السيمر / الأربعاء 27 . 06 . 2018
د. رحيـــم الغربـــاوي
الشعر هو مرآة ذات وجوه متعددة لانعكاسات الشعور , فهو يستجلب المعاني أينما كانت وجهتها بفضل الانزياح الأسلوبي الذي يتمطى تبعاً لها وهي تتغور في عوالم الشعور , ولغة الشعر هي المسبار الذي به يسبر الشاعر غابات أعماقه ؛ لذلك نرى تعدد الأساليب لدى الشعراء ؛ تبعاً لاستعمالاتهم للغة حين تتوجه ريثما تتوجه نبضات القلب الشعرية , فتبوح بمعانيها المرسومة بلغة إيقاعية مشفرة هي لغة عوالمها الداخلية , فتأتي لغة الواقع ؛ لتعبر عن تلك المعاني و تؤطرها بلغة الوعي ؛ مما يجعلها تتميز بالطرافة والجدة والإبداع . إذ أنَّ النص يكون في مقام الجسور والدعائم لترجمة ما يختلج النفس من شعور داخلي تتوارد فيه المعاني الحية والإيقاع المنتظم , وما الشاعر إلا منظم يلبسهما ثوب الكلمات ؛ ليرفعهما إلى المتلقي جليلة سامقة بطرافتها التي كان قد خلقها في عوالم كينونته المتعالية . فواحدة من بين تلك الذوات هي ذات الشاعر التي تكنُّ في دواخلها عوالم مستبطنة , و هو وحده القادر على الإبحار في أعماق شعوره و استجلاب ما هو كامن من لألائها في الأسداف الدفينة هناك .
ويبدو أنَّ الشاعرة سيليا بن مالك واحدة من الشاعرات اللاتي يبحرن في تلك العوالم المتوالدة بفعل حركة الحياة الظاهرة , فتنتج لنا عوالم جديدة كانت ماكثة في حياة الإنسان الداخلية ، فالشعر كدورة الحياة في الطبيعة , أو كالعزف على الأوتار ، إذ لابد من مؤثرات كي تنبلج الأحداث و تنتج الدلالات . فالشاعرة سيليا تعيش حالات مضنية , مما يُفرض عليها من ضغوط الحياة لاسيما العاطفية والنفسية , فنراها تترجم ما يعتملها ، فهي تقول في قصيدتها ( أتراني أذنبت ) :
أتراني أذنبت؟!
حين قابلتك على شاطئ جرحي
والنزف موج عباب
أحيل بينك وبينه بقوة الضعف
ما الذنب إن كانت فراخ الحب
في قلبي حمامات سلام؟
لا غربان تنعق في غابة الراس
عجبت لك !!!
وأنت تفرض في شريعة الجرح
على الطيبة قضاء دين
وحلقة استغفار .
إذ نجد ردود أفعالها وهي تتساءل وتتعجب وهي المرأة الوديعة , فهمزة الاستفهام في أول السطر , و( ما ) الاستفهامية في السطر الخامس وكلاهما استفهام استنكاري , كما أنها تبين أنها مكلومةٌ , والمكلوم هو في أغلب الأحيان يعيش إحساس الضعف والاستكانة ، فألفاظ الجرح والاستكانة والقنوط قد تفشت في سطور النص وهي : ( جرحي , النزف , ضعف , حمامات سلام ، الجرح , الطيبة , استغفار ) لكن نجد الشاعرة تتلاعب بالألفاظ ؛ لتخلق لنا مفارقات وهي من الظواهر الأسلوبية التي شاعت في شعر الشعراء المعاصرين ؛ لتحدث كسراً لأفق توقع القارئ , من أجل إيصال المعنى الذي تبتغيه بطريقة مدهشة فتجعل لدى المتلقي قناعةً لما تريد إيصاله له , وقد بنتْ هذا المعنى ليس فقط بالمباشرة إنما بالوجه الآخر الذي يمنح النص لوناً من ألوان الفن الشعري ؛ لأجل إظهار ضعفها بالصور المتضادة , فالأولى في قولها : (حين قابلتك على شاطئ جرحي ) وهي استعارة تصريحية تبين من طريقها ضعفها , فالشاطئ طالما يبعث على الرومانسية والأمان ، أما الصورة الثانية فهي : ( النزف موج عباب , أحيل بينك وبينه بقوة الضعف ) فالنزف هو من حالات الضعف , فشبهته بتدفقة كموج البحر في تلاطمه وكثرة نزفه . وهما صورتان تمثلان القوة والضعف في مقابل الصورة الأولى التي مثلت لنا الضعف وحده . أما الصورة الثالثة في استعارتها ( لاغربان تنعق في غابة الرأس ) , إذ جعلت برأسها غابة لكنها بريئة بإشارة منها بوصف تلك الغابة مفرغة من الغربان التي عرفها العرب بأنَّها رمز الشؤم والعدوان .
أما النص الآخر , وهو قصيدتها مراكب الغزل , فعلى الرغم مما تحمل القصيدة من معاني الغزل , لكننا نقرأ ما خلف الكلمات , إذ نجد الشاعرة تتغزل بالحبيب الذي توسمه بالخجل , لكنها تنافح لأجل ترغيبه إليها بأنواع شتى من صور الغزل التي لا ترقى إلى الشفافية التي عرف بها غرض الغزل , إنما هي دعوة للحبيب أن يقترب منها , فنجد تفشي الاستفهام والتساؤل ، فشكل في النص ظاهرة أسلوبية مهيمنة , فهي تقول :
فيمَ الخجل
ورسمك معلق على الأهداب قمر
في كحل العين تجلى للعاشقين
ليل يحلو فيه السهر ؟
فكيف أغض الطرف
وقد ابْحرت فيك مغامرة
مراكب الغزل ؟
…
هلم ,
لاقرؤك كيف يكسر شغفُ الأنوثة
هيبةَ الفارس دون أن يدركه الندم ؟
…
كيف أمرُّ مني إليك
بشغب طفولة
تثير فيك قهقة السرور ؟
إذ نجد استفهامين يشيران إلى حيرة الشاعرة من أجل الوصول إلى الحبيب , وهما ( ما , وكيف المتكررة أكثر من مرة ) , فــ ( ما ) (فيمَ الخجل ورسمك معلق على الأهداب قمر ؟ ) تسأل بها الحبيب سبب خجله وتردده من الاقتراب منها ورسمه مازال معلقا على أهدابها كأنه القمر , أما ( كيف ) الدالة على الحال فقد وردت ثلاث مرات , الأولى : نراها متحيرة متساءلة , ( كيف أغضّ الطرف فيكَ مُغامِرة مراكبُ الغزل ) , يدلنا النص على أنَّ الحبيب هو لم يكن ميَّالا لمن تتغزل به . أما قولها : (هلم لاقرؤك كيف يكسر شغفُ الأنوثة هيبة الفارس دون أن يدركه الندم ؟ ) , فنراها تسبق الحدث , وهي تذكر معطيات شغف الأنوثة حين يكسر هيبة الفارس , يدلنا ذلك أن الشاعرة تعلم علم اليقين أنَّ فارسها سوف يندم إذا تلقى رسائلها في الحب والغزل والطيش على موائد الأنوثة ؛ كونه رجل لايحابي ولا يهادن ، هي صورة نفسية تعبر عن تردد الشاعرة من خلال مناداتها للحبيب بحيرة وتروٍ ، بينما ، قولها : (كيف أمرُّ مني إليك بشغب طفولة … ) فهي لا تدري كيف تمرُّ إليه بشغب الطفولة ، وعلى الرغم من أنَّ الطفولة تمثل البراءة , وشاعرتنا لاسبيل لها حتى في أساليب البراءة أن تمرر غزلها إليه .
أما شيوع أسلوب الأمر ، هو الآخر يدلل لنا على مواساة الشاعرة لروحها المحبَّة والمؤثرة لكن دون جدوى من الآخر ( الحبيب ) , فصيغ الأمر : ( هلمّ وهات : وهما اسما فعل ، واغلقْ : وهو فعل أمر ) جاءت ؛ لتدل على التوسل والترجي يدعمهما في النص أداة الترجي ( لعل) بقولها : (لعلها تأتي بك طوعا) ؛ مما يدلل على أنَّ الشاعرة تواسي روحها , وهي تترجى قبول غزلها من قبل الحبيب التي رامت أنْ تعدَّه خجولاً , وأين من الفارس أن يخجل من جمال الأنوثة , وفتنتها الوثيرة ؟ !! .