السيمر / فيينا / الجمعة 28 . 06 . 2019
حسين أبو سعود
أين أنا من شيراز وليالي شيراز وقد القى بي الزمان في اقصى المنافي الباردة ؟، ولكن عندما يدور الزمان دورته تصبح كل المستحيلات ممكنة، وكل الصعاب سهلة، وهكذا وجدت نفسي في مطار المدينة تنتظرني ارملة شاعر شيرازي رحل الى العالم الاخر حزينا كما يرحل الشعراء، كانت تتكئ على عصا محفورة بالزخارف ومعها ابنها الشاب الذي يهوى الشعر هو الاخر، وللشعراء طقوس دافئة في الاحتفاء بالضيوف والترحيب بالغرباء.
اذن انا في شيراز، الحلم القديم، مدينة الكلمة الانيقة والعبارة الرشيقة والحروف المنمقة الممزوجة برائحة النارنج والورد الجوري المكتنز، شيراز سعدي وحافظ وعدد آخر كبير من الشعراء والخطاطين والفنانين والموسيقيين والمغنين والعشاق.
بعد قليل تغرب شمس شيراز ويبدأ المساء الملون وبعده الليل الطويل الجميل، كنت متعبا من السفر، وبعد كل ما يمكن تقديمه لمسافر قادم من الصقيع قيل لي هذه غرفة الشاعر الراحل وهذا سريره، هذه كتبه ودواوينه وهذه مثنوياته وقوافيه على الجدران وعلى النوافذ وعلى أطراف السرير.
ألقيت بنفسي على السرير، وأرحت رأسي على الوسادة، وصرت أقرأ في أبيات نزلت عليّ من اجنحة المروحة المعلقة في السقف:
اعطيتك للماء، فلوثتك تلاطم الأمواج
أجرّك نحو الشعر كي تدخل سفر الخلود
كل شيء بدأ من لا شيء
انا لم أكن أؤمن باي شعر واي دين، الامر ليس مضحكا
انظر اين اوصلنا لا شيء واحد
شعرتُ باني سأنام يقظا هذه الليلة، ثم رأيت فيما يرى النائم وكأن سفينة شراعية رست على شاطئ البحر، بحر شيراز، ولكن لا بحر في شيراز، لا أدرى رست السفينة على شاطئ بحر، أحب السفن عندما تلقي المراسي على الشواطئ وإذا بنساء او قل فتيات فارعات جميلات يرتدين ملابس شفافة ملونة تبرز كل المفاتن، بيضاوات وسمراوات، أبنوسيات، قمحيات، تمر الواحدة منهن امامي تحرك راسها وكأنها تؤدي التحية مع ابتسامة منعشة، فتيات من كل بلاد الأرض، اصطففن امامي على وقع موسيقى إيرانية حزينة تشبه تلك التي تصاحب القاء شعر حافظ وسعدي.
قالت احداهن: نحن جئنا لنأخذ حافظ وسعدي الى جزيرة بعيدة يهيمن الربيع على فصولها الأربعة، وفيها الأنهار العذبة والطيور المختلفة، فيها حوريات الأرض، جزيرة أعدت للشعراء، شعراء العالم الذين يموتون، فرأيت الشاعر حافظ ينهض من قبره ملفوفا بقصائده العصماء ليرفض مغادرة الضريح، كما باقي شعراء الأرض الذين رفضوا ترك قبورهم:
- كيف اغادر واترك الأرواح التي في القبور من حولي، انهم ارباب الرسم والغناء والخط والزخرفة والشعر؟، كيف اغادر أشجار النارنج من حولي، هذه الأرواح التي حلت بفنائي تلوذ بي كل ليلة عندما ينزل القمر وتقترب النجوم من الأرض، كيف اترك العشاق الذين يأتون بمعية معشوقاتهم الى هذا الضريح كل يوم وليلة؟
- لن اغادر ولن يجبرني شيء على المغادرة واشعاري تحوم حول قبري كل صباح ومساء تختلط بترانيم الكمان والعود والسنطور والقانون.
نساء الجزيرة الفاتنات تقدمن نحوي، احطن بي عن قرب، صرت اشم رائحة الانوثة المنبعثة من اجسادهن واشعر بحر انفاسهن، يا إلهي كيف افعل بين هذه الأجساد المكتنزة والصدور الناهدة؟ شعرت بأنني في منجم من الشهوات، دعتني احداهن الى مرافقتهن في السفينة المبحرة الى جزيرة النساء، قررت في اعماقي ان لا اذهب لوحدي مع عشرات النساء في آن واحد رغم الكبت والجوع والشبق، لا اثق بهن البتة:
-اعتذر عن المجيء فانا لست بشاعر ولا علاقة لي بأي باب من أبواب الفن، ولست من اهل شيراز انا عابر سبيل، ثم أني قد تجاوزت الستين انتظر مصيري القريب.
فقالت أجملهن: لا بأس يكفي أنك رجل ولا رجال عندنا في الجزيرة، ونحن نعيش في عذاب ولوعة، نريد رجلا او رائحة رجل
دمعت عيناها، تسللتُ من بينهن لأتخلص من حركاتهن التي يندى لها الجبين.
توجهت الفتيات وهن يحملن معهن باقات من النرجس وشتلات النارنج بانكسار واسى وخيبة نحو السفينة التي صارت تبتعد عن الساحل شيئا فشيئا.
فجأة نما الى اذني صوت الاذان فاذا به ينبعث من مآذن ضريح (شاه جراغ) وإذا بي ملقى على فراش شاعر ارتحل من هذه الدنيا قبل سنين.
لن انام بعد اليوم على أسرّة الموتى ولا على أسرّة الشعراء.