الرئيسية / مقالات / عراقيون من هذا الزمان (*) / صادق الصايـغ / 15

عراقيون من هذا الزمان (*) / صادق الصايـغ / 15

السيمر / الاحد 24 . 02 . 2019

رواء الجصاني

… ولا ادري ان كان هناك احدٌ أخر يملأ بعض دنيا الابداع العراقية: شعرا وخطا وفنا تشكيليا وكتابة، ولغة أنيقة، في آن واحد، مثل ذلكم الكربلائي – البغدادي، صادق الصائغ، الخارج عن حاجات التعريف التقليدي، بعد ان ذاع صيته عراقيا وعربياً منذ اكثر من ستين عاما، وما برح..

 قلتُ تعريفا تقليديا وأقصد ذلك تماما، فليس الرجل بحاجة لأن اعرفّ به، وأنما هذه لقطات اضافية من مسيرة اعوام، ومحطات جذلى، صادفت ان نكون معاً في بعض جغرافيا وتاريخ، الزمان والمكان وما بينهما، ويعود بدؤها الى عام 1968 وكان عائدا توا الى العراق بعد سنين من الدراسة والاطلاع والعمل والنشاط الثقافي والسياسي في براغ..

   تعارفت وصادق، اواخر الستينات/ مطالع السبعينات الماضية مرات ومرات: عندنا في البيت مع صديقه، لواء الجصاني، أو في فعاليات ثقافية ببغداد، وقد كنا نحن – الشباب!- من الظمئين لها حينذاك، تواقين لكل جديد.. ثم زاد انشدادي له من خلال كتاباته الانيقة بمجلة (الف باء) وغيرها من نشاطات ثقافية، وخاصة بعد اطلاقه (البرنامج الثاني) في تلفزيون بغداد، وكان فضاء جديدا في الشكل والمضمون والاداء، بشهادة جيلنا على الاقل .. وبعد ذلك توسعت المعرفة في صحيفة (طريق الشعب) البغدادية الشيوعية التي أفرج عنها لتكون علنية اواخر العام 1973 وحتى 1979 وكان الرجل مشرفا- متابعا للصفحة الاخيرة منها، الذائعة التميز، وكنت في الصحيفة متطوعا مسؤولاً عن صفحة (الطلبة والشباب) وبعدها في الصفحة (المهنية) المعنية بالعمل النقابي..

  وحين جاء “موسم الهجرة الى الشمال” والجنوب والشرق والغرب، اضطرارا، بعد تفاقم الدكتاتورية وشمولية الارهاب البعثيين، نلتقي اوائل عقد الثمانينات في براغ: صادقٌ يقدم من بيروت/ دمشق ليعمل في مكتب / سفارة فلسطين، مستشارا اعلاميا، وانا مكلفٌ بمهام سياسية وطلابية متنوعة.. وطبيعي ان تتوثق العلاقات الشخصية والعائلية بيننا، وكذلك بعض السياسية والثقافية، ومن بين تفاصيل الاخيرة، النشاطات الخاصة برابطة المثقفين الديمقراطيين (ركص فدع) داخل براغ وخارجها، اذ كان الرجل احد الاعمدة المركزية لتلك الرابطة، وكنت رئيسا لفرعها في بلاد التشيك، لبعض زمن. وأذكر هنا بشئ من التفاخر كيف حولّ صادق نشرة (مرافئ) التي كان “يطقطق” فيها فرع الرابطة، الى اصدار اوربي مميز، كان لقلمه ولريشته، دورهما الاساس في ذلك، فضلا عن علاقاته المتشعبة الوثيقة مع أصحاب “الآنة” فنانين وكتابا ومثقفين، أذكر من بينهم خاصة، الفقداء: زكي خيري ومحمود صبري وعزيز سباهي، الذين كانو يقيمون ويعملون في براغ..

     ثم تأتي “الموجة الصاخبة” الجديدة في اواخر الثمانينات، وينقلب أعلى البلدان الاشتراكية اسفلها، أو العكس، فيضطر صادق وزوجته سعاد الجزائري، ومعهما طفلاهما (1) للبحث عن منفى جديد، ويجدونه في لندن، وننقطع في العلاقة المباشرة، بضعة سنين، بأستثناء زيارة خاطفة يحل فيها الرجل بضيافة صديقه صاحب ناصر، في براغ اواخر التسعينات، وتُنظم له ندوة شعرية ابدع فيها كعهده، كما اعلن الجميع..

     ويبدو ان براغ من مقادير صادق، أو ان صادقاً من مقادير براغ، أذ يعود اليها الرجل اوائل الالفية الجديدة، اعلاميا في اذاعة (صوت العراق الحر) وتعود وشائج الصلة والصداقة، وربما تتوطد حتى، بين لقاءات هنا وجلسات سمر هناك، مع احباء وأعزاء، مؤكد انهم لم- ولن- يملّوا من اريحيات وكنوز صادق الثقافية والفنية والسياسية وخزينه المعرفي . ويعود الرجل الى لندن، ومنها الى بغداد بعد التحرير !- الغزو! عام 2003 مستشارا لوزارة الثقافة، وبؤرة حيوية وعطاء شعريا واعلاميا والكثير الكثير غيرهما ..

    وما بين تلكم الفترة وهذه، نلتقي مجددا في براغ ايضا من جديد لفترة قصيرة، وأخرى في بغداد عام 2010 بضيافة صاحبه العريق نجاح الجواهري، في امسية مرت ساعاتها سريعا، تنوعت بين استذكارات الشباب ومغامراته، والمقارنات بين الماضي والحاضر، واستشرافات المستقبل، وهكذا… ونفترق، لنتواصل بين حين وثانٍ، وآخرهما حين يفاجئنا الرجل بـ ( لوغو) باهـر صاغته يداه الصائغتان، يحمل اسم (بابيلون) ما زلنا مستمرين في اعتماده لمطبوعات دار بابيلون للنشر والاعلام في براغ(2).. ثم أفاجأ مرة ثانية بخط انيق لعبارة ” وصفي طاهر.. رجل من العراق” وهو عنوان الكتاب الذي صدر في براغ عام 2015 (3)..

 يقينا ان كل ما سبق من سطور، ومثلما نوهت في البدء، لا تأتي سوى محطات عجول عن العلاقة مع المبدع المتعدد المواهب: صادق الصايغ، وحوله، وفي الجعبة ايضا ذكريات و(قفشات) عديدة اخرى ليس اقلها بعض مناكداته مع الجواهري الخالد، في براغ، وادائه الغنائي المميّز في جلسات حميمة خاصة، وبصوت يتفق شلال عذوبة لا تبارى، وما احلى “أيا ليلُ الصبِّ متى غده” حين يَطربُ الرجلُ فيُطربُ، وكم أظنّ ان للجينات دورها في تلك الموهبة الغنائية هذه المرة(4). اخيرا فمهما كُتبَ عن الرجل ، يبقى هو الاكفأ والاغنى حين يوّثق – ولو ايجازا على الاقل- للتاريخ بعض رحلته وعطائه الممتد منذ اواسط الخمسينات والى البارحة، بل واليوم، دعوا عنكم عوالمه الرحيبة الاخرى …..

   —————————————————— بــراغ / اواخر شباط 2019

(*) تحاول هذه التوثيقات التي تأتي في حلقات متتابعة، ان تلقي اضواء غير متداولة، أو خلاصات وأنطباعات شخصية، تراكمت على مدى اعوام، بل وعقود عديدة، وبشكل رئيس عن شخصيات عراقية لم تأخذ حقها في التأرخة المناسبة، بحسب مزاعم الكاتب.. وكانت الحلقة الاولى عن علي جواد الراعي، والثانية عن وليد حميد شلتاغ، والثالثة عن حميد مجيد موسى والرابعة عن خالد العلي، والخامسة عن عبد الحميد برتـو، والسادسة عن موفق فتوحي، والسابعة عن عبد الاله النعيمي، والثامنة عن شيرزاد القاضي، والتاسعة عن ابراهيم خلف المشهداني، والعاشرة عن عدنان الاعسم، الحادية عشرة عن جبار عبد الرضا سعيد، والثانية عشرة عن فيصل لعيبــي، والثالثة عشرة عن محمد عنوز، والرابعة عشرة عن هادي رجب الحافظ … وجميعها كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل..

1/ لصادق وسعاد ثمرتان: الاولى جعفر، والثانية زينب، وكلاهما مولودان في براغ.

2/ اطلق الكاتب، وعبد الاله النعيمي مؤسسة “بابيلون” في براغ اواخر العام 1990 وهي تستمر في نشاطاتها الى اليوم.

3/ المؤلف المعني من توثيق وكتابة الفقيدة نضال وصفي طاهر، ورواء الجصاني.

4/ قد لا يعرف الكثيرون ان صادقاً هو أبن اخت المثقف والفنان العراقي المبدع عزيز علي، مؤلف وملحن ومؤدي الـ “منالوجات” الشهيرة في خمسينات القرن الماضي.

 

 

 

صادق الصائغ

اترك تعليقاً