السيمر / الاحد 20 . 05 . 2018
د.علي محمد فخرو
سأكتب اليوم بغضب وحدة، فالكيل قد طفح من الجنون والتًّيه الذي أصاب بعض جهات القرار في بلاد العرب. ومن سخريات القدر أنه في الوقت الذي يحتفل الصهاينة بمرور سبعين سنة على احتلالهم لأرض فلسطين العربية، بعد طرد سكانها العرب وحرق قراهم، ويحيي الفلسطينيون وأخوتهم العرب الذكرى السبعين لنكبة فلسطين وأهلها.
في هذا الوقت، ومن دون حياء أو خجل، أو وخز ضمير، أو أي مراعاة لالتزامات أخوة العروبة الإسلامية – المسيحية ، ينجرف البعض نحو التطبيع الشامل مع العدو الممارس لأبشع أنواع الإمبريالية واللصوصية وقتل المدنيين.
فهنيئاً لأولئك العرب الذين يصرحون ويغردون ويكتبون ويتفاخرون في المحافل الدولية، وعلى شاشات التلفزيونات العالمية بحقُ اليهود التاريخي الكاذب في فلسطين، وبحقهم في أن تكون لهم دولتهم على أرض فلسطين العربية المغتصبة، وبالتصفيق لجيشهم المجرم، وهو يدك مدن وقرى هذا البلد العربي أو ذاك، وبإغلاق عيونهم وآذانهم وبصائرهم وضمائرهم عن أنين الألوف من المساجين الفلسطينيين، وعن نواح الأطفال الفلسطينيين المرتعبين، وهم يجرجرون من قبل الجنود الصهاينة، وعن جحافل البرابرة الأصوليين الصهاينة وهم يقتحمون المسجد الأقصى عنوة بحماية وتشجيع سلطات الاحتلال، وعن القرار الأمريكي بشأن صهينة القدس.
هنيئاً لكل هؤلاء وهم يُشرّفون ويفُخمون ويُعظًمون من قبل المغردين الصهاينة على شبكات التواصل، مرحبين بأن اهتدى هؤلاء أخيراً إلى الحق والمنطق، ومادين الأيادي الصهيونية الملطًخة بالدماء لاحتضانهم بدفء الثعابين وبمشاعر الاحتقار.
هنيئاً لهم ذلك الخزي والعار واللؤم الذي يقابله شرف وإنسانية وخجل الألوف من اليهود الشرفاء الساكنين في فلسطين المحتلة، الذين يرون ما لا تراه بصيرة هؤلاء العرب العمياء، ويشعرون بوخز الضمير وبالشعور بالذنب التاريخي الذي ما عاد أولئك العرب يملكونه.
هنيئاً لأولئك العرب وهم يتخلًون بشماتة وسقوط أخلاقي عن اثني عشر مليوناً من إخوانهم العرب المسلمين والمسيحيين في فلسطين والجولان وجنوب لبنان ليحققوا لأنفسهم هذا السبق، وذاك الرضى الأمريكي وتلك الغنيمة الحرام، حتى لو تم ذلك في أجواء البؤس في الملاجئ المتهالكة والحزن في البيوت المهدمة والتشريد في الشوارع والتيه في منافي شتى أصقاع الأرض بلا وطن ولا أمل.
لكن دعنا نذكّر:
فقد يحصل من يريد أن يجلس على كرسي الرئاسة، أو من يريد تجديد تواجده في الحكومات المقبلة، أو من يتطلع إلى الحصول على وظيفة مليئة بالمال والفخامة ، أو من يبتغي التمتع بالدعوات المستمرة لحضور المؤتمرات الفخمة المدفوعة الأجر في ربوع أمريكا وأوروبا، أو من قرر أن يكون من أتباع الشر الشيطاني، كرهاً في قيم وعقيدة هذا الدين أو ذاك، قد يحصل بعض هؤلاء أو كل أولئك على هذه الامتيازات والمناصب والغنائم، لكنهم لن يحصلوا قط على تقدير ومحبة مواطني البلدان التي ينتمون إليها، ولا على احترام الصهاينة أنفسهم، إذ أن الصهيوني الطامع في المزيد والمحتقر لتاريخ وتراث وآمال العرب، لا ينخدع بابتسامات وتلويحات الذين يعرضون خدماتهم في أسواق النخاسة، بل العكس هو الصحيح: إنهم يحتقرونهم ويقدمون لهم بعضاً من المكافآت جزاء خدماتهم، تماماً كما فعل القائد الفرنسي نابليون الشهير عندما قذف ببضع فرنكات لخائن جاء ليستلم ثمن خيانته، ويطلب المركز والوجاهة قائلاً له: تلك الفرنكات هي ثمن الخيانة الذي تستحقُه، فخائن الأمس سيصبح خائن الغد، والوثوق في شرفه ليس أكثر من سراب كاذب.
إذا كانت الكلمات غاضبة والتعابير حادة فلأن من واجبنا أن ننقل بصدق مشاعر الغالبية الساحقة الغاضبة من شعوب هذه الأمة تجاه ما يحدث. وإذا كان الراكضون وراء سراب التعايش مع الفكر والممارسات والأهداف الصهيونية صادقين مع أنفسهم فليطرحوا على الاستفتاء الشعبي موضوع القبول الشعبي لما يفعلون. إنهم لن يكتشفوا فقط الرفض الجارف للتطبيع، وإنما سيكتشفون أيضاً الرفض التام للوجود الصهيوني في أي بقعة من وطن العرب، نحن نتحداهم أن يقدموا على ذلك.
يخيل لمن يكتبون عن هذا الانحراف القومي بأن ممارسيه يكررون في دواخلهم: فليكتبوا ما يشاؤون، ففي النهاية سيتعبون. ما لا يعرفه هؤلاء أنهم هم الذين سيتعبون من محاولة جعل ممارساتهم وأقوالهم مقبولة لدى الإنسان العربي العادي. قد يكون الإنسان العربي لديه الكثير من السلبيات، لكن المروءة والشهامة والتراحم مع المحتاج والمأزوم والانتصار لأخيه المظلوم هي صفات متجذرة في طبعه وتركيبته النفسية.
لقد قدّم العرب مبادرة سلام مذلُة فداست عليها أقدام الصهاينة، واعترف الفلسطينيون بالكيان الصهيوني فاستولي المستوطنون الصهاينة على نصف الضفة الغربية، ولم يقبلوا برجوع اللاجئين، وأعلنوا كيانهم دولة يهودية، وتوّجوا كل ذلك بإعلان القدس عاصمة أبدية لهم. ومع ذلك، بل بالتناغم مع كل ذلك، تمتدُّ يد البعض لاحتضان ذلك الكيان المسخ ومحاولة إدماجه في وطن العرب.
يسأل المئات الذين ماتوا منذ بضعة أيام على حدود غزة مع فلسطين المحتلة، والألوف الذين جرحوا، هل دفعنا الثمن بلا فائدة ولا أمل ولا شفقة، حتى من إخواننا وأهلنا؟ هل يستطيع المعترفون والمطبعون والراكضون وراء السراب الصهيوني والمأخوذون بابتسامات دونالد ترامب وصهره الصهيونيين، هل يستطيعون الإجابة على تلك الأسئلة؟
كاتب بحريني
القدس العربي