السيمر / الجمعة 27 . 10 . 2017
د. رحيم الغرباوي
إنَّ الشعر هو طبيعة إيحائية يقوم على الاستبدال الذي وقفت علوم البلاغة على تلك الطبيعة , وقد تأسست على أيدي علماء العربية ؛ لما للأدب العربي , ولغة الإعجاز القرآني من قدرة عالية على الاستبدال , وقد وقف النقد الحديث على ذلك مليَّاً كون الاستبدال من التقنيات الحديثة التي تمنح النصوص الأدبية الإبداعية قراءة مفتوحة قابلة للقراءة التأويلية ، وقد أشار دسوسير في طروحاته , وهو يدرس نظام العلاقات في النصوص الأدبية والدال والمدلول وما إلى ذلك , وتلقف تلك الخطوات بعده البنيويون إلا أنهم ألبسوها أطراً تنسجم عبر المزاوجة مع الطروحات الماركسية .
ولعل نظريات التلقي التي أخذت على عاتقها طروحات الفلاسفة في الإيهام أو أماكن اللاتحديد التي طرقها انغاردن , مما جعل آيزر مؤسس المنهج أن يشير إلى الفجوة والفراغات التي ارتكز عليها منهج التلقي للنصوص الإبداعية القابلة للتأويل وانتاج ما أنتجه النص من قبل المتلقي , أي أنَّ فراغات ” النص تدفع القاريء إلى عملية التصور بشروط يضعها النص ” (1) , ومن ثم يأتي المتلقي لإملاء الفراغات التي يمنحها له ذلك النص ؛ ليكون بدوره مشاركاً في إنتاج نصاً على نص المؤلِّف .
ويبدو أنَّ الثقافة الواسعة والانفجار المعرفي الهائل والتعدد والتعقيد , أباح للعقل أن يميل إلى التحليل , والبحث عن الكشف , كانت جميعها أسباباً ؛ لأن تكون القصيدة بعيدة المضمون , عميقة الرؤى , وحرَّة القراءة , إذ اتسمت القصيدة الحديثة بطابع البحث والكشف في أعماقها , واستشفاف معانيها , وسبر أغوارها , ولعل نموذجنا القرائي لعنوان مقالتنا , هي قصيدة الشاعرة سيليا بن مالك ( سيد أوراقي ) التي تقول فيها :
إلى سيد أوراق عمري المبعثرة
تعلَّمتُ أنْ اصنع من ذاكرة الوجع ترياقا
غير أبهة بالصبابة على ضجر الليل
مع انبلاج الصبح ,
فالورد على خدِّه الندى يراق
استحالة أن تجعل مني أرملة حبٍّ قد احترق
أو تجعل قلبي مقبرتي وأن انطفيء
سأنثر الرماد خصباً للعقل ؛ ليكون خلَّاقاً
في جنة روح أرضها حبٌّ , وسماؤها نقاء .
إذ نجد الشاعرة تعبر عن مشاعرها وأحاسيسها تجاه سيد أوراقها , وهي تتعامل مع نصها بعلائق من الاستعارات التي تفشَّت بهذا النص كـ ( ذاكرة الوجع , الندى يراق , أرملة حب , قلبي مقبرة , أنْ أنطفيء , جنَّة روح ) ؛ لتمنحه بهاء من الجدَّة وسعةً في المدلول , ثم هي تشير برموز تجعل من النص أكثر قدرة على التأويل لاسيما في الرماد الذي يبعث الحياة , وهي تحيلنا الى أسطورة الفينيق لدى الإغريق الذي ينبعث من الرماد بعدما يحرق نفسه ، فتداخل النص بعلاقاته هي من تساعدنا على فكِّ رموزه , ومنها لفظة ( أنطفيء ) قبل دلالة ( الرماد ) و جنَّة روح التي هي بعدها فالسعادة تحققت لدى الشاعرة الانبعاث من جديد .
ثم تعرِّج الشاعرة ؛ لبثِّ أحاسيسها , نراها تستوحي قصة الطوفان , ويعد استيحاؤها تناصاً مع القرآن الكريم لتوسع من مديات الابعاد الدلالية التي تحتاجها القصيدة للإضمار الذي يتخفى بالرموز التي تقترحها في النص , فنراها تقول :
وأرابط صبراً
إلى أن يكسر كأس الألم الدَّهَاق
استحالة أن تفلتني وصايا النور للطوفان
والصبر فاض إلحادا به
ليكون آية الإغراق
قلت سآوي أليك
ولكن لا حضن يعصمني
فالحكمة سفينة نوح
وإن لم تحظ بنبي
ستستوي طوعاً
على جودي الكبرياء .
ومما “لاشك فيه أن التناص يوسع من فضاء القصيدة ويرفدها بطاقة إيحائية ودلالية جديدة ” (2) , والتناص هو ينبوع حيوي غني للقيم الروحية الإنسانية ” على رفد الشعر بمزيد من الحيوية والأصالة وتخليصه من العفوية والسذاجة والارتقاء به فنياً ووجدانياً وفكرياً ” (3) .
وشاعرتنا أخذت على عاتقها استلهام مايدعم نصها الشعري وهي تتناص مع قصة الطوفان القرآنية للانطلاق نحو فضاء دلالي يعكس مدى شمولية وعمق التجربة الشعرية الحديثة , … إذ لاتعمد إلى الإفادة الجامدة التي تدخل في باب التقليد والتكرار وإنما تهدف إلى صوغ تلك المعطيات بما يثري عملها الجديد (4) , فالحبيب عندما أزفَ بعيداً خلف البحار وهي أرادت أن يكون حضناً دافئاً , ليعبر بها محطات الألم والقلق والضياع , نرى شاعرتنا استوحت في قصيدتها قصة الطوفان لكنها برؤيا تختلف عنها في الأسباب , لكن رَقَتْ معها في النتائج , فهي لاتشابه أحداثها بقدسية القرآن وإيمان النبي نوح (عليه السلام ) ؛ وذلك لنفاذ صبرها حتى وصل طوفان صبرها حد الإلحاد , فأين هي والنبي لكن شاركته من أنّ تؤثر النجاة بكبريائها بينما نبي الله نجا بسفينته من الطوفان بإيمانه , فالتقيا على الجودي الذي هو موطن لجميع مخلوقات الله بما يحملون من قيم أو صفات حملتها النفوس ؛ كي تديم الحياة بالانبعاث مرَّة وبالصمود مرَّات .
وبهذا نجد أنَّ المعنى المضمر وإن كان يتمتع بلون ٍ شفيف من العمق إلا أنَّنا وجدنا في القصيدة مايشبع قراءتنا لها , وقد تعاملت الشاعرة مع مفرداتها ببلاغة التوصيل , وهي تستوحي معاني لرؤاها وهي تقصُّ لنا تجربتها العاطفية بأسلوب أدبي مائز فاختزلت احداثها بصبرها الذي أوصلها حد الكفر بالمصير , لكنها تحدَّت الصعاب بكبريائها الذي اختزلت به مسيرة تواريخ ؛ لتعبر إلى ضفة الأمان وهي تعيش أملاً آذن للفراق .
نتمنى للشاعرة سيليا مزيداً من الإبداع , وهي تبحر في عالم الشعري ذي البنى المضمرة وهو المطلب الفني الجمالي الذي لاغنى عنه في القصيدة الحديثة لأنَّه الأكثر انسجاماً مع طريقة التلقي الحديثة .
(1) فعل القراءة نظرية في الاستجابة الجمالية , فولفجانج آيزر : 172
(2) ظواهر أسلوبية في شعر بدوي الجبل , عصام شرتح : 175
(3) أبو الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر , ثائر زين الدين : 6
(4) ينظر : الغياب في الشعر العراقي الحديث , د. عبد الخالق سلمان : 51