أخبار عاجلة
الرئيسية / دراسات ادبية وعلمية / على تخوم البرية.. يجمع لها الكمأ

على تخوم البرية.. يجمع لها الكمأ

السيمر / الخميس 10 . 05 . 2018

جاسم العايف

لا يمكن تحت أي مسوغ الفصل بين الإنسان و الشاعر ، إلا في حالات استثنائية ، وفيما يخص الشاعر(كاظم اللايذ) ومن خلال نتاجاته الشعرية ، بقي يدافع عن سمو ورفعة حياة البشر اللائقة ، بغض النظر عن العرق ، والجنس، والدين وتفرعاته ، وحتى المكان ، وبالتزامن مع مواقفه الحياتية الناصعة ، والتي لم يتنازل أو يتراجع عنها قط ، في أزمنة الاستبداد. كما انه وبعض الأصدقاء في (البصرة) وخارجها تعاملوا مع أستاذنا النبيل ، بعد أن جافته الأيام والسنوات السابقة – الراهنة المُرة ، وتدهورت أوضاعه العامة – الصحية ، ولم يسمحوا إطلاقا لأنفسهم في أن يُترك جانباً و يبقى “وحيداً “، وقد تطرقت إلى ذلك في تناولي لكتابه ” دفتر على سرير الرجل المريض”، المنشور على هذه الصفحة الكريمة ،ثم ضمنته في كتابي (سحر القراءة )- منشورات اتحاد أدباء وكتاب البصرة- لبنان – 2017 . وجاء في نهايته:” مبادرة الشاعر (كاظم اللايذ) في إصدار كتابه ، على نفقته الخاصة ، وتوزيعه مجاناً ، مع مجلة (الشرارة ) التي تصدر في النجف ، وبالتزامن مع الذكرى الأولى لرحيل أستاذنا “محمود عبد الوهاب” تقع ضمن قيم الوفاء النادر في هذا الزمن الرديء، الذي أطاح بالكثير من القيم والثوابت النبيلة المتعارف عليها اجتماعياً ، وبالترافق مع اهتماماته المتواصلة به خلال حياته ، ولا يسمح الزميل (اللايذ) نهائياً ،لأيٍ كان، التطرق إليها، أو الحديث عنها “.
*
الشاعر (اللايذ) وعبر مجموعاته الشعرية: (في الطريق إلى غرناطة – 1996 ، و النزول إلى حضرة الماء – 1999 ، واطراس حارس الزمن- 2012 ، و بوابات بصرياثا الخمس- 2015 ، إضافة إلى مجموعة الأخيرة :” على تخوم البرية..أجمع لها الكمأ ” * وعبر موهبة شعرية ، لا جدال فيها، وبقدرة متميزة على تحويل مواد الحياة الأولية إلى صور تدهش المتلقي بطراوتها ، وبعد أن يعلم ويقر واقعة الغياب النهائي الذي سنخضع له كلنا ذات لحظة ما يعلن:
“سأتركُ أهلي :
صغاري الذين صنعتُ هياكلهم
وكسوتُ الهياكل لحماً..
نحَتُّ شرايينهم
وسحناتِ أوجههم
وعقائدَهم
وبذلتُ لهم ماء قلبي ..
وعلمتهمْ أن يكونوا “.
في قصائد (اللايذ)لا ثمة استسلام للإنشاءات العاطفية المبتذلة ، ولا انتماء إلى الصور والاستعارات غير المألوفة ، بل نتاجه الشعري ينبع من أدنى درجات سلم الألم متوجاً بمديات التوتر الإنساني العارف بلا تكلف:
” سأترك
امرأةً
كنت من غيرها
قشة في مهب الرياح
وكانت في مدى العمر
ملهمتي وعزائي
وكانت إذا ما ادلهمَّ الظلامُ
سراجي”.
ثمة في شعره ذلك الإحساس بوحشة الكائن، وغياب العدالة والقهر الدائم :
“سيهجر الفلاحون قُراهم
ويرحلون إلى المدن
ليعملوا خدماً ولصوصاً ومتسولين
ستموت الغاباتُ وتنفقُ الأسماك
ويسكتُ نقيق الضفادع
وتحترقُ السنابل
سيصيرُ (دجلة العوراء)
مجرى لمياه الغسيل
وبول المدن ومَكَـبّاً للمزابل “.
ويلمس الفناء اليومي عندما تداهم الفرد والجماعات ظلمات الإرهاب الأعمى – الراهن ، دون ذنوب وآثام وخطايا :
” أيها الكرّاديّـون **
لقد انتهت ” الغزوة “!
وانسحبَ الآثمون إلى سراديب ظُلماتهم..
فهيا انهضوا من بين الدخان والحرائق
لتغسلوا جراحكم
وتدفنوا موتاكم
وتهيئوا أنفسكم لمذبحةٍ جديدة
لأنكم تعرفون
ان ما حصل لكم
في هذه الليلة الرمضانية الشعثاء
هو ليس الأول
ولن يكون الأخير..
…..
لقد أصبحتم مثل (هزارة) الأفغان
أولئك المناكدة
الذين عرجَ مفتي (طالبان)
من اجلهم إلى السماء
وجاء بفرمان الهي
موقع من الله
يقضي :
بإفناهم جميعاً : صغاراً وكباراً
حتى تتطهرَ منهم هضبات أفغانستان إلى الأبد
…..
أيها الكرّاديّـون..
يا ورثة النطع والسيف
يا من نجوتُم بالأمس – بمحض الصدفة –
من طوامير” السندي بن شاهك ”
ومن مذبحة ” هولاكو ”
ومن انتقام ” مراد الرابع ”
ومن أحواض (التيزاب) ، في زنازين صدام .
لا تظنوا أن الله قد خلقكم لشيء آخر سوى القتل
تصفحوا قراطيس التاريخ لتعرفوا ذلك..
لا ألوهيةَ من غير قرابين
لا أعياد من غير أضاحٍ
لا رسالة من غير دم ..
لستم أطفال الله المدللين ..
المدللون هناك..في بلاد بعيدة.
….
لستم أطفال الله..
انتم قرابينه المنتظرون على المذابح..
هكذا انتم
منذ أن أنزلكم (أتونابشتم)
من سفينته على الجودي
وهكذا ستمكثون..”.
الصور الشعرية في قصائد( اللايذ) تبتعد بوعي و قصدية عن الترهل ، فهي في قصائده تكون في خدمة المعنى والتوجه العام للقصيدة، فالشعر، عموماً ، ليس من مهماته القيام باستدلالات منطقية كما انه لا يُناقِش ، بل يَفْرض نفسه.
**
” اللايذ” يسترجع في شعره كثيراً ذلك الزمان الذي تميز بالقهر وخيباته، بالترافق مع ألقه الذي تبَدد عبر الانكسارات و الخيانات المتواصلة ، التي ألقت بظلها الأسود على نكهة الحياة البسيطة ، كما يسترجع الأصدقاء وغيابهم الفاجع ، ومنهم الشاعر (مجيد الأسدي) الذي كان يتنزه ويصطاد السمك ، صباحاً ، بمحاذاة (الكورنيش) ، وعثروا عليه صريعاً جنب النهر، وقد تناثرت عدة صيده على جرفه:
” تحومُ عليك النوارس
ملقىً على الصخر
وعيناك شاحبتان على الماءِ
وعدة صيدكَ منثورةٌ في الفراغ
وقربكَ
تسري المياهُ حثيثاً
تلامس كفك
وهي تمضي جنوباً
جنوباً..إلى البحر”.
وصديقه الحميم (لؤي الناهي) الذي اختفى غفلة :
” وأنت ذاهب إلى الله
نسيتَ أن تتوقف لحظةً
لتقول لي: وداعاً
ألمْ تكن مصدّقاً
انك ذاهب ولن تعود؟
أم أنهم أخذوك على حين غرة
ولم يتركوا لكَ أيّ خيار؟”.
إزاء ذلك وغيره من فواجع الرحيل غير المتوقع ليس لنا إلا الشهقات المنطوية على الأسى ، ولا نندفع نحو (الغرابة) حين نراه يستخدم بعض التشبيهات من مثل “لماذا فعلتها أيها الوغد”؟! والمقصود (لؤي الناهي) صديق إسفاره نحو البلدان البعيدة ، والذي نكث بوعده ورحل في صباحٍ لا يصلح للموت:
” لقد وعدتني :
ألاَّ تموت قبلي..
فلماذا فعلتها أيها الوغد؟!.
….
أغادرُ فراشي متورمَ العينينَ
إلى الطرقات
أبحث عنك..
وفي المنعطفات ألمحك
فارفع يدي إليكَ.. فلا تراني
وأصرخ بكَ
فلا تسمع صراخي……
عرجنا إلى السماء
حتى بلغنا سدرة المنتهى …
هناك …أقسمتَ لي :
أن لا تموت قبلي
فلماذا فعلتها؟
أيها الحبيب؟”.
***
(اللايذ) ، يستفيد في قصائده ، بوضوح من فن السرد، الواقعي تحديداً، وعوالمه التي لا حدود لها ، عبر ذلك الخيط الدرامي المتماسك، في قصائده التي لا تقع في فخ المباشرة، والغنائية الفجة، وهو يكتشف في الأمكنة التي يمر بها مهما نأت عنه و (بصرته) الغارقة في الوجدان، فيبصرَ ماضيها السحيق مكتشفاً أنها :
” منذ الألف الثالثِ
ما قبل الميلاد
في هذي الأرضِ
المسكونة بالويلات
حيث الناس خراب
والأيام يباب
والعيش كما الزقوم زعاق”.
وهو إذ يحدق طويلاً في خصائصها المتوهجة قديماً ، الهاربة منذ أمدٍ ،والتي تومض في لحظات غيابها وحضورها، كاشفة عن المهمش والمسكوت عنه، القابع في الظلال، وحتى وان غادر مدينته على سفر نحو البلدان القصية ، يبقى ذلك المفتون بها و بناسها ، فيستعيد ( البُصاروة) وشقتهم في (الجزائر):
” مبكرةً..
تضع (الجزائر) رأسها على البحرِ
وتنام..
شقةُ (الـبُـصاروةِ) وحدَها
تظل قناديلُها موقدة
تنبعث من نوافذها
أغاني الحنين..
….
في عطلة الصيف
تمتلئ شقةُ (الـبُـصاروة)
بالقادمينَ من الصحراء
حقائبهم من وبر الإبل
وبالنازلين من الجبال
برانسهم من جلود الماعز..
يمكثون قليلاً
ثم يختفون
تاركين على طاولة (الهول)
كؤوسهم الفارغة
وصدى أغنياتهم
التي تُشبه النحيب
….
على بعد آلاف الفراسخ
ظلت شقةُ (الـبُـصاروة)
تستقبل الهاربين
يدخلونها مثل تماثيل الشمع واجمين :
بلا كلمات
ولا حقائب
ولا جوازات سفر”.
و يرى الدكاكين كـ(البغايا) تُـبدل أصحابها بالوفاة ، أو البيع ، أو بالمزادات، أو بالخسائر المتواصلة ، ويسعى إلى القبض على بعض خصائص مدينته، عبر ذاكرة ندية – متوقدة ، تغالب النسيان ، فيستعيد : النوتية الهنود أصحاب السفن القادمين إليها من أعالي البحار، ومعهم جوز الهند، والأسماك المجففة، والبخور، والعنبة وحلوى(مسقط) ، ويقايضونها بالتمر ، والدبس ،على سواحل (العشار)، وحينما اشتعلت الحرب ، احتبست في (شط العرب) سفنهم ، وتقطعت ببحارتها السبل،تحت سماءٍ ملبدةٍ بالدخان والرعب والجنون،وبعد أنْ نخرت القذائفُ والأمواج والجرذان سفنهم ، ترجلوا منها ، نحو أسواق المدينة يمدون أيديهم إلى السابلة ،وكلما حدقن بهم ، بائعات الخضار وأرامل الحرب،تذكرن شيئاً ما، وامتقعت وجوههن ، وسالت دموعهن.ودكان(زلخا) البصري – اليهودي، بائع الأواني الزجاجية في سوق (المغايز)، والذي يقبع في قبره ميتاً بالخيانات كما ادعت الحكومة ، وعلقت جثته ،تلاعبها الريح، قرب ساحة (أم البروم) ذات فجرٍ ما؟!. و(فرجو) ومجلاته وكتبه ومعاجمه الأجنبية – العربية ، ودكان بائع التوابل التي تجيئه من (بومبي) ولا تفقدها أعاصير البحار روائحها وطراوتها ، (وخماس) بائع العصير المثلج ،صيفاً، إلى الصغار والكبار ، ودكان (طليا) وهو يبيع ،علناً، (العَرقَ) غير المغشوش ، وملهى (الفارابي) ولياليه ، و(العامريُّ) مصلح ساعات الأوقات والأزمان ، ومطبعة (التايمس) جنب سراي الحكومة ، وتلك (السينمات) الكثيرة ، التي دحرتها الأزمنة السابقة – الراهنة ، وجسر (المغايز) الخشبي الذي عبرته الأقوام من شتى الجنسيات والأجناس. عبر قصائده يتفرس ( كاظم اللايذ ) في بقايا الأمكنة المحلية وخصوصيتها التي كلما ننأى عنها، نعود لاستعادتها، بوسائل وطرائق وصيغ شتى، ونسقط على الكثير من بعض مظاهر حياتنا الصعبة القاسية – الراهنة ، الذاهبة نحو المجهول ، حاجتنا للإحساس بالحماية والأمن اللذين يمكن، في لحظة نادرة ، أن يتوفرا لنا.

*دار أمل الجديدة – دمشق – ط1 -2017 – الغلاف الفنان : صالح كريم.
** نسبة إلى منطقة الكرادة في بغداد والتي تعرضت لأكثر من عمل إرهابي مخلفاً مئات الضحايا، والمعوقين، والمفقودين حتى اللحظة.

اترك تعليقاً