السيمر / الأثنين 20 . 08 . 2018
كتابة وتوثيق: رواء الجصاني
يا نديمي: لم يبقَ لي ما أُرجّي، غيرُ (ليتٍ)، و(ليتُ) زرعٌ بصخرِ
ليتَ أني لبربرٍ أو لزَنجِ، أتغنّى شجونَهم طولَ عمري
نِصفَ قَرنٍ ما بينَ دُفّ وصَنجِ
أتُراني كنتُ انتُبِذتُ بقفرِ، وتُجوهلتُ مثلَ واوٍ لعَمرِو؟
لستُ أدري ولا المنجمُ يدري!
وما تقدم – بحسبي- يمكن ان يكون ايجازاً من الشاعر العظيم، محمد مهدي الجواهري (1899-1997) لما عاشه من جحود سلطوي ومجتمعي وما بينهما، أو لنقل ماشعر به، وتهضمّ منه، خلال حياته المديدة التى تناهز المئة عام، على ما هو معروف ..
ولعلنا لن نأتي بجديد في القول بأن الجحود سلوك بشري منذ قدم التاريخ، ولكنه “يزدهر” في المجتمعات المشوهة حضاريا وثقافيا، وذلك ما نشهده في حالنا اليوم ومجتمعاتنا تغص بكل ما هو خارج المألوف، وبعيد عن سمات التطور الانساني، ولأسباب وكوامن ليست موضع هذه الكتابة بالتأكيد، ولكن من بينها التقاليد البالية، والاعراف المعتاد عليها، وبيئات النمو والتربية العائلية، وسواهن من الاسس والاجواء. ومن منّا لم يعاني جحودا، ويتلقى طعنات غدر، هنا، وأخرى هنا، فكيف هو الأمر مع أحد ابرز اعلام البلاد والامة وأهلها، وفي القرن العشرين على الأقل .
وأذا ما كانت دراسة تلك الحال – ونقول الظاهرة في بلداننا، ولا نخاف – من مهمات المتخصصين الاجتماعيين والنفسيين، غير ان المفكرين والشعراء يوجزونها خلاصات وعبراً، ووقائع ومؤشرات علاج. وهذا ما نراه عند الجواهري، شعرا في العموم، وهو من هو في معترك الحياة، على مدى عقود، ومن شعره نقتبس:
خبرتُ الناسَ والايامَ حتى يدايّ كليلتانِ بما نخلتُ (1)
لقد “عالج” الشاعر وفي قصائد عديدة، ومنذ مطالع شبابه، الجحود كحالة بغضاء مدانة، كما هم اصحابها من الجاحدين، الباطنيين منهم والظاهرين. وكما أشرنا في كتابات سابقة، ونكرر اليوم، فأن ما ينعكس عند الجواهري من حال خاصة، تذهبُ متشابكة مع الحال العامة بوضوح ودون ايما غموض. وماعانى منه، ووصفه وانتقده، هو نتاج وضع سائد وخلاصته كما أوجز في داليته التي يناجي فيه صلاح خالص عام 1984 :
أ “صلاح” أنّا رهنٌ مجتمع، يخشى اللصوص فيذبح العسسا”
لقد نويّت منذ فترة طويلة ان اخوض مضمار هذه الكتابة، واعني عن الجواهري ومعاناته من الجحود، والجاحدين، والموقف منه، ومنهم. أقول نويّت ان اخوض هذا الموضوع وذلكم لأكثر من سبب، وربما كان الابرز هو معايشتي لنحو عقدين، العديد من حالات الجحود اللئيمة التي واجهها الشاعر الخالد مباشرة، وحتى من قريبين، وأصدقاء محددين. وكدت (أتجرأ) فأشير لهم بالاسماء، برغم ان الامر كان سيقود الى ردود افعال وتشنجات، لا تهمني من اجل التنوير “فما تخافُ وما ترجو وقد دلفتْ، سبعونَ راحتْ كخيلِ السبقِ تطردُّ” بحسب الجواهري ذاته(2) ولكني ترددت من جديد، فعدت للأبتعاد عن التصريح، واعتماد التلميح، وحتى الان على الاقل، مع بعض الاسثناءات التي فيها مآرب أخرى! ..
والان، وبعد هذه المقدمة العجول، دعونا نقف عند بعض ما عبر عنه الجواهري شعراً حول الجحود والجاحدين، مؤجلين كتاباته وتصريحاته الاخرى ذات الصلة، التي جاءت في مذكراته وفي المقابلات واللقاءات الاعلامية العديدة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وتلكم لوحدها بحاجة الى حصر وتوثيق، وعسى ان نتمكن منه في أوقات لاحقة، استكمالاً لما نحن عليه اليوم.
وكما سبق التنويه اليه في موضوعات سابقة، كانت هضيمة الجواهري من الادباء والمثقفين أكثر بكثير من غيرهم، لأنهم اهل الدار، والصنعة، كما ينبغي (3). ومن هنا فأن جحودهم، ولؤمهم – بظنهِ – هو الافدح ايلاماً.. وهكذا راح ينوه في قصيدة “دجلة الخير” الشهيرة، عام 1962 الى بعضهم حين قال:
عادى المعاجمَ وغـدٌ يستهين بها، يحصي بها “ابجدياتٍ” ويعدوني
ثم راح – الجواهري – يكرر بما يشبه ذلك، او يقاربه في قصيدته “قلبي لكردستان” عام 1963 وبصراحة مباشرة، ويقصد اصدقاء معروفين – ربما!- لم يقفوا موقف الحق المطلوب، لما عانى منه الشاعر، فقال عنهم، وهو الكريمُ كما يصف نفسه:
لم تنفقئ خجلاُ عيونٌ ابصرت، وجه الكريمِ بكف وغدٍ تُلطمُ
والبيت اعلاه بيّت قصيد في احد مقاطع تلك الميمية العصماء الذي حاول فيه الجواهري أن يوصّف حال التجاوز عليه في عهد مؤسس الجمهورية الاولى، عبد الكريم قاسم. ولم يقف للتضامن مع الشاعر اصدقاء مفترضون، وعصبة مثقفين مقربة منه، كما هو الواجب والمعهود، فقد راحت الغلبة للجحود، واصحابها الجاحدين، مداراة للنعمة، أو تزلفاً للسلطة، أو طفحان حسد، أو لقاء اجر، وغير ذلك من مسببات..
وفي تسلسل زمني، عاد الجواهري عام 1965 الى الموضوع ذاته، من منفاه في براغ، ليعبر بمرارة عن الجحود واصحابه، فقال في رائيته “يا غريب الدار” وهو بمعرض الادانةِ – كما نرى- وإن بدت على شكل تسامح وغفران :
سامحْ القومَ انتصافاً، وأختلق منك اعتذارا
علّهم مثلـكَ في مفترق الدرب حيارى
وكم وكمْ حاول الجواهري – على ما نعرف- ان يتجاهل الجاحدين، وغيرهم من أرباب الذمم المشابهة، ولكنه تفجر في فترات معينة، حين كانوا يتمادون دون ردع، او يكررون مواقفهم، وتحت ما قد يصطلح عليه بحرية الرأي والتعبير، والنقد ( وقلْ التجريح!) وسواها من مفردات يٌخلط فيها السم بالعسل كما تقول الامثال في مثل هذه الحالات .. ولربما كان الجواهري أصلح من عبر عن هذه الحال التي نعنيها، بما قاله في واحد- أو أكثر- من مثل تلك المواقف، ومنها:
بماذا يخوفني الأرذلونَ، وممن تخافُ صلالُ الفلا؟!
أيسلبُ منها نعيمُ الهجيرِ ونفح الرمال وبذخ العرى؟ (4)
قد يكون الجواهري يبالغ احيانا في احتساب اي انتقاد، ونقد لبعض شعره او مواقفه، أو رؤاه، فيعوّدها الى “شيمة” الجحود. تدفعه لذلك: الكبرياء والثقة بالنفس والعطاء الفكري والوطني، دعوا عنكم الرهافة عند اي شاعر، فكيف وهو الذي كان من كان.
ومثلما أسلفنا في سطور سابقات، فقد تشابك الخاص والعام عند الجواهري في الموقف من الجحود والجاحدين. فراح في نقده لتلك الحال، يشيح بوجهه وقصيده عن تسمية اولئك وهؤلاء، ويوجه سياط هضيمته بشكل غير مباشر، وبصورة عامة لأصحاب تلك المواقف. ولكنه ايضا واجه بعضهم بالدلالة، وليس بالاسم الصريح، ومنهم لامعون لم يبخسهم ذلك اللمعان، ومنهم الاديب والكاتب اللبناني سهيل ادريس، حين كتب عنه:
و صاحبٍ ليَ لم أبخَسْهُ موهِبةً، وإنْ مشَتْ بعتابٍ بيننا بُرُدٌ
نفى عن الشعرِ أشياخاً وأكهِلَةً، يُزجى بذاك يراعاً حبرُه الحَرَدُ
كأنما هو فـي تصنيفهم حكمٌ، وقـولُـه الفصلُ ميثـاقٌ ومُستَـنَدُ
وما أراد سـوى شـيخٍ بمُفرده، لكنّهُ خافَ منه حين يَنفردُ..
بيني وبينَك أجيالٌ مُحَكّمَةٌ، على ضمائرها فـي الحكم يُعتمَدُ (5)
ومن المواجهات المباشرة الاخرى على صعيد ما نحن بصدده، نوثق هنا ايضا ما كتبه عن الاديب والكاتب المصري، غالي شكري، والذي كان يبدي للشاعر العظيم وداً ظاهراً في العديد من المنتديات والندوات وغيرها، في بغداد وعواصم ومدن عديدة، فواجهه في رائيته عام 1975 رداَ على تمادٍ بدوافع سياسية، أو غيرها نشره- غالي- في الصحافة حينها، فقال :
آليتُ أُبرِدُ حَـرّ جمري وأديلُ من أمر بخمرِ..
آليتُ أمتحنُ الرّجولةَ يوم مَلْحَمةٍ وعُسر..
ومُساومين على الحروف كأنها تنزيلُ ذِكر
مَدّوا لعُريانِ الضميــرِ يداً بزعمِهِمُ تُعرّي
مـــاذا تُعرّي إنّـهـا شِيَةُ الحُجول على الأغر..
ومخنّثٍ لـم يُحتَسَـبْ في ثيّبٍ خُطبتْ وبِكر
أقعى.. وقاءَ ضميرَه ملآن من رِجسٍ وعُهرِ
كذُنابِ “عقربةٍ” لهـا سُمّ على العَذَبات يجري
غالٍ كأرخصِ ما تكونُ أجورُ غيرِ ذواتِ طُهر
لم يُعلِ قدريَ مدحُه وبذمّهِ لم يُدنِ قدري
وان كان جحود الادباء والكتاب العرب أقل مرارة في تأثيره على الجواهري، بحسب زعمنا، فقد كان ذلك مضاعفا عنده من اقرانهم العراقيين، الجاحدين، والصامتين عن ردع التجاوز والجحود، – دعونا من التكريم والاحتفاء والتقدير- بحسب الشاعر طبعا، وهو صاحب القرار بحسب ما رأى، فكتب بعد مرارة من احدهم (6):
وصَلفٍ مُبرقٍ خَتَلاً، فإن يَرَ نُهزَةً رَعَدا
يزورُك جُنحَ داجيةٍ، يُزير الشوقَ والكَمَدا
فإن آدتكَ جائحة، أعان عليك واطّردا
مشى بلسانهِ شللٌ، ورانَ عليه فانعقدا
يمزّقُ فيك مُجْتَمِعاً، ويُسْمِنُ منك منفردا…
وغافين ابتَنَوا طُنُباً، ثوَوا فـي ظِله عَمَدا
رضُوا بالعلم مرتفَقا، وبالآداب متّـسـدا
وجابوا عالم الفصحى، ولمّوا منه ما شـرَدا..
وهم لا يبسُطونَ يدا، تَميزُ الغَيّ و الرشدا..
يَرَوْنَ الحق مهتضَماً، وقولَ الحق مضطَهدا
وأمّ “الضاد”قد هُتِكَتْ، وربّ “الضاد” قد جُلِدا
ولا يُعنَونَ ـ ما سلموا- بأيةِ طعنـــة نُـفِدا
بهم عَوَزٌ إلى مَدَدٍ، وأنت تُريدهم مَدَدا؟
ومن الوقائع التي نشير لها في السياق، ثورة الشاعر الخالد على الأديب عبد الكريم الدجيلي، الذي كان يسمي نفسه براوية الجواهري، اذ رافقه لسنوات عديدة، وتعرف على بعض خصوصيات وحالات، واذ بها تنشر في كتاب معنون “الجواهري .. شاعر العربية” وقد جاءت فيه- برغم التقييم الايجابي للكتاب عموما- مفردات وجمل ووقائع مجتزأة ومنتقاة بهدف مقصود، بحسب الجواهري، الذي تألم من ذلك بشكل بالغ، وسجله في موقف، أو تصريح، نشرته جريدة “الراصد” البغدادية في النصف الاول من عام 1972 ثم ليقطع العلاقة مع الدجيلي، ويغضب منه، وعليه، مما دفع بالأخير لعدم اصدار الجزء الثاني من الكتاب المعني .
ومن بين ثورات الجواهري العارمة على الجاحدين، وفق تقديره، شملت هذه المرة الكاتب عبد الله الجبوري، بسبب نشره، او اعادة نشره، مطلع الثمانينات الماضية كتابا بعنوان “الجواهري ونقد جوهرته” وعلى اساس انه نقد وتقييم، ولكن الشاعر رأى فيه جحوداً لئيماً، ووثق ذلك ببائية “عبدة الغجرية ” المباشرة، القاسية عام 1982 ومن ابياتها الختامية، بعد ان أوضحت ابيات القصيدة، وصالت وجالت بكل ألم، ضد الجحود والتجاوز:
أَلَا يَا “عَبْدَةَ” الطّرَبِ غَلَوْتِ بِجَفْوَةٍ، فَثِبِي
دَسَسْتِ السُمّ فِي الرُطَبِ ومُرّ الصّابِ فِي الضّرَبِ..
أَعَبْدُ قَضَيْتَ مَعْتَبَةً فَمَا لَكِ بَعْدُ مِنْ عَتبِ
فَعُودي يا ابنَةَ العَرَبِ نَعُـدْ لِسَبَائِكِ الذّهَبِ…
وعن الجحود والجاحدين ايضا، وبالوقائع التاريخية، هاهو الجواهري، يحترز وقبل رحيله بنحو خمسين عاماً من الجحود القادم، وهو لم يفترض وحسب، بل كانت تلك نبوؤة الشاعر الفريد، فجاء في مقصورته ذائعة الصيت عام 1948 :
بَنِيّ إذا الدّهرُ ألقى القناعَ، وصرّحَ من حَسوهِ ما ارتغى
و دالتْ لهمْ دولةٌ كالّتي، لدى الناسِ في وجهها والقفا..
فلا تبخَلوا أنْ تزوروا أباً، جريرتُه أنّ ذُلّاً أبى
ولا تبخَلوا أنْ تَمُدوا يداً، لتحضِنَ منه خيالاً سَرى..
ستدْرونَ أيّ مطاوي البلاءِ نزلنا إليها، وأيّ الهُوى
وأيّ الخصـومِ مَـدَدْنا له، بأيّ الأكفّ بأيّ القَنا
ضربناهُ بالفكرِ حتى التوى، وبالقلبِ حتى هفا بالرّدى
وكانَ القريضُ الذي تقرأونَ أقتلَ مِن ذا، وهذا، شَبا
ثم تلى ذلك توثيق لما كان يحس به الشاعر الكبير من هضيمة وأذى، فعبر عن بعض مشاعر ضمن حوار مع النفس، حين أشتد عليه الجحود المرير من قريبين وبعيدين، فكتب عام 1954 قصيدة بعنوان” خبت للشعر أنفاسُ” ومن ابياتها:
تَرَفّـقْ إنّ جُرحَ القـومِ قتّـالٌ و حسّـاسُ
أثارتْ منـــه أدواءٌ، و أقذاءٌ و أرجاس
تَثَـبّـتْ أيـهـا الإيمـــانُ لا يَطْرُقْــكَ وَســـواس
وقلْ: هل غيرُ ما حَجَرٍ، لآلئُـهُـمْ أوِ المــــاس
ويا صِلّ الرّمالِ السّمرِ، لا يُرْهِبْكَ نسـناس
تجـامـــحْ أيّـهـــا الليثُ فمـا شـأنـكَ إسـلاسُ
ولم تُعْوِزْكَ أظفارٌ، ولم تَخذِلْكَ أضراس
وعندك أشعثٌ لبِدٌ، على كتفيك نوّاس..
فما أنتَ وأصباغٌ مهــــرّاةٌ، و أوراسُ
و قُـدْسٌ غابُـكَ الملتـفّ لـم تُدركْهُ أقـداس
فما أنتَ وأقفاصٌ، بها يَزْحَفُ خنّاسَ
وفي اواسط الثمانينات الماضي يتفجر الجواهري من جديد، وهو في غربته ببراغ، فيكتـب عام 1985 “برئتُ من الزحوفِ” البائية التي لربما يكفي عنوانها ليغني المتبصر بمشاعر الألم والهضيمة لدى شاعر العراقيين والعرب، الاكبر كما ينبغي!. وكلها جاءت مواقف من الجحود والجاحدين، وابناء البلاد منهم بشكل أخص، بحسب رأينا. ومن ابياتها:
وسائلة أأنتَ تُسب جهراً، ألست محج شبانٍ وشيبِ ؟
ألست خليفة الأدب المصفى، الستَ منارة البلد السليبِ؟!..
أقول لها ألا أكفيكِ عبئاً، ألا أنبيكِ بالعجبِ العجيبِ!؟..
برئتُ من الزحوفِ وأن تلاقتْ، تسدّ عليّ منعطفِ الدروبِ..
أأنبذُ بالعراء بلا نصيٍرٍ، نبيلٍ أو أديبٍ أو أريبِ..
فيا لمؤلهٍ فيها غريبٍ، ويا لتعاسةِ البلد العجيبِ
ولكي لا نجافي الحقيقة، والواقع، لا يجوز لنا أن ننسى فلا نشير الى أن في مقابل ذلكم الجحود، راح التفاخر بالجواهري وعبقريته يمتد ويمتد دون مديات، رمزا ثقافيا ووطنياً شامخا طوال عقود. وكان ذلك ما يتباهى به الشاعر العظيم، ويدفعه لمزيد من الابداع والعطاء، قصائد ومواقف وفلسفة، وما بين كل هذا وذلك. ولعلنّا نوجز بعض تباهيه، انه قارن اولئك الجاحدين، بأمة المعجبين والعارفين بفضله في اعلاء شأن الشعر والادب والثقافة ، فراح يقول في داليته عام 1969:
ما ضرّ من آمنتْ دنيّا بفكرتهِ، إن ضِيفَ صفرٌ الى أصفارِ من جحدوا
ثم يحلّ الرحيل، وينجح “الذئب اللئيم” في ترصده الجواهري عام 1997 وتتحقق العديد من أفتراضات وتوقعات الشاعر، بل ان العديدين زادوا من مواقف الجحود، بعد ان أطمأنوا من ثورات الشاعر، أو تصديه ، فخلا لهم الجو، وكنت في بعضها شاهد عيان، دعوني أوثق عجولاً اشارات لها وعنها، وهنّ وإن جاءت منفردة، ولكنها تعبرّ وتعبرّ عن نفسيات ملؤها الجحود، وربما الغدر ايضا:
– شاعر اراد ان يتميز – كما صرح بذلك – فلم يكتب اية كلمة بعد رحيل الجواهري، بينما كان يتزلف له بشكل غير طبيعي خلال حياته !..
– كاتبة تزعم في ندوة عامة بأن الناس احبوا الجواهري، لا لشعره، بل بسبب ادائه المتميز في الالقاء!.
– صحفي كان أكثر جرأة من الجاحدين الاخرين لأنه لم يخفِ انه يريد أن ينشر في صحافة مصر ولبنان، ولا يريد أن يتهم بـالأنحياز الى الجواهري، فراح “ينقده” !.
– وثانٍ متواضع (!) خطّأ الرصافي لأنه قال ان الجواهري “ربّ الشعر” لأنه – اي الرصافي- أكفا منه شعرا!.
– ومحرر مغمور ، أو يكاد، رأى بأن الشعر الحديث ورائده احمد شوقي (!) أنهى (!) شعر الجواهري!.
– وجحودٌ آخر، زعم ما زعم في السنوية الاولى للرحيل فـ”وثــق” عن الجواهري ولم يختر من عشرات فرائد الجواهري، سوى قصيدة ” ته يا ربيع” في مدح ملك العراق فيصل الثاني، والتي كان الجواهري ذاته قد وصفها بـ”الزلة” برغم ان مثقفين وادباء عديدين، من غير “العقائديين” لم يروا فيها اية مثلبة أو منقصة .
وهكذا لدينا عيناتٌ وعينات أخرى عديدة، مما سبقت الاشارة اليه ومنها لكاتب نجفي يسعى لأن يتبرأ من جذوره، لأنه أممي (!) فنال من الجواهري.. كما راح صاحبٌ لذلك الكاتب يبتعد في كتاباته عن الشاعر الخالد، لأن أهل منطقته لا يحبونه، ولم يردْ اغضابهم .. وهكذا تبتسر الامور، ويطفوا الجاحدون .
أما الذين “ظنوا فضنوا” فأولئك لهم تفاصيل قد تطول، وموجزها ان مركز الجواهري عزمَ عشية الذكرى العشرين لرحيل الشاعر العظيم، والتي صادفت في تموز 2017 فتنادت شخصيات ونخبة ثقافية كريمة لأصدار كراس بالمناسبة، يشارك فيه جمع من الادباء والمثقفين والصحفيين والسياسيين، وهذا ماكان، اذ وثق وكتب نحو اربعين من الذوات خلاصات ومشاعر وذكريات لهم مع الشاعر الخالد، وحوله . كما اعتذر ثلاثة كرماء، بكل تواضع عن المشاركة لاسباب خاصة وعامة. اما من “ظـنّ، فضنّ” فهم خمسة معدودون لم يجيبوا ولم يعتذروا، كما لم يساهموا طبعا. وثلاثة منهم، بحسب درايتنا الموثقة، ممن كانوا يحلمون بجلسة دقائق مع الجواهري، ولكنهم – في الزمن الدوار- ظنّوا بانهم باتوا في مكانة ما، فضنّوا بالمشاركة وحتى بالاعتذار، ولا ندري ان كان ذلك يُحسب ضمن معاني و”سمات” الجحود ام لا!.
بقى علينا ان نتوقف بالتأكيد عند بعض وقائع مما كان يستشعره الجواهري الخالد من جحود السلطة واربابها، المعلن منه والمبطن، والذي طالما تناولته اشعاره مرات ومرات، وبشكل مباشر حينا، أو ترميزا في احيان اخرى، وذلك ما نعـدُ ان نخصص له متابعة تكون ضافية كما نأمل، في فترات قادمة .
واخيرا ومثلما ابتدأنا في هذه الكتابة، ولنسمها بالتوثيق، دعونا نكرر مرة ثانية، المقطع المستل من بانوراما ” يانديمي” للجواهري ففيه خلاصة الخلاصة بحسبنا عن مواجع الجواهري العظيم من الجحود والجاحدين:
يا نديمي: لم يبقَ لي ما أُرجّي، غيرُ (ليتٍ)، و(ليتُ) زرعٌ بصخرِ
ليتَ أني لبربرٍ أو لزَنجِ، أتغنّى شجونَهم طولَ عمري
نِصفَ قَرنٍ ما بينَ دُفّ وصَنجٍ
أتُراني كنتُ انتُبِذتُ بقفرِ، وتُجوهلتُ مثلَ واوٍ لعَمرِو؟
لستُ أدري ولا المنجمُ يدري!
——————————————————-
*هوامش واحالات :
1/ من قصيدة (أقول مللتُها..وأعودُ! ) عام 1972.
2/ من قصيدة (ياآبن الفراتين) عام 1969.
3/ هناك توثيق آخر متقارب وذو صلة نُشر لنا في الصحافة والمواقع الاعلامية بعنوان “الجواهـــري،عن ثقافة، ومثقفي التنوير.. والتضليل” في حزيران 2018.
4/ من قصيدة ( المقصورة) الشهيرة عام 1948.
5/ من قصيدة (ياآبن الفراتين) عام 1969.
6/ من قصيدة (أزح عن صدرك الزبدا) عام 1975 .