أخبار عاجلة
الرئيسية / ثقافة وادب / منعطف الرحلة في الزمن الصعب ..

منعطف الرحلة في الزمن الصعب ..

السيمر / فيينا / الثلاثاء 09 . 07 . 2019

كفاح الزهاوي                  

كانت الغيوم المتناثرة في فسحة السماء، عاجزة عن حجب حضور الشمس وظهورها، وهي تصب بأشعتها البنفسجية على أجساد الكون العارية. والصخور القابعة منذ آلاف السنين في تلك البقعة النائية، تفرز من أجسادها مخزون الحر، حيث تبدو على مرمى البصر كأنها ألسِنة نيران بيضاء، او أبخرة ماء مغلي، قد انبلجت، و تصاعدت رويدا رويدا، فشكلت حزمة من الهواء الساخن، تنساب عبر أخاديد الصخور، تلسع بشرة الوجه، فتترك خلفها لمسات خشنة. 

     في ساعة من تلك الظهيرة، خيم السكون على سفوح الجبال ووديانها، ما عدا خرير الماء، ينزل من ينابيع الجبال، وينساب نحو الوادي باتجاه الصخور المشبعة بالماء من سحيق الزمان. 

     حان الوقت لينطلق مع الريح، شاب في الثلاثين من عمره، متوسط القامة، ذو شعر اسود كثيف ، مشرق الوجه، متهلل الاسارير، وتحت انفه البارز ينبت على شَفته العليا شارب، قوي البنية، سريع الحركة تنسجم مع هيئة رياضي، وضع حقيبته الصغيرة على ظهره وهو يستعد للرحيل قاصدا هدفه عبر الطرق الجبلية الوعرة .   

   تحرك باتجاه المنحدرات المليئة بالنتوءات المدببة، البارزة من الصخور الصلدة، تاركا خلفه تلك الوديان، التي عاش فيها، وقضى جل شبابه في الدفاع عن القيم، واصل سيره تحت وهج الشمس المشرقة، يجتاحه القلق، كلما اتسعت المسافة مع مرور الزمن وابتعاده عن نقطة انطلاقه.. قبل ان يتوقف ليفاجئ بقطع صخري استوقفه ليصده ويمنعه من التقدم وجعله حائراً..

   ظل واقفاً فوق صخرته واجما جامدا بغير حراك، كأن قدميه لصقت بالأرض . تشنجت عضلات حنجرته لبعض الوقت، بقيت الكلمات تتزاحم في دهاليز فمه، تتسابق وتصطدم ببعضها، من أجل ان تخرج إلى الهواء، ما لبث ان جف حلقه. انبسطت عضلات حنجرته ، وعادت لصوته قوته وراح يستعيد هدوءه وتفاؤله وإصراره على مواصلة المشوار..  

     بدأ يحدث نفسه بألم يشوبه شيء من الندم

– اي ريح لعينة قادتني في هذه الساعة الى هذا العبث المفاجئ، وأنا أشق طريقي في المنحدرات المعقدة للجبل .

ثم قال بعد ان أطلق زفيرا عميقا، كأنه يزيح عن كاهله هما ثقيلا يجثم على صدره:

– أي حظ بائس هذا؟ .. جعلني ان اكون وحيدا في هذا العالم، حيث أصبحت عاجزا عن التطلع للأمام.

فاضت من مقلتيه دموعا اشعرته بالوحدة.. وأردف محدثا نفسه بعتب:

– ما هذا السكون الغامض الذي يجثم على النفوس، كأن الجميع صامتون وأموات.  

     شرع يجول برأسه يمينا ويسارا في وجل ، كأن هناك مَنْ يناديه، و صدى لأجراس تقرع في هذا الخلاء مخترقة جدار الصمت والسكون، حاول معرفة مصدر الصوت قبل ان يخفت و يتبدد.

     وبينما كان يواصل السير بخطوات حثيثة في الطرق الوعرة بين الصخور القاسية، التي تفتقد لأية آثار من أقدام بشرية سابقة ، مما تطلب التركيز وبذل المزيد من الجهد كي يتمكن من مواصلة المسير خطوة بعد أخرى تحت أشعة الشمس الحارقة، التي كانت تبعث نيران حرارتها في ذلك اليوم اللاهب، فتتدفق معها قطرات عرق من ثقوب بشرته.. لتزيد من لزوجة جسده المتعب وهواجسه الحائرة في تلك اللحظات الحرجة . 

   وفي لمحة بصر تتالت في ذهنه أفكارا وهواجس تتناغم بين الافراح والأشجان، لتلطم مزاجه وتجعله متقلبا وحائرا .. انعكس قلقه عبر الأحداق، وهو ينظر نحو الوادي العميق، ليقرر في لحظة الاختيار.. لم يكن امامه المزيد من الوقت وعليه ان يحسم موقفه في هذه الومضة من الزمن العصيب ليجد طريقاً للخلاص.

ـ الأشياء تذبل و تضمحل وتندثر . قالها بصوت خافت

     تناهى الى سمعه، حفيف أوراق الاشجار المتفرقة على المنحدرات الجبلية، تحركت ، بعد ان عصفت بها ريح ثقيلة في فسحة الوادي. اشرأب بعنقه، وحرك نصف جسده العلوي للأمام، حتى يمنح عينيه فرصة التمعن كي يتحقق من قدرته على اجتياز الامتحان، فهو يدرك مخاطر الرهان، وعندما استقام بجسده وتراجع خطوة الى الوراء، غفل عن باله الحقيبة التي على ظهره ، ارتطمت بالجدار الصخري للجبل فاختل توازنه، ومال بجسده إلى الأمام، وحاول جاهدا تحريك يديه ليحتفظ بتوازنه، كاد ان يحلق كطير مجروح الجناحين في فناء الوادي السحيق . استبد به الهلع، أراد ان يصرخ، لكنه احتفظ بقدرته على التوازن .

  

     قال بصوت متهدج

– حتى لو صرخت بأعلى صوتي، من سيسمعني في هذا الخلاء الموحش. وأضاف.. لا استطيع البقاء في هذا العراء طويلا، لن اسمح لهذا الوادي اللعين أن يلتهمني ويضع نهاية لحياتي..

   

     تناهى الى سمعه نقنقة قبج جبلي اخترقت جدران الصمت جعلته يكتم صرخة اليمة في نفسه. كان يخشى من ان يقبل الليل، و يبقى جاثما في مكانه وحيدا بلا حراك يواجه الموت. الآلام تجتاحه كبحر تسونامي يصنع الفزع وينتج الهلاك..

  

   نظر الى الأشجار الصامتة التي تحملت غضب السماء وعواصف الطبيعة الهوجاء، إلا أنها نمت وقوى عودها بصبر واناة، وهكذا الحال عندما يتعلق الأمر بقراره عليه ان يكون كتلك الأشجار الصامتة ويستمد منها الصبر والقوة

..

 

   ففي تلك اللحظات تناثر الشعاع من قلبه مثلما تتناثر ندف القطن في الهواء. ارتفع منسوب الضياء المبهج ليزيح الصمت ويمنحه العزم على اتخاذ القرار. ارتعشت الأشجار على قمة الجبل وفي السفوح لتسقط المزيد من الاوراق الميتة في الهواء كأنها أم تبكي ولدها.. أَلَمَّ به احساس طفولي وهو ينظر للأوراق المتساقطة كأنها دموعا تتناثر من عيني امه في تلك اللحظات .

   

     وفي غمرة هذا الصراع للبحث عن مخرج، طاف بذاكرته بصور لرفاق السلاح، وهم يقارعون الظلم و يتشبثون بالنور، كانوا ينطلقون بمفارز صغيرة في الظلام ليشقوا طريقهم في المسالك الجبلية الوعرة، و الشاهقة، المتصلة بالسماء الغائمة، وهم يحملون هموم وجراح الوطن، وينشدون بزوغ الفجر، ويزرعون الآمال والأحلام الجميلة بين الناس وهم يتدثرون بين الصخور والكهوف الجبلية ويتحركون وسط كثافة الأشجار .. كانوا ولازالوا ثواراً و صوتا هادرا للشعب ضد الجور والطغيان، و الظلم والجوع.. وبشرا يتدفقون بالحيوية يتطلعون للحرية يستمدون يقينهم من شعاع الشمس.

   

   أجساد نحيلة بصلابة الفولاذ، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. لا يملكون شيئا في الحياة، سوى هذا الهواء النقي الصافي، ليرفدهم بديمومة الكفاح، يواجهون أهوال الزمن، بنكران الذات، ويتحدون صعاب الجبال وشعابها، يتجولون في السهول المنبسطة و الواسعة، تحت زخات المطر ، والعواصف الثلجية الغاضبة، ونيران القنابل، بإيمان مطلق لا يلين ولا يستكين .

 

   ذكريات وذكريات تتراكم وتختلط مع الالام في زحمة الطريق تحولهم لنجوم متلألئة في فضاءنا الرحب لتنير دروب الكادحين والسائرين، نحو الانعتاق و الحرية. يواجهون الموج و يخوضون الصراعات، وهم يخطون للمستقبل بثقة، رغم الصعوبات والمحن والكوارث التي تسعى لخلق اليأس وفرض الاستسلام للبؤس.

  ما اصعب تلك اللحظات العصيبة، عندما ينفصل الإنسان عن المجموعة الثائرة ، ويلقى نفسه وحيدا في مواجهة تحديات وقسوة الطبيعة. لابد من وجود الارادة القوية، والنظر الى الأفق البعيد، وترى اوتار الحياة، تصنع الحانا، و تعزف سمفونية الامل، .. كربيع بهي قادم تتراقص فيه الزهور والطيور . يتساقط الرذاذ، فينعش الأرض، ويتصاعد عبق رائحة أشجار الصنوبر، يزيل من وطأة احزاننا، وتزيح همومنا وتمنحنا الرؤية و التركيز لننظر للسماء والشمس المتوهجة، الزاهية. كي ننسى الكوابيس المزعجة، ونطوي الصفحات المرعبة، ونمسح صور الموت من ذاكرتنا المتعبة وكل المعوقات التي تعترض خطواتنا..  

 انها لحظة ولادة وتجلي، في لمحة من البصر، ارتفعت القدم لتسقط متشبثة بالصخر.. الذي أصبح نقطة الخلاص والانتقال لمواصلة واستكمال بقية خطوات المسيرة.

 

اترك تعليقاً