السيمر / فيينا / الاثنين 13 . 04 . 2020
د. نضير الخزرجي
منذ أن أعلنت الصين اكتشاف فيروس كورونا (كوفيد 19) (COVED 19 – Coronavirus) المميت انطلاقا من مدينة ووهان نهاية كانون الأول ديسمبر 2019م، وحتى اليوم، فإن حال الكرة الأرضية انقلب عاليها سافلها، وحل الفيروس كل بقاع الأرض، ولم تسلم أمَّة منه، وهو فيروس حصد أرواح عشرات الآلاف وهو في أول انتشاره، وصار البيت أحلاس الناس، فالدوائر معطلة والمعامل أغلقت أبوابها، وكبست دور العبادة على أقفالها، والمدارس والكليات صار التدريس فيها عبر شبكات التواصل الإجتماعي (النت)، والنوادي الرياضية والحانات والمقاهي ودور السينما والمسرح ودور البغاء كلها أخلدت إلى الراحة وأراحت الكثير من النفوس القلقة، ولم يعد حديث الناس سوى حديث الكورونا والحجر الصحي الطوعي والقسري.
وانقلبت عادات السلام والتحية رأسا على عقب، فما عادت الوجنات الخشنة والرقيقة تستقبل أفواه الرجال ولمى النساء، ولا الأكف تتشابك بالأكف، ولا الأنوف تلامس الأنوف، ولا الصدور تضم إليها الصدور، وما عاد الحلاق يلامس من الناس الشعور، ولا الحفافة تكشط من الوجه القشور، ولا الخاطبة تكشف من الغواني النحور، وأطفأت صالات الأفراح أنوارها وتركت خلفها الحبور، وغلٌّقت قاعات الفواتح والترحيم أبوابها تاركة غصة في الصدور، وما عاد الفقيد يُرفع على الأكتاف وندر خلف جنازته الحضور، وصار الناس أخوف على أنفسهم من نقل الميت الى القبور، وامتنع البعض عن دفن المغدور بالكورونا في مقابر قريبة عن الدور، وصارت المشافي كلها طوارئ تستقبل المصابين، واكتظت مكاتب الموتى بالجثامين، وحتى الذي أصابته الجائحة عزّت عليه النائحة، ومن نجا من الغائلة زُفَّ إلى بيته كما تزف العروس إلى عشِّ الزوجية.
إذا نام الواحد منّا لا يأمن على نفسه إذا أصبح، وإذا أمسى صعقه خبر رحيل قريب أو صديق، فيظل يتحسس الكورونا وهو على وسادته، لا يدري متى يأتي إليه قدره أو يحل في ناديه أجله، وكنا قرأنا من قبل أن الطاعون حلّ بالبلد الفلاني والبلد العلاني، وكان الواحد منهم يخرج من بيته لابسا كفنه لا يدري أيرجع أم يصطاده سهم المنون، وعند ذاك هو وحظه من عالم القبر أيُدفن أم يظل على قارعة الطريق تنهش في جسده ذؤبان البيداء وغربان السماء.
وإذا كان هذا الوجه المظلم من الكورونا، وهو قليل مما ذكرت من تداعياته وآثاره الصحية والبدنية ناهيك على انهيار الحالة الإقتصادية وتضرر أصحاب الدخل المحدود والأجرة اليومية، فإن الوجه الآخر منه فيه الأمل حيث أعاد للناس أهمية الطهارة المائية الذي جعل الله من الماء كل شيء حي، فكما يطفئ الماء أوار النيران وجمر الحطب فإنه يدفع عن البدن آثار الكورونا وحرِّ النصب، ففي الغُسْل دفعا للفيروس إن أراد أبدان البشر وفي الشرب رفعا له إن أكمن في الفم وما حشر، وعاد كثير من الناس شبابا وشيبة يتعلمون أبجدية الغسل كالطفل في مدرسة الوالدين يعلمونه غسل اليدين بعد الإستنجاء والإستبراء والعودة من ساحات اللعب وقبل تناول الغذاء، عودة جديدة إلى ألف باء الطهارة المائية، حتى لقد اطلعت على برنامج ألماني توضح فيه معدته وعلى الهواء وبالوسائل الإيضاحية العلاقة بين المرض والإستنجاء والفرق بين الأدوات المستعملة في الغرب والشرق، وانتهت الى القول بحضور خبراء صحة أن الأجداد كانوا يتطهرون بحشائش النباتات والأعشاب، ثم تطور الى الورق الصحي الذي لا يخلو استعماله من نقل الميكروبات والفيروسات، وانتهت الى صريح القول بأن الطهارة المائية التي جاء بها الإسلام هي أفضل طهارة حيث لا يترك الماء أثرا سيئا كما تتركه الأوراق الصحية في المناطق الحساسة وبخاصة لدى النساء.
هذه الحقيقة التي جاءت على لسان برنامج ألماني عن الصحة وبرامج أخرى أميركية وأوروبية دفعت بالبعض إلى استبدال مقعد المرحاض بآخر ذي شطاف ذاتي أو مصاحب له، يؤكدها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة الغُسْل” الصادر نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة، والمتضمنة 139 مسألة شرعية وسبع عشرة تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر ومثلها للمعلق، أعقبهما الكرباسي بتمهيد مستفيض.
متلازمة النظافة والإيمان
كما ينشد الدين الطهارة الروحية لبني الإنسان عبر الإيمان بالله والتمسك بحبله المتين لعبور جسر الدنيا بأمان والفوز بالجنة والرضوان، فإنه ينشد الطهارة البدنية ليظل الإنسان في سلام مما تخفيه البيئة من فيروسات وجراثيم وأجسام خبيثة لا ترى بالعين المجردة، ولأهمية الطهارة المائية قرنها بالإيمان فقال الرسول (ص) وهو الصادق الأمين: (النظافة من الإيمان) وقال (ص): (الإسلام نظيف فتنظفوا)، فالنظافة القلبية والروحية من الإيمان ونظافة اللسان من قول السوء من الإيمان، ونظافة الحواس من التعدي على الحرمات من الإيمان، ونظافة البدن من الأوساخ والقاذورات من الإيمان، ولأن الإيمان لازم الملازمة ولصيق الإنسان في حلّه وترحاله وفي صبحه ومسائه، في الفرائض اليومية والنوافل الدورية، فإن النظافة ملازمة للإنسان منذ ولادته حتى مماته، ففي الولادة غُسْل وطهارة وعند الممات غُسْل وطهارة، وما بينهما أكثر من مائة غُسْل واجب ومستحب على مدار السنة ناهيك عن الغَسْل وطهارة الجوارح الظاهرة في أوقات الصلوات الخمسة.
والغَسل بالفتح والغُسل بالضم هو طهارة مائية، لكن الأول من حيث اللغة والإصطلاح هو عموم النظافة المائية وأما الثانية فهو خصوص الطهارة المائية ويعبر عنه بالإغتسال أو الغُسْل أي كما يقول الفقيه الكرباسي: (هو غَسل – بفتح العين- جميع البدن بالماء لرفع الخبث الأكبر قربة إلى تعالى).
ولأن الإسلام يريد خير البشر وفق منطوق قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) سورة الزلزلة: 7، فإن الطهارة البدنية المائية يُراد منها إسباغ الخير على الغاسل وكسب الصحة البدنية إلى جانب الأجر الأخروي، وإلا من حيث المؤدى المادي هو واحد وهو تحقق الطهارة لكن الفارق بين الإثنين كما يشير الفقيه الغديري في تعليقه: “هو القصد، وهو يعطي للعمل جهة معنوية مُقربة، وهو يوجب التغيير في الإسم من الغَسْل (بفتح الغَين) إلى الغُسْل (بضم الغين) وبسبب ذلك تتوجه إليه الأحكام الخاصّة والآداب المخصوصة”، كما أن: “الغَسل (بالفتح) لا يوجب الأجر والثواب بعكس الغُسْل (بالضم)، والغَسل لا يحتاج إلى موجب واما الغُسْل فيحتاج إليه، وبالغَسل يكون الإنسان نظيفًا وبالغُسْل يكون نظيفا وطاهرًا”.
والأغسال المسنونة على مدار السنة إلى جانب الواجبة كثيرة جدًا وكما يقول المحقق الكرباسي: (قدرناها بعدد أيام السنة تقريبا، وذلك لأننا لاحظنا بأنَّ عدد أغسال الجمعة في السنة 52 مرة، وغُسْل شهر كامل في رمضان، والتي في بعض الأيام يتضاعف، فهذه على أقل التقادير 30 غُسْلا، والمناسبات الإسلامية جميعها وردت فيها أغسال إلى غيرها مثل الزيارة وهي كثيرة)، وبالنسبة لكثير الطَّرْق ومقاربة الزوجة، فإن الأغسال عندهما كثيرة، وهي أغسال ذات طهارة بدنية ونفسية وروحية.
ويختلف غُسْل عن غُسْل من حيث العلة والسبب، فغُسْل الجنابة هو: (طهارة من الدنس والوسخ، وما يفرزه الجسم عبر منافذ الجلد- المسامات- من الخلايا الميتة) وهو واجب غيري لا تتم العبادة من صلاة وغيرها إلا به، وفي الأعياد فإن الغُسْل: (مزيد النظافة لدى الإختلاط مع الآخرين)، وغُسْل التوبة من الذنب: (طهارة من الدنس المعنوي)، وغُسْل يوم المبعث والمباهلة وغيرهما: (تكريم المناسبات)، وغُسْل دخول المسجد الحرام ومرقد الرسول (ص) هو: (تكريم الأماكن المقدسة).
ورغم تتعدد أسباب الغُسْل ولكنها في المحصلة النهائية طهارة بدنية ومعنوية متواصلة، فضلا عن طهارة الإستنجاء والإستبراء، وطهارة الوضوء للصلاة أو قراءة القرآن وغيرهما من الأعمال الواجبة والمستحبة التي تأخذ منحى العبادة، وبتعبير الفقيه الكرباسي، إننا: (في جميعها نصل إلى الغرض الأوفى وهو أنَّ الشريعة أرادت من الإنسان أن يكون على درجة عالية من النظافة والطهارة ليُعاشر مجتمعه وهو طيِّب الجسم بعيدًا عن الدرن والروائح الكريهة، ومن المعلوم أن الماء أنقى طهور للجسم).
ومثلما يود الزوج التقرب إلى زوجته وملامستها وهي على طهارة بدنية معطرة بأزكى الروائح كوردة متفتحة، فإن الزوجة لها الحق بالمثل بأن يكون الزوج على طهارة بدنية، وإذا سارت الأمور الأسرية على هذا المنوال فإن نتاج العلقة أولاد يستنون بسنة الوالدين في النظافة والطهارة، وكلما كان البيت أنقى وأصفى كلما كانت شياطين الجراثيم والفيروسات بعيدة عن أجوائه، لأنها كالذباب الذي يعيش على القاذورات، فذو الجناح نراه بالعين فنطرده بعيدا، وما لا ندركه نشعر به أذا أصابنا المرض، ولهذا جاءت التوصية النبوية بأن ترمى الزبالة خارج البيت مبكرًا لقطع الطريق أمام أي وكر للشياطين غير المرئية .
أكبر الطّهور
تتحقق الطهارة البدنية المصاحبة للعبادة والطهارة الروحية بالغُسْل والوضوء والتيمم، فالأولان فيهما الماء أصيل والثالث يتحقق بتربة الأرض، وفق الحديث النبوي الشريف: (جُعلت لي الأرض مسكنا وطهورا)، ويُعتبر الأول أفضل الطهارات وبتعبير الفقيه الكرباسي: (الغُسْل أكبر طهور في قبال الوضوء والتيمم، فإذا ما اغتسل الإنسان كفاه عن الوضوء)، وهو حكم شرعي مستل من حديث الإمام جعفر الصادق عندما سُئل عن الغُسْل أيكفي للوضوء، فقال: (أي وضوء أنقى من الغُسْل وأبلغ).
على أنَّ للغُسْل طريقتين:
أولاها: الغُسْل الإرتماسي: (أن يدخل في بِركة ماء أو غيرها مرة واحدة بشكل يغطي الماء كل جسمه في آن واحد، دون أن يكون جسمه لاصقًا بشيء).
ثانيهما: الغُسْل الترتيبي: (أن يوصل الماء إلى رأسه ورقبته أولاً، ثم يوصل الماء إلى جانبه الأيمن ثانيا، ثم يوصل الماء إلى جانبه الأيسر ثالثًا).
ولأهمية الطهارة البدنية والروحية بالغُسْل، فلابد من تحقيق الشروط التالية كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (أن يكون ما يُغتسل به ماءً. أن يكون الماء طاهرًا. أن يكون الماء مباحًا. أن يكون الماء بمقدار يكفيه لتمام الغُسْل. أن يكون الحصول على الماء ممكنًا إمكانًا عُرفيا. أن لا يكون استعمال الماء مضرًّا للجسم. أن لا يكون الوقت ضيقًا بحيث تفوته الصلاة إذا اغتسل، بل يجب عليه التيمم حينئذ. أن لا تكون الحاجة إلى الماء ضرورية في موارد أخرى، كما لو كان بحاجة إلى شرب الماء)، وغير ذلك من الأمور.
ولأن الأغسال طهارة لعبادة، لذا: (تجب نيّة القُربة إلى الله تعالى)، ولأنها عبادة: (إذا نوى أن لا يدفع أجرة غُسْله لصاحب الحمّام ويعلم أنه لا يرضى بذلك فإن غُسْله باطل، وكذا لو نوى بأن يدفع الأجرة من مال حرام أو ما شابه ذلك).
والأغسال الواجبة هي: (الجنابة، الحيض، النفاس، الإستحاضة، مسّ الميت، الميت، والنذر وأخواته- القسم والعهد).
والأغسال شبه الواجبة: (غُسْل يوم عرفة، غُسْل المولود، غُسْل من سعى لرؤية المصلوب بعد ثلاثة أيام، وغُسْل الإحرام).
وهناك الكثير من الأغسال المستحبة المرتبطة بالزمان والمكان والأفعال والأقوال، ومن تلك المرتبطة بالزمان: غُسْل يوم الجمعة، غُسْل العيدين، أغسال أشهر السنة وخاصة ربيع ورجب وشعبان ورمضان وهي كثيرة، غُسْل يوم الغدير، غُسْل يوم المباهلة، وغُسْل يوم التروية.
والمرتبطة بالمكان من قبيل: غُسْل دخول الحرم المكي والمسجد الحرام ودخول الكعبة ودخول مدينة الرسول والمسجد النبوي، والوقوف بعرفات، والمبيت بالمشعر الحرام.
ومن تلك المرتبطة بالأفعال: غُسْل مَن ترك صلاة كسوف الشمس عمدًا إذا كان الكسوف تامًّا، غُسْل التوبة من الذنب، غُسْل صلاة الحاجة، غُسْل صلاة الإستخارة، غُسْل المرأة التي تستعمل العطر لغير زوجها، غُسْل من شرب الخمر ونام مع السكر، غُسْل مسّ الميت بعد أن تم غُسْله، غُسْل السفر، غُسْل التنشيط للعبادة وبالأخص صلاة الليل، غُسْل الإستسقاء، غُسْل رؤية المعصوم في المنام، غُسْل قتل الوزغ، غُسْل معاودة الجُماع إذا تمّ الإنزال، وغيرها.
ومن الأغسال ذات العلاقة بالأقوال،: غُسْل تلاوة زيارة المعصومين، غُسْل المباهلة والملاعنة مع الآخر، وغيرها.
إلى جانب أغسال أخرى بعناوين مختلفة مثل: غُسْل صلاة الشكر، غُسْل صلاة الخوف من الظالم، غُسْل صلاة مَن ظَلم وفق الحديث الوارد عن الإمام جعفر الصادق (ع): (إذا ظلمت، فاغتسل وصلِّ ركعتين في موضع لا يحجبك عن السماء).
يلاحظ من مجموع هذه الأغسال وغيرها الكثير، أهمية الطهارة البدنية المائية، فكما يحيي ماء المطر الأرض الميتة ويزيل عنها سبخها وملوحتها فإن ماء الغُسْل يحيي الأبدان والأرواح، ويبعث في النفوس النشاط، ويقوي المناعة الذاتية من كل غائلة وجائحة وسانحة، إلا ما شاء الله.
الرأي الآخر للدراسات- لندن