الرئيسية / مقالات / الحالة العربية بين التشاؤم و التفاؤل : الثورة في ضمير المستتر

الحالة العربية بين التشاؤم و التفاؤل : الثورة في ضمير المستتر

السيمر / فيينا / الاربعاء 20 . 11 . 2019

د . لبيب قمحاوي / الاردن

التشاؤم و التفاؤل نقيضان يعيشهما كل عربي حر بشكل يكاد يكون يومياً . الكثيرون يأخذون منحى التشاؤم باعتباره المسار الحقيقي و الواقعي للحال الدامي والمنهار الذي تعيشه معظم الدول العربية و شعوبها ، و البعض الآخر يختار التفاؤل ولو من بين براثن الانهيار و الظلم و الفساد ورماد الكرامة و العزة الوطنية على أمل أن يحصل شيء ما قد يؤدي الى التغيير نحو الأفضل .

سواء بسواء التشاؤم و التفاؤل لن يغيرا من الأحوال بقدر ما قد يساهما في تنفيس الإحتقان و الغضب أو إضافة بعض السكينة على النفوس المضطربة و الأسيرة لما يجري لها وحولها من كوارث و نكبات تجعل كل يوم ينقضي أفضل من اليوم الذي  يليه .

الانتفاضة في فلسطين مثلاً لم تؤدي الى تحريرها أو تحريرأي جزء منها بقدر ما ساهمت في تدمير مفهوم الاحتلال الهادئ و في اعطاء الفلسطينيين جرعة من الأمل و التفاؤل . والربيع العربي أعطى الجماهير العربية جرعة من الأمل بإمكانية تغيير واقعهم السيئ المحكوم بالإستبداد و الفساد الى واقع جديد قد يكون أكثر انسجاماً مع آمال الشعوب في الحرية و الشفافية و الديموقراطية . ولكن الأمور إنتهت حتى الآن الى أوضاع إما أحسن بقليل أو أسوء بكثير . ولكن لماذا ؟ و أين تكمن حقيقة الخلل في كل ذلك ؟

  هل المشكلة في أصولها وراثية  ناتجة عن خلل في الجينات العربية كما اقترح       وكتب أحد العلماء العرب قبل عقود قليلة ؟ أم هل هي مشكلة حضارية ؟ أم نتيجة تغول و استمرار عوامل الظلم و القهر و الفساد ؟ أم نتيجة الاستعداد الفطري لدى العرب للإنصياع و إطاعة أولي الأمر ؟ أم نتيجة هذا و ذاك مضافاً إليها جرعة قوية من التآمر الخارجي بأشكاله المختلفة ؟

البحث عن الحقيقة قضية مضنية وغالباً ما تكون مؤلمة لأنها قد توصل الباحث إلى ما يخشى أن يكتشفه ولا يرغب في داخله أن يكون هو الحقيقة أو حتى جزءاً منها .

الموروث الحضاري العربي عبقري في إنجازاته التاريخية والعلمية بأشكالها المختلفة ، ولكنه ضعيف جداً في موروثه السياسي ، وهو رغم توثيقه التاريخي من قبل الحكام و المنتصرين ، إلا أنه ما زال يعبق برائحة الفساد و الاستبداد و الاستغلال و الانحطاط في السلوك الشخصي للحاكم و الذي ابتدأ بعد حقبة الخلفاء الراشدين و الى الحد الذي جعل من حاكم بسيط ولكن مستقيم و متواضع مثل عمر بن عبد العزيز أسطورة في العدل و الزهد و التقشف مقارنة بمن سبقه و لحقه من حكام العرب المسلمين . إن اختراع الأكاذيب و القصص و الحكايات لن تستطيع أن تخفي بالنتيجة فساد أولئك الحكام لأن الفتوحات و الانتصارات  العسكرية لا تصنع حكاماً عظاماً .  فالعظمة  يصنعها نجاح أولئك الحكام في معركة الحكم وهي معركة مستمرة تتطلب قدراً كبيراً من العدالة و المشاركة و الشفافية المستمرة و الحكمة  في إدارة شؤون الدولة .

المسارالعربي يفتقر إلى الصورة الزاهية لثورة الشعوب على حكامها الفاسدين و المستبدين . إن طاعة الله و طاعة الرسول هي أمور دينية لا تقبل النقاش ، ولكن طاعة أولي الأمر هي أمر دنيوي يقبل النقاش بل و يستدعيه إذا كان الحاكم ظالماً مستبداً أو فاسداً أو فاجراً . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق تستدعي ، بالقياس ، أن لا طاعة لحاكم في فساده و استبداده و ظلمه لشعبه . إن إعادة كتابة التاريخ العربي و إعادة النظر في مقاييس الحضارة العربية قد تكون هي البداية الصحيحة لمعرفة أين نقف كعرب من أنفسنا ومن تاريخنا و دورنا المفقود منذ قرون في بناء الحضارة الانسانية مجدداً و عدم الاكتفاء بما انجزه العرب المسلمون قبل ما يقارب من ألف عام .

ما الذي جرى و جعل القليل من الظلم إنجازاً وقفزة نوعية مقارنة بالكثير من الظلم الذي يمارسه معظم الحكام العرب معظم الوقت ؟ الظلم في هذه الحالة يبقى هو   الأساس ، وضعف القاعدة الجماهيرية العربية و إستسلامها لإرادة الحاكم يبقى هو  واقع الحال، و إلى الحد الذي جعل الانتقال من ظلم كثير الى ظلم قليل أمراً بيد الحاكم يختاره و يمارسه في أي وقت يرغب ، و يحجبه ايضاً في أي وقت يرغب ، معتمداً  في كل ذلك على ضعف القاعدة الجماهيرية في مقاومة إرادة الحاكم تلك و إستبداده المتنامي .

التاريخ العربي يحتوي على الكثير من حالات ظلم الحكام و استبدادهم وفي المقابل القليل من ثورات الشعوب على مثل أولئك الحكام . وفي حين ثار الفرنسيون و الانجليز و الامريكان على حكامهم من خلال ثورات شعبية حقيقية غيرت مجرى الأحداث في بلادهم و غيرت مجرى التاريخ ، علماً أن تلك الشعوب دفعت من أجلها أثماناً باهظة من الدماء و التضحيات ، إلا أنها في النهاية غيرت مجرى حياتها و مجرى تاريخ الإنسانية . أين ثورات العرب في المقابل ؟ الانقلابات العسكرية ليست ثورات حتى و لو قرر البعض أن يطلق عليها ثورات فذلك لا يجعل منها ثورات .

ما جرى مؤخراً في السودان و تونس يقترب قليلاً من مفهوم الثورة ، وما يجري الآن في لبنان و العراق يحتاج الى الكثير حتى يتحول الى ثورة . ان بذور الغضب لا تصنع الثورات و لكنها تساعد على إنطلاقها . الثورة الحقيقية تعني تغييراً سياسياً و اجتماعياً كاملين من خلال استبدالهما بشئ جديد و فاعل و ليس تدميرهما وحسب . و الثورة يجب أن يكون لها منظرين و مفكرين و قيادة شعبية ميدانية و أهداف واضحة و قدرة على الاستمرار حتى الوصول الى الهدف . التدمير سهل و البناء صعب جداً. وما حصل مثلاً في ليبيا و اليمن هو تدمير لأن التخلص من الحاكم أمراً سهلاً و لكن الأصعب هو النجاح في خلق نظامٍ بديلٍ قادرٍ على العمل بنجاح .

النزعة الى الاتكال على الآخرين طلباً للمساعدة أو لوم الآخرين لما هم فيه من مآسي هي من سمات العرب في العصور الحديثة و التي تنشد الخلاص بأبسط التكاليف . التوكل على الله الخالق هو أمر طبيعي لأن حالة التوكل تلك تترافق مع العمل و التضحية التي يقوم بها الفرد متوكلاً على الله للمساعدة في نجاح المسعى . أما الاتكال فهي صفة سلبية تلازم عدم الفعل و ترجو أن تصل الى النتائج المرجوة من خلال التمني دون فعل أي شيئ حقيقي ، مثل تمني البعض أن يأتي زلزال و يدمر اسرائيل و يخفيها عن الوجود و تعود الأوطان ، أو أن يأخذ الموت حاكماً ظالماً مستبداً من منطلق و كفى الله المؤمنين شر القتال .

الاتكالية تلازم غياب الاستعداد للعمل أو التضحية و تلك هي الطامة الكبرى التي ألقت بظلالها على العرب المسلمين لقرون طويلة . و عندما قال الشاعر أحمد شوقي( وما نيل المطالب بالتمني – ولكن تؤخذ الدنيا غِلاباً ) فإنه إختصر بعبقرية أحد أهم المشاكل التي يعاني منها العرب الآن من موروثهم الحضاري .

العرب بحاجة الى إعادة بناء مفاهيمهم الحضارية و الانتقال بها الى العصر الحديث و إلى ما يؤدي الى خدمة مصالحهم و أهدافهم . فالاطار العقائدي يفقد معناه و فعاليته إذا ما افتقر إلى منظومة حضارية تحتضنه في مسعاه للوصول الى الأهداف المنشودة . فالوحدة بين مصر و سوريا مثلاً والتي جاءت من فوق على موجة جماهيرية عاطفية انهارت تماماً كما جاءت ، بقرار من فوق ، و لم تتمكن الجماهير من فعل شئ لاستعادتها و الحفاظ عليها . وحتى الأحزاب القومية الجماهيرية اختارت  الانقلابات العسكرية بديلاً عن الثورة الجماهيرية كمسار و كوسيلة للتغيير . وقامت بالتالي بالتسليم الفعلي لمقاليد أمورها للعسكريين بديلاً عن الجماهير لأن ذلك المسار الانقلابي كان في نظرهم الخيار الأسرع لإستلام الحكم ناسين أو متناسين الثمن الباهظ لذلك الخيار على مستقبل النضال العربي و حركة التغيير كما كان يجب أن تكون من خلال ثورات جماهيرية حقيقية . والعرب الآن يجنون تبعات ذلك الخيار البائس لحزب البعث العربي الاشتراكي في حينه والذي جعل من الانقلابية العسكرية وسيلة التغيير الوحيدة .

الانقلابية عوضاً عن الثورة هي الخيار المريح ، على ما يبدو ، للكثير من العرب الذين تصرفوا بروح الإتكالية التي تهدف الى التغييرمن خلال الآخرين و دون أي داع لتقديم التضحيات . والاتكالية تصبح مع مرور الوقت الأرضية الخصبة لنمو السلبية الانهزامية في أوساط الشعوب ، وهو ما يميز الحال العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بداية القرن الحالي . وقد سَهَّل هذا الوضع الأمر على الحكام المستبدين الذين أخذوا تدريجياً بمصادرة دور شعوبهم و تجسيدها في شخصهم وأصبح   الحاكم بذلك هو كل شيئ و الشعب تحول بالتالي الى صدى للحاكم و ظلاً  له .

المهمة الآن ثقيلة ، فعلى الشعوب العربية النجاح في تغيير نفسها و مسارها و أولوياتها إذا ما أرادت أن يتم التغيير من خلالها . فالطائفية في لبنان في أصولها ليست قراراً شعبياً بقدر ما هي قرار استعماري تَوّجَهُ رغبة زعماء الطوائف في أن يكون كل واحد منهم ومن بعده ابناءه ملوكاً على طائفته ، و أصبح لبنان بذلك إطارا للطوائف وليس دولة لبنانية و شعباً لبنانياً . المعركة الآن تدور حول عودة لبنان الى أصوله كدولة لها هوية وطنية لبنانية و كشعب لبناني يتصرف بتلك الصفة و ليس من خلال صفته الطائفية . المعركة في لبنان الآن هي بين الشعب اللبناني و ملوك الطوائف جميعاً ومن هنا صحة الشعار الشعبي لما يجري الآن  “كلن يعني كلن” . ونفس الشي ينطبق على العراق وإن كان بدموية ملحوظة بحكم تشابك و تعارض مصالح أكثر من دولة أجنبية تعمل الآن بقسوة دموية على الأرض العراقية و تحاول أن تحمي مصالحها من خلال الإبقاء على المحاصصة الطائفية وأيضاً من خلال القمع الدموي للشعب العراقي المطالب بعودة هويته الوطنية العراقية كأساس للنظام السياسي .

التغييرالحديث نحو الثورة الجماهيرية لم يجئ نتيجة تطور قناعات شعبية بعدم صحة الاتكالية و الانقلابية حصراً بقدر ما جاء نتيجة وصول الشعوب إلى الحضيض و تمادي الحكام في فسادهم و جبروتهم دون أي اعتبار لمعاناة شعوبهم .  وهكذا ، فإن ما يجري الآن يبقى تطوراً يفتقد إلى الجذور الحقيقية المطلوبة لأن التغيير جاء كردة فعل وانعكاس لحالة القنوط و الغضب وليس نتيجة لتغيير مفاهيم الشعوب بهدف استعادة دورها ، وكتطور طبيعي لما يجب أن تصبح عليه الأمور في شكلها الصحيح .

*مفكر عربي

18 . 11 . 2019

اترك تعليقاً