الرئيسية / ثقافة وادب / فرشاةَ ألواني قراءة انطباعية في مجموعة سجال الركابي “هاك أجنحتي”

فرشاةَ ألواني قراءة انطباعية في مجموعة سجال الركابي “هاك أجنحتي”

السيمر / السبت 30 . 06 . 2018

صالح الطائي

كتبت مرة عن تسميات الأدب الذكوري والأدب النسوي ، تحت عنوان “الأدب النسوي ومجموعة “سأنتظرك” لسهام الطيار؛ مستهجنا ومعترضا”: لا أدري لماذا صنف الأدب الذي تجود به النساء طبقيا، فضُيق عليه، حتى وصل التمييز إلى درجة حشره لوحده في خانة تحت مسمى “الأدب النسوي” مع أن الأدب هو الأدب، وهو ترجمة سامية للمشاعر الجياشة تخلقها المعاناة، تترجم من خلالها خلجات النفس الإنسانية، تحركها ثلاث قوى: القدرة والموهبة والثقافة؛ التي قد تكون جميعها أو بعضها مفقودة لدى كثير من الناس بلا علاقة للذكورية والأنثوية بفقدها، وقد تكون مفقودة لدى كثير من الذين يحسبون أنفسهم الأدباء من الجنسين، أو تكون بادية ظاهرة لدى بعض النساء أكثر منها لدى الرجال، والعكس صحيح.
ولذا سجلت اعتراضي على هذا التمييز بالذات، وأعلنت أني أقبل الأدب مهما كان مصدره، أقبله كمنجز فكري وجداني استلهامي نابع من خلجات نفس حية تحمل الكثير من الحساسية، بما يجعلها تتلمس طريقها بين الكلمات، باحثة عن ضربة تترجم من خلالها رفاهة وشفافية حماستها تلك، مهما كان مصدر الانطلاقة؛ سواء كان من نتاج شيخ هرم عجوز فانٍ، تملأ وجهه التجاعيد، وتحني ظهره الخبرات المتراكمة، مقوس الظهر، قاسي القسمات، أو فتاة ربيعية العمر، قمرية الوجه، شمسية الوجود؛ ما دام فيه ذلك الكم من العذوبة والجذب والغرابة والإدهاش القادر على أن يغمرني بلحظات البهاء استشف منها أطياف بهجة، ويحمل روحي على أطياف الدهشة السرمدية إلى عوالم ما كنت أدركها لولا تساميه مع روحي ووجداني. أما أن أحب هذا الأدب لأنه نسوي، وأكره ذاك لأنه ذكوري، أو العكس، فهي متاهة كبيرة وخطيرة، مصطنعة بعناية، يحاول البعض إدخالنا إليها عنوة لغاية ما في نفسه، قد يكون هدفها نبيلا أو تحيزا وتبجيلا لبعض الأسماء، ودكترة(1) واقع هزيل لا يملك مقومات السطوة الفكرية، فيحاول أن يستعيض عنها بسطوة الشاربين الذكورية.
والغرابة لا تكمن في خصوصية هذا التقسيم المتوقع من عالم صار يؤمن بالتجزئة ويراهن على الجزئيات، بقدر كونها متبناة في الأصل من قبل شخوص، اتخذوها وسيلة في محاولة مهم لإثبات أعلميتهم وتفردهم عن طريقها، من خلال ادعائهم بأنهم من رواد الفكر المبتكر وأصحاب نظريات لا يشق لها غبار. الغرابة كل الغرابة فيمن يتمسكون بهذه التسميات، ويقاتلون لغرض إقرارها على أرض الواقع، مدعين وجود العلامات الفارقة بين المنجزين الذكوري والنسوي بوضوح لا يغفله حتى غير المتخصصين، فهؤلاء في واقع الأمر يتبجحون من خلال هذه الأساليب محاولين جر النار إلى قرصهم وحرمان الآخرين من الإفادة منها.
نعم أنا لا أنكر أن المرأة بطبيعتها ممكن أن تضفي على الكلمات الصماء المتحجرة بعضا من فرحها، سعادتها، نضجها، ضعفها، حزنها، فجيعتها، أنينها، وجع حريتها المسلوبة، بعضا من أنوثتها، رقتها، جمالها، خفة روحها، حيائها، وخجلها، فتبدو الكلمة أكثر عاطفة، وتوجعا، وتأوها، وشكوى، وترفا، ورقة، ونعومة؛ مما لو كتبها رجل، بل قد تبدو وكأنها فراشة ترقص حول الأضواء، فترسم قوس قزح غير محدود الألوان؛ بدخان جناحها الذي يحرقه الوهج. ولكن ذلك لا يعني أن هذا التشذيب أو التطبيع الجنسي أو الإسقاط الأنثوي يُفقد تلك الكلمة قيمتها، أو يحولها إلى مخلوق أسطوري خرافي، خاضع للتجنيس الكيفي، له جنس يختلف عن غيره، فهي الكلمات ذاتها التي يستخدمها الرجل، مرة بخشونة وتهتك ومجون وتبرج، تترفع المرأة عن التكلم فيه؛ بحكم طبيعتها الأنثوية، ومرة بحدة تجرح، ويبوسة تُقرِح، وعبوس يقشعر منه البدن، وثالثة بترف ولطف وكأنه يدغدغ بها أذني وقلب ومشاعر محبوبته. ولكن أساطير الأوهام التي عششت في قلوب البعض تأبى أن تؤمن بهذه الحقيقة، وتقاتل من أجل بقائها وديمومتها، وتختلق لذلك مصطلحات غريبة، مثل مصطلح الأدب النسوي.
تذكرت تلك المعادلة حينما كنت أتصفح مجموعة ” هاك أجنحتي” للأخت الأديبة الدكتورة سجال الركابي، التي أهدتها لي، علها تدخلُ إلى نفسي بعض الترف اللذيذ الذي ينقذها من الضيق الذي خلقه تراكم العمل، وتزاحم المهمات، وكثرة الواجبات، وتقدم العمر، وضعف البصر، وكلل البصيرة، وواقع الحال المزري، وذلك الترقب المقيت لما قد يحدث في البلاد التي تتقاذفها الأهواء ككرة مصنوعة من أديم قرد نافق! ففي هذه المجموعة التي ابتدأتها الدكتورة بكلمات إهداء متوهج: “إلى فلذاتي حيدر وأروى وريم، وإلى الرافضين صدء القيود، الحالمين بسموات ملوّنة، هاكُم أجنحتي” تشعر أنك ستصطدم بحجم من المعاناة التي تجمع بين أطياف: الحب، التحدي، الحزن، الفراق، الخوف العتب الجرأة الحث التشجيع الحكمة والفلسفة، وأشياء كثيرة أخرى، تلقي بك في زحمة خانقة، وحينما تزدحم الأشياء في مخيالك، سوف تشعر حتما بنوع من الضبابية التي تدغدغ عواطفك، فتجذبك عنوة لتسرح في حقولها دون أن تجني ثمرة تسد بها رمق روحك؛ التي أتعبها التحديق في عالم الخيال، والتحليق في دنيا الخرافة الأسطوري منذ آلاف السنين.
وأنا في سبيل أن أثبت مصدر دهشتي لمن يستغرب ذلك، على اعتبار أن زمن الدهشة سرقه القدماء عندما رحلوا، وأخذوه معهم، ولم يتركوا لنا منه سوى ركام التقليد؛ الذي لا يجلب الانتباه، لا بأس أن اقتبس من الدكتورة الشاعرة كلمات(2)، سبق وأن صهلتْ في رحاب قصائدها، ورمحتْ في مضمارها، تصهلُ فتردد الوديان صداها، لابد وأن تشعرك بفحوى التصدي لحمل رسالة الحرف التي تأتي لتثبت الوجود الفعلي المفعم بالحركة والغارق في ألوان قوس قزح، تَشكلَ بعيدا عن الماء فوق رمال صحراء جفت حياتها منذ ملايين السنين، في وجه العدمية المفرغة من الذوق، أليس هذا ما تشعر به حينما تدرك أن “اللحظةُ معبرٌ زَلِقٌ” وأن “الربيعُ سريعُ الذوبانِ”؟
إن الصور النافرة؛ وكأنها جوانب جبل وعرٍ من غيوم بيضاء شكلته رياح لطيفة، تشعرك برغبة في أن تحلق عاليا لترى ماذا سيحدث “حينَ تتشابك النجومُ والرموشُ” وحينها لابد وأن تحتاج إلى “قليل من فراشات الفرح، فشرنقة الحزن لا تطير” لا للضعف بل “لأنك عتيُّ موجٍ.. تهادن الضِفاف” وألا فالمرأة التي تقول لك: “أزّخُ مودّتي ندىً” تعني ما تقول فهي دون سواها تعرف أنها “لستُ سوى طِفلة.. تناغي الوردَ” وتجيد العتب، ألم تسمعها تناديك “وأبحرتُ…في عينيك.. على متنِ زفرةٍ”؟ أي قلب يعطيك قوة الإشاحة عن صوت يصرخ بوجهك: “انهمرت النبضات .. غطّاها الجليد”.
الغريب في مجموعة “هاك أجنحتي” أنها خلطة صُنعت بيد فنان عارف، يجيد خلط الألوان ليصنع جمالا، فلسفة، معرفة، ضوضاءً، وحبا كثيرا. تتراقص في أرجائها قبسات من صور الحكمة يرسمها جموح الخيال.
في عالم “هاك أجنحتي” تجد نفسك مرغما غارقا في عالم ثر الوجود، تتافر في أجوائه صور لراقصات غجريات فقدن مسحة الجمال، عربتهن، من كان يعزف لهن، وأنهكهن السير الطويل، حتى نسين كيف يرقصن لمن يطلبون ذلك بشدة، دون أن يلتفتوا إلى معاناتهن ووجعهن الكبير:
مع رفيفِ أجنحة النوارِسِ طرتُ
لمّا تهادتْ على سطح الموجِ
لم أحِطْ……
كُنْتُ…… أغرَق (ص:26)
في الأقل هذا ما شعرتُ به أنا حينما طالعتني صورة:
ماذا قالت أُمّكَ؟
أنا كَتَبَت دموعي:
حين افترسوكَ
أيُّها القمرُ النبيُّ
غابَ قلبي
صائحاً…
وا فلذتاه… وا إنساناه… وا وطناه(ص: 28)
في اللحظة التي كنت تصفح فيها المجموعة أمام التلفاز، شاهدت مقطعا لطفلة صغيرة، هي بنت لأحد المغدورين الذين اختطفهم الدواعش، وقتلوهم بدم بارد، تطالب العالم بأن يعيد إليها والدها الغائب، الذي تحبه بقدر حبها لله! وكنتُ حينها أقرأ واحدة من صورها عن العالم الآخر الذي تعيش الشاعرة في كنفه، ذاك الذي يحلو للبعض أن يسميه: عالم الكفر، وهو للكفر أقرب منهم بآلاف المرات، كان المقطع يردد أمام ناظري:
أيتها الطبول
في بلادي للحرب تقرعين
هنا…
تغنين بروح الغابة!
بمكيالين لا تكيلي
نادي أطفالي للفرح(ص: 29)
حينها أيقنت أن سجال الركابي تبحث عن حريتها من خلال قصائدها، تريد أن تتمرد، تتحرر، تنطلق في عالم الجمال بعيدا عن تلك القيود المصطنعة التي خلقها التناقض الكبير بين عالمين أحدهما يدعي أنه إيماني حد النخاع، وآخر يدعون أنه كافر، وهو إنساني حد النخاع:
ألبستَني
ضيقِ تَملُكِكَ
كيفَ…….. تراني سأغرد؟(ص: 30)
وفي سعيها وراء الحرية كانت تريد من الرجل أن يساندها، يساعدها، يقف بجانبها، تتكئ عليه فتشعر بالأمان وتتمكن من أداء مهمتها، فهي تشعر عن يقين تام أن لها قدرة للعطاء غير المحدود، للكفاح من أجل التغيير:
سأجري معكَ بلا هوادة
الطواغيتُ التهمَتْ البراءةَ
الزلزالُ صاخبُ المدِّ
هيّا إلى مرجَ البحرِ
نوقد قرابين الغضَب
نشعلُ قناديلَ الرؤى
عسى الموجَ يهدرُ بجواب
يستأصل بثوراً
أصابها كساح مُزمِن.(ص: 32)
بل نراها تسعى إلى التضحية لتقدم أكثر مما يقدمون، وتعطي أكثر مما يعطون، فلها قدرة تحمل عالية وثقة بالنفس لا حدود لها:
حين تغصُّ الأماني
في كلحة اللاجدوى
اربّت على جزعكَ
ايها الصديق
جِسراً أصير
لتعبر إلى ضفةٍ آمنة(ص: 33)
وهكذا تنثال الصور التعبيرية لتتحد معا مشكلة صورة غرائزية في غاية الروعة، تثمر عن شعور بالغبطة يملأ قلبك حالما تنتهي من قراءة المجموعة. وفي الختام، بعد أن أنهيت السياحة في عالم المجموعة وصورها الأخاذة، أجد مشاعري قريبة مما كانت تشعر به الدكتورة سجال حينما كتبت نصوصها، تأخذني آمالي العراض لأردد معها: “رُبّما تشرق الشمس.. فتنبتُ وردة”. وحتما لاستنبت وردة، فالعالم بلا ورود لا يطاق.
صدرت المجموعة عن دار أمل الجديدة للنشر في سوريا بواقع 126 صفحة وهي تضم تسعين نصا شعريا، وهي مجموعة جديرة بالقراءة.

الهوامش
1) دكترة كأقلمة وأسلمة: منحوتة من الدكتاتورية
2) اعتاد السادة النقاد على اقتباس مقطوعات من القصائد التي تضمها المجموعة التي يكتبون عنها لجعلها نموذجا للفكرة التي يتحدثون عنها، أما أنا في تعاملي الحذر مع هذه المجموعة فأجدني بحاجة حقيقية لأن أترك استعارة المقاطع واكتفي باستعارة الجُمل؛ التي أجدها أكثر دهشة وتأنقا، ربما لأنها تجعل القارئ يسرح بخياله في عوالم قصائد لم يقرأها ولكنه يشعر بها في خياله.

اترك تعليقاً