السيمر / الثلاثاء 03 .07 . 2018
معمر حبار / الجزائر
بمجرّد ما طلب منّي زميلنا الأديب البليغ صدام حسين مجاهد، أن أحضر لمحاضرة الأستاذ محمّد بن بريكة، وافقت على الفور، وتمّ تحديد اللّقاء بمقهى معمر ببوقادير حيث طلب كلّ واحد مايبغي ويحتاج. ودخلنا رفقة يوسف لخمي و محمد يونس سالم مكتبة الشهيد العڤون محمد، ببلدية مازونة العريقة الضاربة في التّاريخ، وضمن دعوة “جمعية برنوس الظهرة ” الجمعية المكلّفة بـ”جائزة برنوس الظهرة” التي كرّمت الأستاذ بقادة ولأوّل مرّة سنة 2005، وما زالت على نهجها، حيث ألقى الأستاذ محمد بن بريكة محاضرته:
مضمون المحاضرة
بدأ الأستاذ محاضرته بالتحدّث عن مازونة، فقال: مازونة هي إحدى الحواضر التسع. ويقول: “كنت هنا في مازونة طليب علم”، وهو العالم المتمكّن. ولست هنا في مازونة لأنقل لها العلم، فليس مثلي من ينقل لها العلم، إنّما جئت أتعلّم من سادتها وعلمائها. وأكثر النوازل ذكرت في مازونة.
انتقل بعدها الأستاذ ليعرّف الصوفي، فقال: الصوفي رجل واقف في مقام الإحسان، طبقا للحديث النبوي الشريف: ” أن تعبد الله كأنّك تراه”، أي كأنّه في مقام شاهدة فإن لم تكن تراه فإنّه يراك عبر مقام المراقبة وبعد مقام التوحيد والفقه. وجميع العلماء كانوا على هذا المقام. وسمي علم التصوف بعلم الذوق، وعلم السرور، وعلم الباطن، ولذلك كان علم التصوف علما شريفا. والذي وقف في مقام التصوف هو سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وسادتنا الصحابة رضوان الله عليهم، ومن جاء من بعدهم من الأولياء والصالحين إلى يوم الدين. وطريق التصوف هو طريق الصالحين الذي حمى الأمّة من الفتن، لأنّه الطريق المؤيّد بالمناهج، وهذه المناهج هي التي نسميها بالطرق الصوفية.
بعض العباد يتقرّب إلى الله تعالى بقيام اللّيل، والبعض يتقرّب بالصلاة على سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومنهم من يتقرّب بشهادة أن لا إله إلاّ الله سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والبعض بطاعة الوالدين، والبعض بالصدقات. هذه السلوكات التي غرسها الله تعالى في عباده الشيخ، وهو الذي يطلب من كلّ واحد أن يقوم بسلوك يناسبه ويناسب قدراته. ومن الأعمال المطلوبة هي: الاستغفار، ثمّ الصّلاة على سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما يناسب قدره الذي رفعه الله إليه، وبعد ذلك لا إله إلا الله بتلقين شيخ عارف بالحقيقة. وبما أنّ المرء وصل إلى حالة من الإشباع المادي إلى درجة أنّه لم يعد بحاجة للزيادة، تبقى هذه الأذكار والسلوك التي وصفناها هي التي تشبع النقص الروحي الذي يعيشه إنسان اليوم.
أبناء الزوايا تربوا على التربية الصالحة التي وفّقت بين الاحتياجات المادية والاحتياجات الباطنية، والحمد لله لم يتورّط أحد منهم في سفك الدماء، وحين تمّ تغييب المرجعية الجزائرية عن أبنائها ، سفكت دماء بريئة طاهرة.
الصوفي يعيش أجواء اللّطف، لأنّ الإنسان حينها يغيب عن حسّه وهو في طريق التصوف وضمن أجوائه، طبقا لقوله تعالى: ” فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ” يوسف – الآية 50. وكمثال على هذا اللّطف: خرج سيدي أحمد شيخ سيدي الشعراني ليلة مولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الإسكندرية إلى البحر، يقرأون القرآن ويمدحون سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فصادفهم قارب فيه رجال ونساء يشربون الخمر. طلب منهم تلامذته أن يدعوا عليهم. لكنه دعا اللّه، فقال: اللّهم كما فرّحتهم في الدنيا أدخل عليهم الفرح في الآخرة. تعجّب تلامذته قائلين: طلبنا منك أن تدعوا عليهم لا أن تدعوا لهم. أجاب سيدي أحمد: إِذَا فَرَّحَهُمْ فِي الآخِرَةِ تَابَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَضُرَّكُمْ شَيْء.
الصوفي سليم الصدر، لا يحقد، ويحب الجميع، وكمثال على ذلك: كان سيدي محمد بن عثمان المصري وهو من الصالحين: جاءه شاب يطلب منه أن يتعلّم عليه وأن يكون من تلامذته، فطلب منه الشّيخ أن يقبّل رأس أحقر النّاس، وأن يرى نفسه الأصغر، ثمّ قال له: أنظر لنفسك دائما على أنّك أدنى النّاس.
النفس يستقيم أمرما بذكر الله تعالى، والذكر هو أعظم عبادات الله تعالى، لأنّ العبادات كلّها ذكرت بأعداد معدودة، كالصلاة، والصيام، والزكاة، وكلّها بمقادير ، إلاّ ذكر الله تعالى جاء بصيغة: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا” الأحزاب 41، ولم يكن فيه تحديد عدد أو هيئة كما هو الشأن مع العبادات الأخرى. والجندي والشرطي والدركي مرابط على الحدود بذكر الله تعالى، والمعلّم الذي يصحّح يعتبر عين تحرس في سبيل الله تعالى، والأم التي تطهو الطعام لأبنائها وزوجها هي ذاكرة لله تعالى، والعبد في عمله يعتبر ذاكرا لله تعالى. ويجب أن يكون قلب العبد للحقّ، فالعبد يتقلّب بين إيّاك نعبد أي مقام الحرارة، وإيّاك نستعين أي مقام البرودة. والمؤمن بين الرجاء والخوف، لكنه يغلّب الرجاء.
أوصي أبناء الجزائر بـ:
الاهتمام بالشباب، مصداقا لقوله تعالى: “إنّهم فتية آمنوا بربّهم”.
اتّباع سيرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنّه معلّمنا وقدوتنا. لم يضرب امرأة، ولا شتم، ولا سبّ أحدا، قدّم التعزية لطفل صغير حين مات عصفوره، ينزل من منبره وهو يلقي خطبة الجمعة إكراما لسيّدنا الحسين وهو طفل صغير يراه يبكي فلم يستطيع مقاومة بكاء الطفل، فنزل لأجله رحمة وشفقة منه صلى الله عليه وسلّم. وكان يخفّف في صلاته صلى الله عليه وسلّم حين يسمع بكاء الأطفال وحتّى يسرع الآباء لأبنائهم. ويسجد صلى الله عليه وسلّم فيصعد سيّدنا الحسين على ظهره، فيظلّ ساجدا حتّى ينزل سيّدنا الحسين من ظهره الشريف صلى الله عليه وسلّم. تمرّ عليه جنازة فيقوم، فيقول له أصحابه رضوان الله عليهم: إنّها جنازة يهودي. يرد صلى الله عليه وسلّم: إنها نفس.
حب الوطن، فقد أخرج سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من موطنه الأصلي، فقال: يا مكة، لولا أنّهم أخرجوني ما خرجت، ما يدل على أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يحب وطنه. والأوطان أمانة في رقابنا جميعا، لأنّ كلّ شبر في الجزائر سقي بدم شهيد أو دم عبد صالح.
العلم: العلم يأخذ من أفواه الرجال، ولا يأخذ من “الدجاجلة” الذين يضربون مرجعية الجزائر.
الخاتمة
ختم الأستاذ محمد بن بريكة محاضرته، فقال: كرّمت من طرف رئيس الجمهورية، ومن الجامعة العربية، ومن الأمم المتحدة باعتباري رجل الجزائر سنة 201، وكرّمت من طرف الملوك والرؤساء والهيئات، وهذه الجلسة التي أجلسها الآن بينكم تعتبر بالنسبة لي من أعزّ ماعندي وأفضل.
أهدى في الأخير 7 كتب من تأليفه، وهي ضمن موسوعته التي تضم 21 كتاب. وكتاب “سلسلة الأصول في أبناء الرسول” لآخر النسّابين سيدي حشلاف ، من تحقيق الأستاذ: محمّد بن بريكة. وصورة من نعل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
كرّمته “جمعية برنوس الظهرة ” بكتاب حول تاريخ “مازونة” وعلماء وفقهاء والصالحين من مازونة، وبـبرنوس الظهرة في إطار “جائزة برنوس الظهرة”.
رأي المستمع صاحب الأسطر
وبما أنّي رأيت الأستاذ أوّل مرّة رأي العين ، وأنا الذي استمعت له عدّة مرات عبر المحاضرات التي يلقيها داخل الجزائر وخارجها، وعبر فضائيات جزائرية وأخرى عربية، يستحسن أن أقدّم بعض الملاحظات الشخصية، وهي: كان يبدو لي طويل القامة عبر الفضائيات، لكن حين رأيته رأي العين بدا لي متوسط القامة وإلى القصر أقرب، ولم أكن أعلم أنّه بهذا الجمال، فقد رزق الصورة الحسنة، ويبدو لي أنّه من الأثرياء الأغنياء. وقد كتبت عنه عبر صفحتي بمجرّد ما وصلت للبيت، فقلت: أكرمني ربي صباح اليوم بحضور محاضرة ألقاها الأستاذ محمد بن بريكة، رفقة زملائي الشباب صدام حسين مجاهد و يوسف لخمي و يونس سالم ، بمازونة العريقة مهد العلم والعلماء.
كان الأستاذ محمّد بن بريكة، فصيحا، بليغا، خطيبا، نسّابا، حافظا، متأدّبا، متخلّقا، يرتجل المحاضرة بسلاسة عجيبة معتمدا على حفظه، يتقن وببراعة استخراج الحكم، متواضعا، شاعرا، محبّا للجزائر ومدافعا عنها، وموصيا بها، ومحذّرا ممن يمسّها تحت أيّ إسم من الأسماء، حسن المظهر، جميل الصورة، يسمع للجميع، ويجيب الجميع، ويترجى أهل الفضل والعلم، لا يتقدّمهم في كلمة ولا يسبقهم في خطوة.
لو رأينا وسمعنا عنه ما يستوجب النقد لانتقدناه ونحن الذين نراه لأوّل مرّة رأي العين، سائلين المولى عزّوجل الذي أكرمنا بالاستماع له أن نعيد كتابة المحاضرة التي نقلناها عبر كراسنا. وحفظ الله الأستاذ محمد بن بريكة للجزائر وحفظ الجزائر به، وحقّ للجزائر أن تفتخر به، وحقّ للجزائري أن يفتخر بكون أرض الجزائر تزخر بالعلماء.