الرئيسية / ثقافة وادب / حقيقة التصوف
الشاعر الإيراني بیژن ترقی

حقيقة التصوف

السيمر / الأحد 20 . 08 . 2017

هند بشير يونس

ما ان نأتي بذكر الصوفية والتصوف في مجلس ما حتى تنهال عبارات الاستخفاف او الاستنكار. فالصورة المرسومة في اذهان الناس عن الصوفي هي صورة رجل رث الثياب بيده مسبحة طويله, قد اعتزل الناس وفضل تلاوة الاذكارعلى السعي والعمل. وهي صورة مغلوطة بلا شك. والسبب في ذلك كثرة المشعوذين ألذين يّدعون التصوف ويضللون بسطاء الناس. فالتصوف الحق ليس انطواءا بل ارتقاء, ليس انقطاعا عن الغير وانما التعامل والاختلاط بالغير مع الانعزال بالفكر عمن لا يستوعبه. التصوف يعني معرفة الذات قبل معرفة الاخرين, معرفة ما انطوت عليه نفس السالك من شرور وضغائن ثم العمل على التخلص منها. كما ان التصوف ليس طرقا ومذاهب كما نرى اليوم. انه ليس رفاعيا او شاذليا او تيجانيا او جيلانيا. فهو ارقى من ذلك. انه تجربة ذاتية يسعى فيها العبد للاتصال بمعبوده. ولن يكون اهلا لذلك الاتصال ما لم يرتقي السالك بنفسه فوق كل الصغائر. ولذا فالمتصوف لا يفكر في تغيير العالم قبل ان يبذل جهده في تغيير نفسه اولا. والتصوف لا يفرق بين اتباع الاديان ولا يعترف الا بدين واحد وهو دين الانسان بغض النظر عن الاسماء والمسميات. فالدين واحد والطرق الى الخالق بعدد أنفاس الخلائق. وقد خلد التاريخ اعلاما للتصوف كالحلاج والسهروردي (المقتول) وابن الفارض المصري ومحيي الدين بن عربي وغيرهم, وقد تركوا اثارا قيمة من فكرهم. اما الذين جاءوا بعدهم وشكلوا طرقا باسم كل واحد منهم فلا يمتون الى التصوف الحقيقي بصلة, وانما هم ادعياء تصوف. ولذا فلا يمكن ان نحمل الاولين اخطاء التابعين.
التصوف هو منهج ، والمتصوفه الحق غالبا مايكونون غير متشابهين في الطريقه رغم انهم على منهج واحد وهو منهج ( الصفاء والارتقاء والحب والزهد ) هو منهج ( عدم التصنيف واقصاء الاخر ) ، هو منهج (اصلاح الذات وليس الانانية ) هو منهج ( عدم الحكم على الاخر دون خوض تجربته ومعرفة ظروفه ).
يروي الصوفية حديثا للامام علي (ع) يقول فيه: (أعد الله تعالى شرابا لاوليائه، اذا شربوا سكروا واذا سكروا طربوا، واذا طابوا ذابوا، واذا ذابوا طلبوا، واذا طلبوا وجدوا، واذا وجدوا وصلوا، واذا وصلوا اتصلوا، واذا اتصلوا لافرق بينهم وبين حبيبهم). فالشراب هنا هو شراب المحبة الالهية. وعندما تطغى المحبة على كيان الانسان تنسيه نفسه وتسلب منه قدرة التمييز فتجعله كالذي ثمل من شرب الخمر. اما الخمر فهو كناية عن حالة العشق المتوسط في الشدة والتي يصلها الصوفي من خلال تدرجه في المراتب والمنازل المختلفة لطريق السير والسلوك، في حين ان كلمة (الشراب) هي كناية عن اقصى حالات العشق. وعندما يصل السالك العاشق اعلى مراتب الحب تزول عن بصيرته الحجب النفسانية فتتجلى له الاسرار الالهية. وحينئذ يذهل عن نفسه ويصبح ثملا بذلك الشراب الى الدرجة التي تجعله يرى العالم حوله كله ثملا. واما (الحانة) في اشعار الصوفية فهي كناية عن باطن العارف الكامل والذي هو منبع الذوق والشوق. يقول الشاعرالايراني (بیژن ترقی) في هذه الابيات التي تغنى بها الكثيرون:

الكل ثمل، الخمر والحانة وشارب الخمر ، الارض والسماء ، الزمان والمكان
وعندما تجلت اسرارك اصبح الكل ثملا، البستان وصاحب البستان
عندما تذوقت جرعة من شراب العشق الالهي
وعندما تناولت من يدك كاس العشق ، اصبح الكل في نظري ثملا
الارض والسماء، البلابل التي تصدح باصواتها الجميلة
انت الزمزمة التي تصدر من العود الذي اعزف عليه
وانت النغمة التي تصدر عن اوتار التي الموسيقية
انت كل ما عندي
فاذا كنت ثملا فلست عابدا للخمر
وانما في كلا العالمين ،الدنيا والاخرة، ثملا بك

واخير لابد من الاشارة الى ان حالة السكر هذه ليست الا حالة عابرة تكتنف الانسان العاشق, ولو كانت دائمة لما استطاع شعراء الصوفية ان يبدعوا شعرا رائعا يحمل الكثير من الرموز والاشارات والمعاني العميقة التي لا يدرك كنهها الا اصحاب الذوق العرفاني.

اترك تعليقاً