السيمر / الجمعة 28 . 06 . 2018
صالح الطائي
بعد المرة الثالثة التي اعتقلت فيها، وأودعت في زنزانة انفرادية بمديرية الأمن العامة في بغداد أربعة أشهر كاملة، اسبت بنوع من الهاجس القهري، والشعور أني سأعتقل مرة أخرى في أي لحظة، فالخيارات متاحة، ولكنها ستكون الأخيرة والخاتمة لأنهم كانوا غاضبين مني.
لذا بقدر فرحتي بالقضاء على النظام الدموي السفاح، كان حجم قلقي من قادم الأيام يزداد عنفا وضراوة، لأن الاستعمار الأمريكي لم يأت للقضاء على نظام الحكم البعثي حبا بالعراقيين، بل جاء بصنائع، ووضعهم على كرسي الحكم في العراق، تقابلهم في الجانب الآخر مجموعة من الإمعات الطائفية والجماعات الحزبية التي كانت تحلم بعودة الزيتوني ومديرية الأمن العامة ومصادرة الحقوق ممن وضعوا أنفسهم في موضع الشريك في المؤامرة واقتسام المكاسب.
كان هذا شعور القلق يختلج بداخلي في جمع غريب ومريب بين الفرح بسقوط والحزن من المحتمل؛ في آن واحد، لم أصرح بذذلك لأحد خوف أن أكون خاطئا في حكمي على القادمين الجدد، وألا فإن حكمي على الذاهبين القدماء ما كان سيتغير تحت أي دافع.
من هنا احتفظت بآرائي لنفسي دون أن أصرح بها، وكانت هذه الآراء تهتز أحيانا حينما استمع إلى حديث الشارع العراقي، والأحلام الوردية التي كانت تراود خيال العراقيين، تلك الخيالات والأمنيات المبنية على الطيبة والسذاجة والتطرف والموروث وقليل من الحكمة وكثير من النقد وإطلاق الأحكام جزافا، إلى درجة أن هناك من ادعى أنه رأى بأم عينه كيبلا غليظا جدا ممدود إلى الصحراء ومدفونة نهايته بالرمال الغرض منه تسريب القوة الكهربائية المنتجة إلى رمال الصحراء لكي لا يفيد منها العراقيون، وتستمر معاناتهم، هذا بالضبط ما سمعته وحينما قلت لهم: لماذا هذا الجهد والمال الزائد؟ كان يمكن للنظام أن يحل الموضوع بسهولة بأن يوقف عمل إحدى المحطات الكبيرة، وكفى، لم يقتنعوا بهذا الرأي واتهمني بعضهم اني احن لأيام قهر النظام البائد.
وحينما كانت تأخذنا تجمعات الشارع قرب بيوتنا في حوارات حامية، كان الحديث عن البطاقة التموينية قد تجاوز المعقول ربما سعيا لتحقيق أمنيات كانت مختبئة في خيال تواق إلى سد العوز والحصول على الحقوق مثل باقي الشعوب، إلى درجة أن هناك من أقسم بأيمان غليظة أن مفردات البطاقة التموينية سوف توزع على العراقيين بتعبئة حديثة حيث توضع كل مادة بغلاف جميل براق وأن مفرداتها ستزيد على العشرين مادة وبضمنها قنينة ويسكي وتكة سكاير من النوع الذي بفضله المواطن وفواكه مستوردة وأكياس من الحلويات والمكسرات وربما حبوب الفياغرا أيضا. كنت أضحك في داخلي، ولا أصرح بمخاوفي، كي لا أصطدم بمدافع آخر، يسوق لي تهمة أخرى، وأنا أردد دون شعور: خوفي أن تندمون وتضيع فرحتكم وتترحمون على عسف الأيام الخوالي!.
للأسف وجدت أن كل ما دار بخيالي قد تحقق على أرض الواقع، واليوم بعد مرور سنوات التغيير الطويلة، عدنا إلى مربع لم يكن موجودا في خارطة اعتقاداتنا ورؤانا، إلى درجة أني عشت ليلا قاسيا بسبب انقطاع الكهرباء، وتعطل مولدة الشارع، ونفاد وقود مولدتي الخاصة! وهذا حال العراقيين على الدوام تأتيهم المصائب بالجملة وليست فرادى!
النكاية الكبرى أني حينما خرجت صباحا، كان أول ما لفت انتباهي رؤية امرأة عجوز، تبحث في مكب نفايات مطعم شعبي قريب من بيتي عن بقايا طعام، لتطعم بها عائلتها، وأشد وأقسى من ذلك أني رأيت شيخا فان أعرج، يحمل على ظهره كيسا يجمع فيه القناني المعدنية الفارغة للمياه الغازية، وأنا ثالثهما أكاد اسقط من شدة الإعياء بسبب معاناة الليلة الماضية!
ولمن يسأل عن حال العراقيين اليوم أقول: إنها نفسها بالأمس ولكن الأولى كانت مخططة، والحاضرة تبدو سادة، ربما تساوقا مع سيادة الإسلام السياسي (السني والشيعي) الذي يقود البلاد بالمشاركة والتعاون إلى الهاوية، وذلك ليس ببعيد فقادم الأيام لن يكون أفضل مما مر، وقد يترحم البعض عليه مثل الذين ترحموا على أيام صدام.
ويا حوم لا تتبع ولا تجُرّْ، فكل العراق أصبح لك ساحة، والعب بيها يا أبو سميرة، ورحم الله ذاك الذي كان يتمنى أن تموت أمه، فقد كان مقدمنا وسابقنا، وتبعناه جميعنا! لكن أكبر نكاية أن الجميع راضون ومقتنعون ومؤيدون لما تقترحه أحزابهم ومرجعياتهم في الداخل والخارج وكأن الأمر لا يعيهم، وكأنهم لا يبحرون معا في سفينة العراق الآيلة للغرق!.