السيمر / الأربعاء 24 . 01 . 2018
رواء الجصانـي*
ازعم بأن الكثير، وحتى من بين المتابعين، لا يعرف سوى القليل القليل عن العلاقة بين الجواهري الخالد، والمناضل الوطني، آرا خاجاودر، والتي نسعى لتوثيق البعض منها في هذه المناسبة الاستذكارية، ولو في عجالة، وعلى شاكلة مؤشرات وحسب ..
ولربماالأكثر من ذلك، سيتفاجأ البعض، أصلا، ان تكون، بل وتسود، رويدا رويدا، فتتأصل مثل تلكم العلاقة الوطيدة، الانسانية قبل غيرها.. اذ الجواهري بعيد عن اي تنظيم سياسي، والحزبي منه بشكل رئيس، منغمرا في عوالم الابداع والفكر.. وآرا، بعيد عن الشعر والادب، منغمسا في مهام النضال الحزبي والوطني، مُبرزاً فيه..
ولكن الانسجام الشخصي، والوجداني، والاغتراب الاضطرارى، وفي براغ خاصة، جمع بين الرجليـن أكثر فأكثر: ذلك القائد في مرابع الشعر والفكر، وريادته، وذلك القائد في العمل النضالي، والحزبي، وعراقته.. وكم اميل هنا للانحياز الى من يرى بأن العلاقات الانسانية هي الاخلص والاسمى عن غيرها من اشكال العلاقات السياسية والاجتماعية، وحتى الاسرية، في بعض تجلياتها، وسواها عديد عديد.
ورائدانا المقصودان : الجواهري و آرا، لربما ارادا بعض استراحات هنا او هناك من انشغالاتهما، وما اشقها، فراحا يلتقيان، ويتسامران، بعيدا عن عوالمهما المزمنة، ويتآلفان، ويأتمن احدهما الاخر على ما جمع ويجمع بينهما من ارتياحات وتآلف… وهكذا امتدت تلكم الحال لنحو خمسة عقود، في براغ أولا، وسنوات منها في الشام … وقد دامت دون حدود، لحين الرحيل عن عالم اللاخلود.. أو ليست العلاقات الانسانية هى الارقى، كما سبق القول.. ؟!.
مؤكدٌ اني مطالب الان ان اسرد، لأوثق .. ولأن الوقت محدود والمناسبة محددة، سأكتفي بنموذجين وحسب، وازعم من جديد، بأن فيهما ما يدل ويؤشر ويؤرخ لما أبحــتُ به، ومالم ابحْ عنه متنوع ومديد …
الحدث / الواقعة الاولى منشورة في كتاب ” الجواهري .. بعيون حميمة” الصادر عام 2016 وفيه – تحت عنوان “مملّحة” لـ :آرا خاجودور، وكاظم حبيب، مايلي:
” لاسباب يطول الحديث، بشأنها، سادت لدى الجواهري عام 1988 رغبة جامحة في ان يغيّر شقته في براغ، التى كان قد قضى بها اكثر من ربع قرن. وقد حاول شخصياً، ولم يفلح، فلجأ الى المسؤول الشيوعي العراقي الاول في براغ آنذاك، كاظم حبيب- أبو سامر، لكي يسهل له ذلك عبر الجهات التشيكية ذات الصلة.
وأذ يتأخر كاظم – بظن الجواهري- عن تلبية طلبه، عاد الشاعر الخالد الى صديقه الاخر، آرا خاجادور، أبو طارق، وكان معنياً بشكل رئيس بشؤون العلاقات السياسية والحزبية الشيوعية العراقية – التشيكية، ليتدخل في حلّ الامر…. ثم، لتحريك الموضوع، وعلى اساس انه شعر اخواني(!) يكتب الجواهري قصيدة يخاطب بها كلا الرجلين، ويحثهما بشكل تحريضي، وتنافسي، للتعجيل بتمكينه من تبديل شقته باخرى، وهي قضية ليست سهلة في حينها.
وأذ لا تحضرني ابيات القصيدة الان، المحفوظة لدينا في الارشيف العامر، أتذكر من بينها: “يا ابا سامرِ كنْ شفيعي لكي ابدلُ الدار، دارا”… ثم يهدده- أن تباطأ- باللجوء الى “آرا” والذي هـو “ابٌ لكل الغيارى”. وهكذا تستمر المناورة الجواهرية، وتنجحُ، وتتغير الدار”.
انتهى النص المنشور في الكتاب…
والان هذه هي بعض ابيات من تلكم القصيدة، وأثبتُ ان ( ارا – ابا طارق ) قد نجح في تحقيق ما اراده الجواهري، ففاز بالرهان على (كاظم – ابي سامر):
… يا ابن ودي, ولست مبدلَ ودٍ، كنْ شفيعي أن أبدلَ الدار دارا
وتعجلْ أمري لتخلد في التاريخ زهوا، وعزة وافتخارا
يا “ابا سامرٍ” فُـز بالرهانِ، وشمرْ لِسباق في حومةٍ لا تُجارى
أو.. فهذه أنشودةُ، تتغنى بـ”أبي طارق” المبجلِ “آرا”
يا أبا طارقٍ وسُميّت “آرا” .. أنّ “آرا” أبٌ لكل الغيارى
كان “سامٌ” وكان “آرا” قديماً، والحضارات تستدانُ لـ”آرا”
يا بنَ ودي ولستُ مبدلَ ودٍ، كن شفيعي لأبدلَ الدار دارا
أترى ثمة احتياج، أو حاجة لتفسير وتفصيل، لما عبقت به تلكم الابيات الانسانية الفواحة؟!..
————————–
اما الواقعة/ الحدث الثاني، الذي أريد التوثيق له فهو مشاركة أرا خاجادور، قبل اشهر قليلة، فقط، في كتاب اصدره مركز الجواهري في براغ، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الشاعر الخالد التي صادفت في السابع والعشرين من تموز الفائت . وقد ضم الكتاب ذكريات وانطباعات ومواقفَ مع الجواهري وعنه، ساهم فيها اربعون مبدعا وسياسيا ومثقفا مميزا – ودعوا عنكم اولئك الذين ظنّوا، فضنوا.. !!!- .. ومما جاء في مساهمة آرا في ذلكم الكتاب، وكانت بعنوان: “وداع بغداد والغربة” اقتبس منها:
..” كان الجواهري خلال كل حياته منحازاً بقوة للفقراء والكادحين، ومعبراً عن حقوقهم ومظالمهم وطموحاتهم. في أيام الوثبة كانت قصيدة أخي جعفر؛ شهيد الوثبة، بالنسبة لنا قوة دفع معنوي لا يدانى، وكم من المرات إلتقيتُ الجواهري، وسمعتُ وتحسست إصراره على دعم الفقراء من أبناء الشعب العراقي، وكم كانت جميلة ومنسجمة جلساتنا بمشاركة الشهيدين سلام عادل وجمال الحيدري وغيرهما…”.
ويستمر آرا خاجودور فيقول: “لا يمكن لحيز محدود أن يعبر عن علاقات دامت نحو خمسة عقود، شملت لحظات عذبة، وفترات مديدة إنطوت على مصاعب جمة، في بغداد المنبت، وبراغ الفسحة المزهرة، وفي دمشق الشعر والسياسة والوجوه الإجتماعية المبدعة في مختلف أوجه النشاط الإنساني”… انتهى النص..
وبعد الاقتباس اعلاه، دعوني أتساءل من جديد، أثمة حاجة أو احتياج لشرح ما سبق من سطور، معبرة وان أوجزت؟!.
ترى هل للحديث صلة ؟ … اقول نعم، ولعل قوادم الايام تسعف لكي نوثق عن بعض علاقات شخصية وسياسية، مع ارا خاجودور، منها في بغداد، اواسط السبعينات الماضية، حين كان الرجل معنيا بالعمل النقابي والمهني، وكنت، اشغل وقتئذ عضوية مكتب العمال المركزي للحزب، وطبيعي ان تكون هناك صلات وشؤون ..
وأخرى، اي تلكم الذكريات والشؤون، راحت تترى حين عاث بنا الجراد، فتوجهت قبلتنا الى المغتربات، وبراغ تحديدا، ليكون هناك اكثر من تكليف، وصلة والتزام سياسي وتنظيمي مع الراحل المجيد، خلال توليه مهامه القيادية المركزية المتعددة: التنظيمية وفي مجال العلاقات الدولية… وغيرها. وكنت ذا صلة بالعديد من تلك المهام والمسؤوليات، في لجنة تنظيم الخارج للحزب الشيوعي، وفي تمثيل اتحاد الطلبة العراقي العام، لدى سكرتارية اتحاد الطلاب العالمي. … وهنا أتوقف عن الكلام المباح، وغير المباح منه كثير ايضا، ولربما يحين ظرف آخر ليكون الكلامُ كلهُ مباحا !!! …
—————————————————————–
• كلمة رواء الجصاني، مدير مركز الجواهري للثقافة والتوثيق، القيت في حفل تأبيني حميم، اقيم في العاصمة التشيكية براغ مساء الثلاثاء: 2018.1.23 بمناسبة اربعينية الفقيد الكبير: آرا خاجودور، وبحضور بعض عائلته، ونخبة من الشخصيات الثقافية والسياسية العراقية والعربية ..