس حاضرنا اليوم، كما نزعم، ونصه:
أنتِ تدرين “أنني” ذو لبانه، الهوى يستثيرُ فيّ المَجانه
وفي وصف الذات، ثمة عديد آخر من “أنـا” الجواهرية، وفي حالات، وتنوعات مختلفة.. فها هو – مثلاُ- يصف نفسه في احد ابيات قصديته “جربيني” المنظومة عام ..1929 وكذلك البيت اللاحق، في قصيدته “انتم فكرتي” ببراغ عام 1961 :
“أنـا” لي في الحياة طبع رقيق، يتنافى ولون وجهي الحزينِ
“أنـا” زرعُ البلوى وهذا حَصيدي، ونَتاجُ الأسى وهذا وليدي

ومن جملة استخدامات الجواهري لـ” أنـاه” ما أعلنه عن مسؤوليته كشاعر، ومنذ بدايات انطلاقته، في النظم والنشر، كمثل ما جاء في قصيدته “إبن الشام” عام 1921:
“أنـا” ما بكيت الشعر ذلّ، وانما، أبكي الشعور يُباع في الأسواقِ
كما تتكرر الحال ذاتها في واحد من ابيات قصيدته الموسومة” الوحدة العربية الممزقة” عام 1922 حين راح قائلاً:
“أنـا” شاعر يبقي الوفاق موحدً، بين الشعوب سبيله الارشادُ
واضافة لكل ما سبق، للجواهري ايضا اكثر من مناجاة، ومناغاة مع النفس، كان لابد أن تفيض الـ”أنـا” فيها لتعبر حيناً عن الشكوى والهموم النفسية، او الهضيمة من تجاوزات غير الكاملين، والحاسدين، ولعل ما يفيد هنا ان نختار من تلكم الحال، فننقلُ من بانوراما ” ايها الارق” المنظومة مقاطعها اوائل الستينات:
“أنـا” عندي من الاسى جبلُ، يتمشى معي وينتقلُ
أهِ يا أحبولة الفكرِ، كم هفا طيرٌ ولم يطرِ
كما نجتزئ، وفي ذات السياق، أو المحور الذي قصدناه، ما نظمه في براغ عام 1973 شاكياً الاغتراب والوحدة الرهيبة، في قصيدته ” خلّي ركابك”:
قَسَماً بِعَيْنَيْكِ اللتينِ استُودِعا، سرّ الحياةِ، وحَيْرة الألبابِ
نحن السبايا اربعُ في غربة، “أنـا” والهوى ويدي وكأسُ شرابي
ولا بد من التأشير في سياق بحثنا – توثيقنا هذا، الى ان ثمة مشتركات تقليدية سائدة عند الشعراء اجمعين، وهم رسل الاحاسيس وفيّاضو المشاعر، حين يستخدمون الـ”أنـا” وحتى المضخمة منها، للتعبير عما يكنون، أو يحلمون به ، أو يؤشرون له… ولكن حسبنا في التوقف عند الـ”أنـا” الجواهرية: تنوعها وتشابكها بين الخاص والعام، بين الانطلاقة الذاتية، بهدف التعبير عن شؤون شاملة .كما ينبغي القول ايضا – بزعمنا على الأقل: أن مكانة الجواهري التي تقلدها، رائدا ومنورا: اجتماعيا ووطنيا وانسانيا، لها دوافعها ورسوخها، كما مقوماتها، الأكثر، ولربما لا يخرج عن ألاجماع بهذا الشأن الا عدة، وحسب .
اخيرا، وعلى مشابهات خواتمنا في متابعات وتأرخات سابقة عديدة، نقول أن ديوان الجواهري الخالد يحفل بالمزيد والمزيد من الامثلة والمشابهات التي تطرقنا اليها في السابق من السطور، وكم نتمنى ان يسعى المجدّون للتبحّر الاوسع، والانفع، ولهم الفضل …
————————————————–
احـــــالات وهوامـــــش:
* ثمة مقال متميز، وذو صلة، للاستاذ د. ثائر العذاري، منشور على موقع ( الحوار المتمدن) عام 2007 وددنا الاشارة اليه لمزيد من الأستفادة، والإفادة .
* اقتصرنا – في الأغلب – على اختيار بيت واحد للأستدلال، ولا شك بأن العودة لما يسبقه، أو يليه من ابيات، يوضح الصورة / الحالة المقصودة، بجلاء أوسع .
(1) من قصيدة ( آليّــتُ) عام 1975 المنشورة في الديوان العامر .
(2) من قصيدة ” أقول مللتها .. وأعود!” المنشورة عام 1972 .
(3) من قصيدة “انتم فكرتي” براغ – 1961.

اترك تعليقاً