السيمر / السبت 13 . 05 . 2017
صالح الطائي
ملغوم بأنواع المتفجرات والعبوات والوهاد الظلماء والمفازات الموحشة وزنزانات الخوف والرعب؛ ذلك التاريخ الذي تركه لنا الأجداد، والذي يسمى (التاريخ الإسلامي)، هذا التاريخ الذي تحول البعض الأكبر منه إلى مقدس لا يجوز محاكمته أو تفكيكه أو دراسته أو حتى مجرد نقده، وتحول بعضه القليل الآخر إلى ساحة راح يرمح في رحابها فرسان التعليل والتأويل والقال والقيل.
وأنا أقلب صفحاته، عثرت عند الحد الفاصل بين بعضيه على شاعر كبير أطلقوا عليه أسم: سلم الخاسر. وقد أورد الزمخشري خبرا مفاده: “سلم الخاسر، باع مصحفا لأبيه، واشترى بثمنه دفترا من شعر، فقيل له: الخاسر، واستطعمه الرشيد حديثا، فاستطرفه، فأمر بأن يسمى: سلم الرابح(1).
هو كما في قول ابن كثير: “سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء”(2). وكما في قول الصفدي: “سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياس، وقيل عطاء بن ريسان، مولى أبي بكر الصديق(رض)، كانوا يزعمون أنه من حمير؛ وهم مواليه، وقيل: مولى عبد الله بن جدعان”(3).
ويبدو من الخبر الذي أورده الزمخشري أن قصة بيع المصحف كانت أشهر الأسباب التي سمي سلم بسببها (الخاسر)، لكن عند البحث والمتابعة، يتبين أن هناك أسبابا أخرى قد تكون غير حقيقية، وربما يكونون قد أتوا بها لتشتيت التركيز، أو أمرا آخر لا نعرفه، وهي كثيرة، منها: “وإنما قيل له: الخاسر لأنه باع مصحفا واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل: لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب”(4).
ومنها أيضا: حدثني اليزيدي، قال لي أبو عبد الله الجماز: سلم الخاسر خالي. فقلت له جعلت فداك، لم سمي الخاسر؟ فضحك، قال: سمي الخاسر لأنه تقرأ، فبقي تقرُّئه مدة يسيرة، فرقت حاله، فأغتم لذلك، ورجع إلى شيء مما كان عليه من الفسق والمجون، وبارع مصحفا كان ورثه من أبيه، فاشترى بثمنه طُنبورا، وقيل: باع مصحفا وأشترى بثمنه دفتر شعر، فشاع بالناس خبره، فسمي الخاسر لذلك. وقيل له: ويلك في الدنيا أحد فعل ما فعلت؟ تبيع مصحفا وتشتري بثمنه طنبورا؟ فقال: ما تقرب أحد إلى إبليس بمثل ما تقربت إليه، فإني أقررت عينه”(5).
وهناك من حاول لي عنق الخبر في سبب خسران سلم، وأراد تبرئته من بيع قرآن والده دفاعا عنه، فقال: “كان يلقب بالخاسر لأن أباه خلف له مالا فأنفقه على الأدب، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة، فلقب بذلك، ثم مدح الرشيد فأمر له بمائة ألف درهم، وقال له: كذِّب بهذا المال من لقبك بالخاسر، فجاءهم بها، وقال: هذا ما أنفقته على الأدب، ثم ربحت الأدب، فأنا سلم الرابح لا سلم الخاسر”(6).
وقد تكون جميع هذه الأقوال مكذوبة ولا أصل لها، وهي مجرد حكايات، هناك أسباب تقف وراء نسجها والتحدث بها، فالتهم الجزافية التي أطلقت على هذا الشخص أو ذاك، تدفعنا إلى التشكيك بصحة الكثير من التهم التي ألصقت ببعض الأشخاص لأسباب غير حقيقية، وأنا هنا لا أريد نفي التهمة عن سلم الخاسر فلربما هو خاسر حقا ولاسيما وأنه وضع يده بيد الخلفاء الماجنين، لكن يلفت الانتباه هنا أن عمل سلم الخاسر؛ الذي موهوا عليه بتنوع الروايات، يبدو خسيسا لم يصدر ما هو دونه أو أحقر منه عن صالح بن عبد القدوس؛ الذي اتهموه بالزندقة، وأصروا على ذلك، لكن لأن الخاسر، نال رضا الخليفة العباسي هارون، فسماه الرابح بسبب أبيات مدحه بها، انبرى المشرفون على منهجية صنع الأرباب للدفاع عنه، وبنفس أسلوب التمويه المتبع، المبني على أقوال مثل: “قيل” و”يقال” و”قالوا” وغيرها، فقال قائلهم: “وقد قيل: إنما فعل ذلك مجونا، ولم يكن رديء الدين”(7). وأرى أنهم استقوا هذا الرأي من شاعر آخر ثابت الزندقة بُرِّيء هو الآخر ليستقيم المعنى؛ وهو بشار بن برد! إذ قال بشار بيت شعر، وأفتخر به، فجاء الخاسر ببيت أحسن منه، فجاء راوية بشار إليه وأخبره بالخبر، فقال: “لوددت أن ولاءه لغير آل أبي بكر الصديق، فأقطعه وقومه بهجوي”(8). وهنا قال ابن المعتز: “وهذا مما يدل أن بشار كان صحيح الدين”(9). بما يبدو وكأن صحة الدين تعرف من خلال هذه المحاباة المليئة بالتملق!. فكيف لا يدافعون عنه باستماتة، وهو الذي قال في مدح يحيى بن خالد البرمكي والخليفة:
بقاء الدين والدنيا جميعا .. إذا بقي الخليفةُ والوزيرُ
لقد جاءت هذه البراءة مع أن هناك الكثير من الإشارات الدالة على تزندقهما كليهما، ومنها قول الزركلي: “وأخباره مع بشار بن برد وأبي العتاهية”(10). وقول الحموي: “وكان سلم تلميذا لبشار بن برد، وصديقا لأبي العتاهية”(11). وقول الصفدي: “وكان يلزم بشار بن برد ويأخذ عنه”(12).
وقال ابن كثير: “وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان من تلاميذ بشار بن برد”(13).
إن بشار وأبو العتاهية كلاهما متهمان بالزندقة! بل ثبت تزندقهما، وكان بشار أحد الشعراء الزنادقة، بل كان من أشهر شعرائهم(14). هذا وقد عد ابن النديم جملة ممن كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، وعد منهم سلم الخاسر(15). ثم كيف تكون الزندقة بربكم؟ إذا ما كان هناك من يعمل على تبرئة الخاسر منها وهو الذي أقر عين إبليس، إذ قال بعد أن أبدل القرآن بطنبور: “ما تقرب أحد إلى إبليس بمثل ما تقربت إليه، فإني أقررت عينه”(16).
أما حينما تقارن بين موقفهم المتهاون مع سلم الخاسر وموقفهم المتشدد جدا مع صالح بن عبد القدوس فلابد وأن تعثر على كثير من الأسباب التي دعتهم إلى ذلك، وتعرف أن مواقفهم لم تكن مبدئية ثابتة وإنما كانت تنح إلى ما يتوافق مع رؤاهم وتفكيرهم ومنهجهم لا أكثر، أما العقلانية والتدين فإما أنها لم ترد على بالهم أو أنها كانت أمورا ثانوية دائما! فمن يتقرب لهم ويمدحهم ويعادي من يعادون، ينبرون للدفاع عنه بكل قوة وجرأة وكذب، فكيف لا يدافعون عنه، وهو الذي كان يذهب بالمهدي العباسي إلى أنه المهدي المنتظر(17). وكيف لا يدافعون عنه وهو الذي كان مداحا للملوك والأشراف، وكانوا يجزلون له في الثواب والعطية(18). ولذا أعتقد أن قول ابن كثير: “وقد كان شاعرا منطقيا له قدرة على الإنشاء على حرف واحد”(19). هو جزء من منظومة الدفاع عنه، وألا فحتى الذهبي الذي بالغ كثيرا في مدح من ترجم لهم، وفيهم كثيرون ممن ثبت وهنهم وضعفهم، توقف عند سلم الخاسر، ليقول: “وعكف على المخازي ثم نسك، ثم مرق، وباع مصحفه، واشترى بثمنه ديوانا فلقب بالخاسر… لا أعلم في أي سنة مات ولكنه مات قبل الرشيد(20). وحتى الزركلي الذي تساهل مع بعضهم، توقف عند حديثه عن الخاسر، فقال: “شاعر خليع ماجن من أهل البصرة من الموالي، سكن بغداد له مدائح في المهدي والرشيد العباسيين”(21).
لم يعقد سلم الخاسر تلك الصفقة الخائبة؛ التي أبدل بها كتاب الله العزيز بقرطاس شِعر عن جهل ولا عن غباء، ولا عن حاجة إلى المال، لا أبدا، فالرجل كان في منتهى الوعي، وكان يعرف ماذا يفعل، فهو كان على يقين أن طرق الوصول إلى الحكام ونيل رضاهم، تمر في مثل هذه المسالك القذرة، ففعل ما فعل، ليصل إليهم عن طريقه، وهو الذي نشر وأذاع ذلك الفعل بنفسه ليصل إلى الحكام، ووصلهم فعلا، فحققت الخطط التي رسمها للفوز بالربح الوفير نجاحا باهرا، تكلم عنه بنفسه بفخر، فقد رووا في أخباره؛ أنه لما أفاد من الخلفاء والبرامكة بشِعره ما أفاد من الأموال الجليلة، قال: “أنا الرابح ولست الخاسر(22). وهذا يبدو إصرارا على الذنب أكثر منه اعتذارا أو دفاعا، ويؤكد أن ما قام به جاء عن تخطيط وسبق إصرار! ومن ذلك النجاح أن الرشيد أجازه مرة بمائة ألف(23).
أما أرباح ومكاسب تجارته التي خسر الآخرة من أجلها؛ فهي على كثرتها لم تنفعه بشيء بعد أن تركها ورحل خاسرا، فكل الذي حصل له من الخلفاء والبرامكة نحوا من أربعين ألف دينار، وقيل: أكثر من ذلك. ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوما الرشيد، فأطربه، فقال له: سل. فقال: يا أمير المؤمنين! أسألك شيئا ليس فيه من مالك شيء، ولا أرزأوك(24) شيئا سواه. قال: وما هو؟ فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثا. فأمر له بها. ويقال: إنها كانت خمسين ألف دينار(25).
وفي رواية أخرى أوردها الصفدي، أن سلم الخاسر: “مات وترك ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، أصابها الرشيد وأم جعفر، فأخذها الرشيد، وقال: هو مولاي! روى ذلك أبو هفان”(26).
توفي سلم في حدود الثمانين والمائة هجرية(27).
الهوامش
(*) جَنَّسَ الأَشياء: شَاكَلَ بين أفرادها.
(1) الزمخشري، ربيع الأبرار، ج2/ص474.
(2) البداية والنهاية، م5، ج10/ص618.
(3) الوافي بالوفيات، ج15/ص188، ترجمة: 4997.
(4) ابن كثير، البداية والنهاية، م5، ج10/ص618.
(5) ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص99.
(6) الحموي، معجم الشعراء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ج3/ص1382، ترجمة: 557.
(7) ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص99.
(8) المصدر نفسه، ص100.
(9) المصدر نفسه.
(10) الزركلي، الأعلام، ج3/ص111.
(11) معجم الشعراء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ج3/ص1382.
(12) الوافي بالوفيات، ج15/ص188.
(13) البداية والنهاية، م5، ج10/ص618.
(14) العريفي، الزنادقة، ج2/ص670.
(15) ينظر: الفهرست، ص473.
(16) ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص99.
(17) ينظر: المصدر نفسه، ص104.
(18) ينظر: المصدر نفسه، ص105.
(19) البداية والنهاية، م5، ج10/ص618.
(20) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج7/ص476، ترجمة: 1202.
(21) الأعلام، ج3/ص111.
(22) المصدر نفسه.
(23) ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج7/ص476.
(24) أرزأوك: أي أصيب من مالك.
(25) ابن كثير، البداية والنهاية، م5، ج10/ص619.
(26) الوافي بالوفيات، ج15/ص188.
(27) المصدر نفسه، ج15/ص188.