السيمر / الاثنين 23 . 04 . 2018
أمجد ناصر */ الأردن
تكثر الدلائل على أن الفترة التي نسميها “الجاهلية” لم تكن فترة ظلام دامس. ليست فترة جهل في معارف وفنون شتى، كما تصوّرها أدبياتنا العربية ما بعد الإسلامية. عمّ إذن تنعقد كلمة جاهلية؟ على أي معنى؟ الجهل بماذا؟ بالدين؟ كانت هناك أديان، وكانت هناك عباداتٌ لم تكن كلها “وثنية”، بل “توحيدية”: يهودية ومسيحية، حنفية. بمَ بعد؟ بالعمران؟ يكفي مسح سريع للحضارة اليمنية السبئية والحميرية (وغيرهما) ليؤكد أن العمران، المادي والمعنوي، كان موجوداً في أشكالٍ شديدة التطور في شبه الجزيرة العربية؟
إن لم تكفِ الحضارة اليمنية دليلاً على اللاجاهلية، فعليكم بالحلقة الحضارية النبطية. لا أظن أن أحداً يستطيع المجادلة في المستوى المادي/ العمراني الذي بلغته هذه الحلقة في أرض الأنباط التاريخية الممتدة من حوران إلى مشارف الحجاز.
ترك الأنباط عمراناً، غير “بترا” العجيبة، يتكشَّف كل يوم. وعندما تسمح العربية السعودية بمزيد من البحث الأركيولوجي، في أرض تلك الحواضر، سنقف على أمورٍ قد تقلب نظرتنا إلى تاريخنا الذي كُتب من وجهة نظر واحدة: القوى الصاعدة في الجزيرة العربية. وككل قوى صاعدة، ومنتصرة على خصومها، تكتب تاريخها وتطمس تواريخ السابقين، أو تقلل من شأنها. هذا أمرٌ حتمي. فلكي يستتب الأمر للقوى الجديدة عليها أن تعيِّن مصدر تميزها، أو تفوقها على السابقين. لكنّ إعادة قراءة التاريخ هذه لا تني تحصل في أرجاء مختلفة من العالم، ولا تستثني تاريخاً، فلا عصمة لتاريخ. هذا كتابٌ مفتوحٌ، وقراءته ليست حكراً على كاتبيه. ثم إنه سوف يُقرأ، ذات يوم، في غياب سلطة كاتبيه. إعادة قراءة التاريخ تقع كل يوم. وببطء، وليس بالضرورة على نحو انقلابي. هذا فضولٌ بشريٌّ يصعب لجمه. استئناف النظر في الرواية التاريخية توجبه مرةً معطيات جديدة تتكشف، ومرةً أخرى تململ المعطيات الموجودة، كما هي عليه في الواقع، لا كما سطرتها القوى التي كتبت “الرواية الرسمية” وحرستها.
يوماً بعد آخر، يسمح “الانفتاح السلماني”، السعودي، النسبي، وذو المقاصد المغايرة، بمعرفة ما تزخر به أرض الحجاز ونجد وتهامة، والمناطق التي تعتبر امتداداً طبيعياً لبلاد الشام، من شواهد على عصور حضارية زاهرة. قد يكون أبرزها، حتى الآن، الحلقة الحضارية النبطية. فقبل فترة قصيرة، قرأت مقالاً في صحيفة بريطانية عن كشفٍ مثيرٍ لجمل بحجم هائل، أكبر من الحجم الطبيعي، محفور، على عادة الأنباط، في الصخر. عملت الريح، وعناصر الحتِّ والتعرية، وطبيعة الحجر الرملي، على طمس بعض أجزائه، لكنه، في العموم، سليم الهيئة. لم يعرف العلماء الذين أسهموا في هذا الكشف ما يرمز إليه النحت. أهو ديني؟ طقسي؟ أم هو مجرّد عمل تشكيلي ليس إلا؟ أو لعله ترصيعٌ، بأزميلٍ مبدعة، لعلامة “بلدية” تدلُّ، مثلما تفعل الشواخص الحديثة اليوم (القارمات)، السالكين على وجهة بعينها؟ معروفٌ، بالطبع، أن طريق تجارة الأنباط مع العالم الخارجي: من الصين والهند وصولاً إلى روما، كانت تمرُّ في تلك المنطقة.
لم يترك الأنباط كلاماً كثيراً (هذا ما نعرفه حتى الآن)، لكنهم تركوا شواهد مادية عديدة، رفيعة المستوى، على حلقة حضارية مدهشة. كان الحجر المنحوت، المدن التي تتوفر على أشكال عيش راقية، محطات التجارة التي تمرّ بها سلع العالم القديم ونفائسه، هي كلامهم. هذا هو ديوان الأنباط. وهو ديوانٌ لا يمكن وصفه بالجهل والجاهلية، بحسب ما توصم به أقوام ما قبل الإسلام. فعن أيّ جاهليةٍ يلهج هؤلاء الذين لا يقبلون التأويل والاجتهاد في قراءة النص وفهمه؟ أكانت تعني، حقاً، انعدام المعرفة، الظلمة الحضارية؟ لا أظن أن النص يقصد ذلك. هذا تأويلٌ دعويٌّ للنص، فالنبي كان يعرف هذه المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة العربية وصولاً إلى الشام، وكان يرى، في رحلاته التجارية، شواهدها التي لا تدلُّ على الجهل بالمعنى الضيق للكلمة، فلا بدّ أن هناك معنى آخر لوصف عرب، وحلقات شبه الجزيرة العربية، قبل الإسلام بالجاهلية، أو لا بدَّ أن لهذه الكلمة دلالة أخرى.
* شاعر وكاتب وصحفي من الأردن
العربي الجديد