السيمر / الأحد 14 . 01 . 2018
د. رحيم الغرباوي
إنَّ اللغةَ الفنيَّةَ أداةُ توصيل , وتعبير , وتحديد هوية ، فلا يتفكَّر بها من تعتملهُ هواجسُ الشعر المُترفة بالأحاسيس والمشاعر , أو يستحضرها عن قصد وطبيعة , فهناك بنية خفيَّة تحكم ظاهرَ الكلام , وتجعل منه نشاطاً فرديَّاً ذا صفةٍ جماعية قادرة أنْ تؤدي رسالةً محددةً ومفهومةً للآخَر .
واللغة الفنيَّة لا ترتبط بالواقع ارتباطاً وثيقاً , أوآلياً , إنَّما ترتبط ارتباطاً جدلياً بين الذاتِ والموضوع , إذ لاتفاضل بين العمل الفني واللغة , فدور الفن ” أنْ يرميك في أتون الحياة لحظة يحدِّثكَ عن الموت , أو يكشف عن واقعٍ أفضل وأبهى , فيما يحدّثكَ الأليف لا دوره وحسب بل سِرَّهُ أيضاً , السرّ الذي يميِّز الأعمال الأدبية والفنيَّة العظيمة ويطبعها ” , وهذا هو معنى الإرتباط الجدلي بالواقع مع لغة الفن .
وشاعرتنا لمياء الطائي تعبِّر في مجموعتها الشعرية ( على قيد الحب ) عمَّا يعتملها بلغتها الأدبية التي امتازت بسلاسة المفردات ورقرقتها , فقد مثَّلتْ صورةً صوتيةً لشعورها , فتزيَّنَ شعرها بصورٍ تنسجم والمعاني التي حملتها مفردات قصائدها , وهي تقدمها ترانيمَ عشقٍ , تخالج أرواح وأذواق متلقيها .
ولعلَّ في قصيدة ( شهلاء ) , نجدها تمازج بين الصوت والصورة , واللفظ والمعنى ، بشهادة الحروف التي منحتْنا أنْ نقرأ ذلك الانسجام الخميل , فهي تقول :
كلّ النساءِ
حين يكتبنَ لك حمقى ,
كلّ امرأةٍ تدخلُ مزاجَك
تخلِّفها ذكرى ,
أمَّا أنا لي مزايا التغزُّلِ
بصوتِكَ , بوسامَتِكَ , بحضورِك .
نراها في تلك السطور تعكس صورة الحشرجة في صوت الكاف , حينما تتحدث عن غيرها من النساء المنافِسات لها في الاستيلاء على قلب الحبيب في الأسطر الأربعة الأولى من النص , إذ تبتدأ به , بوصفه صوتاً يتعايش مع ألفاظ الكدر ، والكذب , والكفاف … , ثم تكرره ؛ لتمنح المعنى تأكيداً , وحينما تصف ذاتها في السطرين الأخيرين من النص نجدها تهمس بسلسلة من الأصوات ذات الوقع الشفيف , فصوت الميم وردَ خمس مرات , وصوت التاء وردَ أربع مرَّات , وهما من أصوات الهمس , وتخللتهما أصوات الصفير ( السين والزاي والصاد ) ؛ لتمنح دلالة التغني بأنوثتها , وترف حضورها الجاذب للحبيب . بينما صوت الكاف أوردته بنهايات كلمات التغزل ( صوتك , همسكَ , وسامتك) ؛ لتعلنَ نصرها على منافساتها اللاتي اتسمن بدلالة الكاف ، مومئةً لمواقعهن في نهاية الركب .
ويبدو أنَّ شاعرتنا خبرتْ لعبةَ الشعر , إذ نراها تزاولها بعذوبة أحاسيسها , وجمال مشاعرها , فالشعر لديها ” لايتشبَّه بالواقع سواء أكان ظلاماً أو نوراً , أي إنَّه لايرتبط به آلياً , إنَّما تأخذهُ ككل , وتنفذ من معانيه ودلالاته وأبعاده , حيث تتشابك ” الكبوةُ والصحوةُ , العتمةُ والضوء , الجمود والخلخلة , السكون والحركة , الحب والكره في حركةٍ دائمةٍ من التحوِّل الدائم , وعلى الرغم من وضوح دلالاتِ قصائدها , لكنَّها أخذت معانيها من موفور أحاسيسها التي شاعت برومانسية عالية من العشق الأنيق , وهي تتطوَّف في عوالم باذخة بالسحر والجمال ؛ لتجعل من متلقيها يعيش نشوة الحب مع طيوف محبوبته التي صوَّر طيوفَها له خيالُ شاعرتنا أنيقة المشاعر .
وقد نجد الشاعرة قد اتكأت في بعض قصائدها ؛ لتمازج بين رموز الحبِّ عبر التاريخ , ومنها قصة ليلى ومجنونها قيس ؛ لتفيد من عمق تجربة الحب الذي دهمهما , فهي تقول :
فأنا طالعةٌ من سلالةِ
ليلى العامرية .
لا أُهدي قلبي إلَّا لرجلٍ
يحترفُ عشقَ قيس
وروحَه الجنونية .
فنراها تربط حب ليلى الذي يمثل صور السلام والحياة الحرة الكريمة بامتداده إلى يومنا هذا ؛ مؤكدةً ذلك بقولها : ( فأنا طالعةٌ من سلالة ليلى العامرية ) .
كما نجدها تتناص مع القرآن الكريم لاسيما سورة يوسف , مستحضرةً قصة زليخا , لكنها تعكس مراودة زليخها ليوسفها , فهي تراود قلبها ؛ كي لايشتط كثيراً وإنْ كان حبُّها قاتلاً , فهي تقول في قصيدتها ( حصحص الشوق ) :
أم ما زلتُ في السُلَّمةِ الأولى من العشق ؟
بصوتٍ خفيٍّ همسَ لي :
حصحصَ الشوقُ
فراودْتُهُ عن قلبي
لأنَّ من الحبِّ بي ماقَتل .
ويبدو أنَّ حبَّها تشكَّل بمرموزات متنوعة لاسيما للوطنِ ، فهي تنتقد السياسيين وهم يزرعون شتلات الحزن في القلوب الذي جعل النفوسَ الحزنَ نفسه ؛ لما يحصل من فتن وحروب أهلكتْ الحرث والنسل . إذ تقول في قصيدتها ( سيناريو جميل ) :
نحن لَسنا شعباً حزيناً
نحن حزنٌ يسافر داخلَ قلوبِنا ,
غربةٌ تغفو داخلَ أرواحِنا ,
ساسةٌ يمزّقون أوصالَنا ,
مستقبلٌ يتخاذلُ مع شهواتِنا ,
ياسمين يُذبح على عتباتِنا ,
ومازالتْ اللعبةُ قائمةً
وما زالوا يفتّشون عن سيناريو جميل .
إنَّ شاعرتنا في مجمل قصائدها , نراها قد توشَّحت بوشاح الحياة التي ترفل بعذوبة الجمال والانبعاث , وهي ترقى لقلوب الناس أملاً وحبَّاً وسلاماً ،
فمجموعتها الشعرية تمثل دعوةً للسلام ؛ لأجلِ أنْ يشعر الإنسان الحاضر بإنسانيته , فيوجِّه مشاعره وأحاسيسة تجاه الآخرين , وشاعرتنا آثرت أنْ تزرع بذارَ الحبِّ في منعطفات الأدغال .