السيمر / الأربعاء 10 . 05 . 2017
صالح الطائي
لم يصل العالم المتمدن إلى ما هو عليه اليوم إلا بعد أن أخرج نفسه عنوة من أجواء الموروث الدنيوي الدموي المتوحش المتهالك، والمورث الديني الاستغلالي الجشع، والبدء ببناء قواعد انطلاق جديدة نحو الأفق الأرحب في الكون، فهم مع احترامهم لمواريثهم على بساطتها، حولوها إلى إيقونة مكانها المتاحف لا العقول، على خلاف ما المسلمون عليه، فمشكلة المسلمين الكبرى أنهم يعرفون تمام المعرفة أن في صفحات موروثهم الكثير من الغث والسقط والكذب والتدليس والخداع والتعنصر والإسرائيليات، ولكنهم تمسكوا به ورفضوا الخروج من ربقته، والأنكى من ذلك والأمَّر أنهم بدل ذلك قدسوا المواريث بشكل مخيف ومرعب، فعظَّموها، وعصموها من الزلل والخطأ، وأعطوها من القوة والتأثير مما لم يكن فيها من قبل، فعادت حية فاعلة متحكمة في قراراتهم، وتحولت إلى بوصلة تحدد اتجاهاتهم، وصارت المرشد الذي يصوغون وفقا لمؤشراته أحكامهم وأحلامهم وعباداتهم وعقائدهم وعلاقاتهم مع الآخر مسلما كان أم من أتباع الأديان الأخرى.
وأنا هنا لا أدعو إلى رفض الموروث برمته، فموروثنا يرتدي أكثر من ثوب، وله أكثر من لون وشكل وكيان، بعضه لم يعد صالحا بعد وفاة النبي(ص) مباشرة، وبعضه انتهت صلاحيته في القرون الإسلامية الأولى، وبعضه يمثل حالة فردية لا تعميم فيها، وبعضه مرن قابل للتطويع وإعادة الصياغة تبعا للتبدلات الحضارية والإنسانية والمجتمعية، وبعضه أضطررنا مجبرين على التنازل عنه مثل موضوع الرق
إن موروثنا من حيث الكلية هو الوعاء الذي حفظ تاريخنا وأمجادنا وعقائدنا وسننا وطبائعنا وقصص أجدادنا وأخبار أسلافنا بأعرابيتهم وبدويتهم، وهمجيتهم وجاهليتهم، بتحضرهم وتمدنهم، بشركهم وإسلامهم، على مدى أربعة عشر قرنا، وفي القرن الحادي والعشرين لابد وأنه أصبح بحاجة ماسة إلى إجراء تعديلات وإصلاحات وعمليات ترميم وغربلة وانتقاء واختيار ومفاضلة وترجيح، فالإنسانية خرجت من مرحلة بدويتها منذ زمن طويل، ولم تعد تستسيغ سماء قصصها الخرقاء، فلماذا نبقى متمسكين ببدويتنا، تحدونا الروح الأعرابية الغليظة؟ ونرفض نعيم التمدن. لماذا لا نتنازل عن مشروع جاهليتنا الخالد؟ وإلى متى تبقى أحاديث الأسلاف تتحكم بقراراتنا ومشاريعنا؟
من هنا أتمنى مخلصا أن يعاد النظر في كثير من تلك المواريث، وأن نُخضعها إلى موازين العقل والعلم، ممسكين بأيدينا مشارط الحق والإنصاف، وأن نعيد قراءتها وفق منهجية عقلائية حضارية محايدة راسخة. أن نزيل عنها درن السنين والنسيان والتصحيف والتحريف والتحزب والطائفية والعصبية القبلية والتوجهات السياسية والعنصرية. أن نعيدها نقية كما كانت، دون أن نخضع لسطوة من جعلناهم أربابا، وهم أقل من درجة العبيد. أن نحكِّم عقولنا وعلومنا لا أهوائنا ورغباتنا. فمما لا خلاف فيه أن الجل الأعظم من مواريثنا، وصلت إلينا عن طريق أشخاص مؤتمنين مخلصين، وعن طريق آخرين إما أن يكونوا قد نصَّبوا أنفسهم قيمين عليها بدون أذن من أحد، أو أن السلطان وحاشيته هم الذين عينوهم موظفين رسميين ليوصلوها إلينا، أو أن رجال الجماعات والفرق الإسلامية من الأشاعرة والمعتزلة والقدرية والجبرية والجهمية، هم الذين روجوا لها ونشروها، أو أن المدسوسين والكذابين والزنادقة وأعداء الأمة؛ هم الذين أدخلوها في الموروث. وأمام كل هذه العناصر الفاعلة كان دور الدين شبه معطل ومحدود التأثير جدا، وبالتالي أضاف كل واحد من هؤلاء رؤاه ومعتقداته، فاجتمعت تلك الرؤى، وكونت الرأي العام بوجهه السياسي والدنيوي المكفهر، أما وجه الدين المشرق فقد غطاه دخان نيرانهم التي أشعلوها في تنافسهم مع بعضهم البعض، فلم يعد وجه الدين الذي نعرف، ولم تعد أحكامه نفسها التي جاءت بها رسالة السماء السمحاء.
تعالوا نراجع جميع كتب التفسير وكتب أسباب النزول وكتب السيرة وكتب الحديث وكتب التاريخ، وأتحداكم أن تجدوا فيها غير آراء الأشخاص الذين كتبوها؛ والذين تعارضت واختلفت آراؤهم إلى درجة الإسفاف، فكل منهم يرى الرأي، ثم يدعمه بحديث أو آية أو قول لأحد السلف، ثم يأتي الخلف فيأخذونه من المسلمات، وباستثناء الآية التي صانها الله تعالى من التحريف، فإن الحديث تعرض إلى هزات زعزعت كيانه، بعد أن بث فيه هذا الزنديق أربعة آلاف حديث، وذاك الزنديق عشرة آلاف حديث، حتى أن بعض من كتبوا الصحاح، ادعوا أنهم جمعوا أحاديث صحاحهم التي لا تتجاوز البضع آلاف من بين مئات الألوف. وأقوال السلف كانت لها بواعث وغايات لا يعلمها إلا الله، وكلاهما لا يصلحان للحكم على قضية مختلف فيها. وللأمانة أعتقد أن الآيات هي الأخرى تم تفسيرها وفق المنهج الاحتمالي نفسه، وبالتالي سنجد أنفسنا عراة أمام الحقيقة، نبحث عن ورقة توت نغطي بها هذه السوءة، لكن حتى حينما نعثر عليها، سوف تعجز أيدينا عن الوصول إليها، ولن نجد من يقطفها لنا.
النتيجة، نحن نقف اليوم أمام مفترق طريقين، ونستمر في التحديق ببلاهة، ولا نملك الجرأة والشجاعة لكي نختار الأمثل منهما، فالاختيار يعني الكثير من التنازلات، والإنسان في طبيعته يرفض التنازل عن أبسط الأمور إذا ما كان تنازله سيلحق به مجرد ضرر آني بسيط، حتى مع وجود خير مستقبلي عميم. هذا المفترق وضعنا أمام أحد احتمالين إما أو إما:
إما أن نبقى متمسكين بموروثنا على علله، ونستمر في خوض الصراع والنزاع مع المسلم الآخر، لنبقى عالقين في أجواء الاستفزاز والشد النفسي وطغيان روح العداوة والوجل من المسلم الآخر على جميع سلوكياتنا إلى الأبد، فنستعدي بذلك الكون كله علينا.
وإما أن يخرج من بين صفوفنا ثوار حقيقيين يتبنون مشروعا إصلاحيا حقيقيا لا يخشون غضب حاكم، ولا عصبية عمامة، ولا سيف سلفي متشدد، ولا غضب متطرف، ولا تهديد ميليشيا، وحينما تكتشف الناس نتائج سعيهم لابد وأن تتمسك به وتتخلى عن مواريثها التي عفا عليها الزمان، تلك المواريث التي أصبحت آيلة للسقوط لا وحدها، وإنما ستسحبنا معها إلى قاع ليس له قرار نتيجة تعنتا وغبائنا، فالمؤشرات المعاصرة تنبئ بمستقبل دموي أسود يكون المسلمون أبطاله، ولكن فيما بينهم، وليس بينهم وبين أتباع الأديان والحضارات الأخرى. وحينذاك سوف يسهل على أبسط الأعداء النيل منا ومن عقيدتنا ووجودنا وثرواتنا وتاريخنا وإنسانيتنا، فالنساء السبايا يحملن روح الثأر، وينتظرن الفرصة للانقضاض بدون رحمة، والويل لمن سيناله سيف الانتقام.